ناهد السيد
أسكن فى منطقة معلقة فى أهداب الرياح، الناصية الثانية من الجنة يمين، بالقرب من مفترق طرق مزدحم كطوابير الخبز فى الأحياء الشعبية.. أجسادهم تتلاحم وأنفاسهم تتأوه يلهثون للتسابق على الخطوة القادمة، ما إذا كانت تذهب بهم يمينا أو يسارا، يقف الحاجب على حافة صخرة من نور تعكس إشراقا على وجهه، فيتعذر تحديد ملامحه، وما أصعب أن تنظر إلى قطعة نور مطموسة الملامح، لا تستطيع قراءة الشفاه لتتوقع الأحرف القادمة قبل أن يصدرها فى صوت، لا تتمكن من مراقبة عينيه لترصد إشاراتها على من ستقع؟ وتعرف أنه التالى، ينادى المنادى بأفعال وليست أسماء، ويتقدم صاحب الفعل ليفضح فعله على الملأ وأمام الجميع الذين لا يراهم، فهو فى عجلة من أمره يهرول بقدميه باحثا عن الطريق المقدر له، عقله متشبثا بكتلة النور التى تخفض عينيه لأسفل رغما عنه، فيذوق عندئذ طلاوة الخشوع وصفاء الخجل ونقاء الاعتراف.. يقف مصغيا لفعلته التى يتردد صداها فى بوق صاخب، يظل لدقائق محاولا تفسير الكلمات التى تتلاحق ويلضم الأحرف التى يرتد صداها وتهرب مسرعة على الحرف التالى، يقبض على أذنيه أكثر وأكثر يخشى أن تمر العبارات دون أن يفسرها، فلا فرصة لتكرارها، كيف يسمعه الحاجب وسط هذا الصخب؟، وهو لا يمتلك بوقا ولا يقوى صوته على استئذانه لإعادة العبارة، لا حل سوى استراق السمع والاقتراب خطوة.. رغم خطورة ما سيلاقيه من غشاوة النظر وسحابة النور التى قد تمتصه داخلها فيتوه بلا رجعة، يقترب مضطرا فعمى البصر أفضل لديه الآن من اتخاذ خطوة مصيرية خاطئة، لابد له أن يفسر فعلته يستمع أى الأفعال التى اختارها الحاجب التى أهلته للوصول الى هنا، يسترجع خلال لحظات تردد الصوت فى صداه حرفا حرفا أى الأفعال تلك هل كانت كذا .. أم كذا؟
وتبدأ لحظاته الضوئية فى الاسترجاع .. لعلها فعله الكذب .. يالله! فما أكثرها فى حياتى، لا أظن أنها تحتسب فهى صغائر لم ترد فى الكتاب ويفعلها الجميع .. من المؤكد أنها الخيانة أعرف أنها جرم عظيم، لكنها سامحتنى بعدد مرات الخيانة التى خنتها؟ فلا تحتسب! يجوز أن يكون الإهمال فعلتى فلم أهتم يوما إلا بنفسى، وساعات ادعاءات كاذبة كنت أخشى فيها من البشر حولى أن ينعتونى بالأنانى .. أها يجوز! لعل فعلتى التخلى؟ كنت الأسرع فى تنفيض يدى من مسئولياتى، بل أنى كنت أحملها عن طيب خاطر كى أضعها على كتف احدهم ممن يطيق الحمل ويقوى عليه! لعل فعلتى السبب! .. لا لا لا أظنها فعلة، فالغباء البشرى كان يدفعنى لذلك مرغما، ولماذا لم تكن فعلتى الطيبة؟ لماذا أنا خائف إلى هذا الحد وأظن أن أفعالى جساما؟ قد تكون أفعالى صفات حسنة، فلدى من المحاسن ما لا أظهره إلا للغرباء كى أبدو وسيما، سويا معتدلا، كى أنال إعجابهم، فتنتابنى الخيلاء، آه ..كم أحب الغرور! وأنجذب نحو من يمدحنى، وعلى الفور أغمض عينى عن سواد قلبه وأصارع من أجله لكى أمنحه قيمة عظيمة، حتى لو اختلف عليه الجميع فهو فى نظرى جميل لأنه رأى ذاتى، لعل فعلتى أنى أرى، استضعف المتواضعي، وأهينهم، قد تكون فعلتى أنى مرضت زوجتى أياما كثيرة تلك التى زارها فيها أهلها وأصحابى لكى أبدو رائعا عكس ما تقوله عنى لهم، فأظن أنها تغتابنى معهم، آه.. لعل فعلتى ظنى! .. طوال الوقت أظن واعتقد وأبحث وأنقد وأقنن وأقدر وأزن الأمور، لعلى فعلتى أنى طففت ميزان أسرتى ولم أعدل فى مشاعرى بين أبنائى، وملت أكثر لصاحب الكلم الحلو الذى يدغدغ غرورى، لعل فعلتى هى آفتى .. النسيان .. نسيت أن أحضن ابنتى قبل النوم، وظننت أنها كبرت، نسيت أن اسألها عن عمرها كم أصبح الآن وكيف وصلت به لهذا الحد وأنا فى غفلة عنها، نسيت أن أدللها عندما تغضب، نسيت أن أعنفها حينما قالت أوف لأمها كى تتعلم وتصغى ولا يرتفع صوتها، نسيت أن أحفظ سرا بينى وبين ابنى وأعلمه الذكورة مخلوطة بالتقوى، نسيت أن ارتقى بمشاعر زوجتى وأتحمل توهانها عنى بين الأطباق ورائحة الطعام والعمل، نسيت أن أغفر لها تقصيرها تجاهى وأعاملها بالمثل كما غفرت لى كبواتى، نسيت أنها تقرأنى ككتاب الله وتطعمنى كأمى، وأميل ميلا عظيما على كتفها لـرتاح راحة لم أجدها من قبل ومن بعد، نسيت أن انسى أخطاءها وأحتسب لها الطيبات فقط، نسيت أن أتنازل عن راحتى.. نسيت أن أهدأ قليلا .. نسيت أن أصغى .. وها أنا اليوم أصغى مجبرا بلا تدريب مسبق، أصغى وكأن لى آذاناً جديدة نبتت للتو، أصغى ويملأ رأسى الضجيج من أناس يلهثون خلفى استعجالا لدورهم الذى لا أحسد عليه الآن، أقف مبلولا عاريا، وحيدا رغم تلاصق الأجساد بى، اشعر بالبرودة تنساب من بين أصابع قدمى، لا أرض أسفل منى، ليس مسموحا أن أهتز والرياح على مقربة منى، ماذا أفعل ؟ وكيف أعتذر؟ وكيف أكمم أفواه من حولى لكى يستمع إلي! الحاجب ويقبل منى اعتذارا أو يمنحنى فرصه أخرى؟ أظن لا مفر .. فقد نسيت أن أنصب لنفسى عزاء يليق بى وبأفعالى التى لم يتسنّ لى أن أقننها، عزائى الآن فى دموع أحبابى الذين إذا تذكروا أفعالى الطيبة ….خطوت خطوه ناحية النور لأتوه بداخله واختفى .. وأقف من الخلف على حافة اهداب الرياح، أتأمل حشودا تتلمس طريقها على مقربة من ناصية الجنة.