مجادلة الذات والعالم معا في خيال ساخن لمحمد العشري

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عصام راسم

في روايته الأخيرة "خيال ساخن"، الصادرة عن "الدار العربية للعلوم" في بيروت، بالإشتراك مع "مدبولي" في القاهرة، و"منشورات الإختلاف" في الجزائر، يركّز محمد العشري على الفانتازيا والأسطورة الخاصة، في تقديم عالمه الروائي، بشيفراته ودلالته المختلفة، لكنه لا يهمل المكان بمسمياته الحقيقية وتفاصيله التاريخية. بل نستطيع القول إن ما هو فانتازي وأسطوري داخل النص، قائم على أسس وبنية تاريخية، أي أن المنطلقات الرئيسية داخل السرد، مبعثها الحقيقي هو تاريخ المكان الذي تدور فيه الحوادث والذي يتحرك في أنحائه أبطال الرواية. إنها مناقشة الذات تجاه ممتلكاتها المعرفية، وموروثاتها التقليدية، ابتداء من المكان والزمان وانتهاء بالأحاسيس والمشاعر والأفكار.

يحتفي الراوي بالمكان بشكل هامس، ويقدم من خلال السرد جانبا من تاريخ مدينة الفيوم بمعالمها ورموزها الحاضرة مثل: بحر يوسف، وادي الحيتان، بحيرة قارون، السواقي، أسطورة حتحور. وغيرها من أماكن تعكس تاريخ هذه المدينة العريقة. أيضا يقدم من خلال “الحكاية” تفسيرا تاريخيا لحواضر مدينة الفيوم، فنعرف مثلا لماذا سميت الفيوم بهذا الإسم، فحين أمر “عزيز مصر” في العصر الفرعوني يوسف الصديق بحفر بحر يوسف، وكان هذا المشروع الضخم يحتاج الى وقت طويل حتى يتم، إجتهد يوسف الصديق وبذل أقصى طاقته، إلى أن نجح في أن ينجز المشروع في وقت قصير جدا (استغرق شق البحر سبعين يوما فقط)، لذلك أطلق “العزيز” جملته التي صارت في ما بعد مسمى للمدينة. قال من شدة تعجبه لسرعة إتمام شق البحر الذي سمي باسم يوسف في ما بعد، أن هذا المشروع الكبير كان يحتاج الى “ألف يوم” حتى يتم انجازه. ومن هنا صارت هذه الجملة القصيرة “ألف يوم” مسمى رسميا للمكان، ولكن مع مرور الزمن تم دمج الكلمتين في كلمة واحدة فصارت “ألف يوم” هي “الفيوم” الحالية.

على مثل هذا المنوال التأويلي المتهادي في نسيج النص بغير كلفة أو نيات سابقة التجهيز، يقدم محمد العشري مدينته في كثير من المناحي، وبأسلوب واعٍ هامس يتماشى مع حدة الوقائع في عمله الفني. نكتشف في نهاية الأمر، أن كثيراً من الأشياء والأماكن، على المستويين العام والخاص، تتلامس معنا يوميا ونألفها ونعتادها، ولكن لقربها منا الى حد الالتصاق، لا نفطن الى المعنى الحقيقي لتلك الأمور المحيطة بنا، وفي الوقت نفسه الى هذين الاقتراب والالتصاق. فهو لا يمنحنا الوقت الكافي حتى نستطيع أن نفكر أو نبحث عن معنى أو تفسير منطقي تاريخي لتلك الأشياء التي نكاد أن نتنفسها من فرط استخدامنا الحميم لها. وينطبق هذا على المكان والزمان، والمواسم والاحتفالات والاعتقادات، وعلى المعاني واللغة أيضا. وهذا منحى من مناحي الرواية، فهي تحاول أن تتصادم مع ما هو ماثل وثابت كأمر واقع، لتعيد تفكيكه وفهمه وصوغ وعي جديد لهذا الأمر الواقع الذي كنا نعتقد سابقا أنه يكاد أن يكون حلا نهائيا يصعب الاقتراب منه أو مناقشته.

تحاول الرواية من خلال صناعة الفانتازيا والأسطورة الخاصة بها، أن تخترق الغلاف الفانتازي والأسطوري الرقيق الذي يحيط بمعطيات الواقع المعيش، وتحاول أيضا أن تقدم تفسيرا لبعض المعاني والمسميات التي قفزت إلينا عبر مسافات التاريخ البعيد وظلت بيننا من غير أن نتوقف أمامها لنفهمها أو نفسرها كما ينبغي. وكأنها تصنع الدواء من عناصر الداء ذاته. فهي تناقش ما هو خيالي في الواقع بأسلوبه، أي أنها تصنع الخيال الفني الفانتازي الموازي والمقابل لخيال الواقع الجامح أحيانا. وكذلك هي تجادل ما هو أسطوري، بأسطورتها الخاصة.

بنسق تفكيكي غير تقليدي يقدم العشري قصة حب رقيقية تجمع جمانة بساهر. وكما أن البطلين يعتديان على الظروف الصعبة التي تحاول أن تباعد بينهما وينجحان في نهاية الأمر في تحقيق ذلك، أيضا تعتدي الرواية على الأنساق الأسلوبية التقليدية، وتقترح خيارها الخاص في طريقة القص. عبر التقطيع والتجزيء، وعدم الاهتمام بمنطق السرد التقليدي، تكتمل ثنايا النص بهدوء ودعة، لنصل الى نهاية الرواية ونحن نشعر بإشباع، وبأننا كنا مشاركين في عملية البناء ولم نكن سلبيين ونحن نتلقى هذه القطع السردية المنثورة بغير تراتب زمني أو مكاني معتاد أو مألوف. نشعر كأننا شاركنا في صنع لوحة فنية، تعتمد على “الكولاج”.

ومن خلال لغة تمتاز بالدفء والشاعرية، يتصاعد حس صوفي عميق يغلف الأفكار التي يطرحها الراوي، ويدعم أفق التساؤل ومحاولة التفسير التي تشغل البطل. فقلب المحب الحائر ساهر، وعقله، نجدهما مشبّعين بحالة من البحث والتقصي والوجد والوصال، وكل تلك المشاعر والأفكار المشوبة ببعض الشجن، لا يخص بها محبوبته جمانة فقط، بل هو، يتجاوز هذا الشعور الفردي، ليصل الى آفاق أعمق وابعد، تعانق الحياة والكون بأسره. تعتبر العناوين الخاصة لبعض فصول الرواية دلالة وافية لهذه الحالة الشعورية المتصوفة التي تنساب في الأوصال وتتخذ مسميات مثل: الهيام، النافذة، العناق. لا يكمن إدراك الوجد الصوفي في الرواية تمام الإدراك من طريق اللغة فقط، وإنما يمكن العثور عليه والتواصل معه من خلال الرؤية العامة للنص والرموز التي تتناثر في مساحة السرد.

العنوان، “خيال ساخن”، يشكل مدخلا مهما للتواصل مع مستويات السرد المفتوح الذي ينتهجه الكاتب. فالسرد يمتطي الخيال الجامح ليكون إحدى “التيمات” الفنية الأساسية التي تطرح أفكار الرواية، وفي الوقت نفسه يقدم “عالما” هو في واقع الأمر بين الحقيقة والخيال، أو هو عالم فانتازي أسطوري يكاد أن يكون واقعيا وملموسا. وذلك يرجع إلى مهارة الراوي في مزج الواقعي بالخيالي، والقدرة على خلق أجواء وعلاقات رمزية تشتق دلالتها من هاتين التيمتين بدون أن يكون هناك خلل فني في البناء الدرامي الخاص بالنص. حكاية أو مجموعة من الحكايات يمكنك أن تصدقها، إن اعتمدت في أعماقك على خيالك الخاص، وعلى فانتازيا الواقع الذي ينتج في بعض الأحيان حكايات خيالية لا يكمن تصديقها أو قبولها بمنطق عقلي معتاد.

تعتبر الرواية بحوادثها وتوهماتها اتفاقا ضمنيا بين الراوي والقارئ، وهذا يعتمد في الأساس على أن هذه الكتابة تعتبر دعوة محفوفة بالمزالق التي إن لم يستعن فيها القارئ بـ”الخيال الساخن” فقد تنزلق من بين يديه أمور كثيرة داخل النص، ويضل طريقه في اجتياز الوقائع حتى النهاية. إذاً لا تعتبر الفانتازيا من الأدوات المهمة فقط، داخل الرواية، بل هي إحدى أدوات القارئ حين يدخل بين ضفتي هذا النص حتى يدافع عن نفسه ضد الغفلة، وضد الخروج من بين طبقات النص بغير طائل.

لطالما كان العمل الفني قطعة من الحياة المتخمة بالوقائع، والمثقلة بملهاتها ومأساتها معا. نقول إن عنصر الخيال يخرج من حدود النص الذي نحن في صدده، الى حدود قصوى، ليصبح مفتاحا أو أداة مهمة لفهم الواقع ذاته، الذي يمكننا أن ننجح في أعادة تشكيله والسيطرة عليه، إذا شحذنا “خيالنا” ووصلنا به إلى حدوده الساخنة الخلاّقة.

لو عدنا إلى تيمة الخيال بمعناها الفني داخل الرواية لوجدنا أن الصراع يقوم بين أمرين مثيرين. الأول هو النص الذي يقدم خيالا يحاول أن يكون مثبتا كواقع، والثاني هو القارئ الذي يدخل في حبائل النص ويتحول تدريجاً من الواقع الفعلي، إلى فانتازيا النص ويصبح أحد مكوّناته بعد أن يكون قد تعايش معه وصدّقه. لنقف في نهاية المطاف أمام نص يقدم مدلولاته على أساس أنها واقع حقيقي معيش، وقارئ يتعرى من معطيات الواقع الملموس، ويدخل إلى فانتازيا أسطورية النص، ويصبح أحد أهم عناصره المتممة لأركانه، لتنتفي العلاقة المجازية بين النص والقارئ لتتحول إلى علاقة تبادلية، يمنح فيها كل واحد منهما، صفاته للآخر.

ـــــــــــــــــــــــــ

روائي وناقد مصري

مقالات من نفس القسم