ممدوح رزق
في 2017 كتبت قصة قصيرة لم أنشرها حتى الآن، ولم يقرؤها سوى طلاب ورشتي القصصية كنموذج تطبيقي لأحد التمرينات التي أقوم بتدريسها.
تستند هذه القصة إلى صدفة واقعية لطيفة حدثت لي مع واحد من أصدقائي بالمقهى الذي تعوّدنا ارتياده، لكنني متأكد تمامًا من أن القصة لن تكون شيئًا لطيفًا على الإطلاق إذا ما اطلّع صديقي عليها، وهو ما أجبرني على تأجيل نشرها إلى هذه اللحظة. أعرف أن الأمر سوف يتسبب في إنهاء صداقتنا، وبالرغم من أنني أريد ذلك بالفعل إلا أنني لا أفضّل أن يكون بتلك الطريقة، أريد للنهاية أن تحدث بالكيفية التي تعوّدت استخدامها في قطع علاقاتي بالجميع: انقطاع مفاجئ، ودائم عن أشكال التواصل كافة، دون سبب واضح.
تدفعني هذه القصة طوال الوقت إلى التفكير في أنني كنت أتمنى لو لم تكن هذه الصداقة قد بدأت من الأساس، في حريتي اللامبالية المعهودة، الغائبة على نحو مؤقت تجاه هذا النص تحديدًا. في رجائي لو كنت أثناء هذه الصدفة الواقعية شخصًا آخر، غريبًا عن الصديقين اللذين يجلسان على طاولة مجاورة له في المقهى، ويراقب المشهد، ويتأمل أحداثه حتى نهايتها، متوحدًا بكل تفاصيله، ثم يعود إلى بيته ويكتب قصته القصيرة قبل أن ينشرها بصورة عفوية دونما انشغال بأثر سيئ سينجم عنها، تدفعني هذه القصة طوال الوقت إلى التفكير في أنني كنت أتمنى لو أن الحياة كلها كانت تحدث بهذا الشكل.
في لوحة “صقور الليل” لإدوارد هوبر لا يُعد الرجل الجالس بمفرده داخل المطعم مرئيًا، هو حاضر فقط بالنسبة لهوبر ولمُشاهد اللوحة، ولكنه غائب بالنسبة للرجل والمرأة الجالسين معًا، وكذلك للنادل.. اختفاء الرجل هو برهان وجود الشخصيات الأخرى في هذه اللحظة داخل هذا المكان.. تلصصه غير المكشوف على ما يحدث هو سر غيابه.. شخص غير متورط في رفقة، ولا يُظهر دليلًا على اهتمام بما يدور حوله، حتى أن إدوارد هوبر قد أخفى وجهه كأنما يمنحه هوية مخبر سري، تمنع المُشاهد من التيقن حول أي انطباع يخصه، وكأن هذا المُشاهد لو عدّل وضعيته وتبادل مكانه مع الرجل الآخر والمرأة أو النادل سيكتشف حينئذ أن هذا الرجل ليس مُشاركًا في الظهور داخل المشهد، ولهذا فهو الذي قام بتكوينه، هو الذي خلق عناصره وعلاقاته بواسطة التأكيد المعلن والماكر على انفصاله عن الواقع في هذا الحيز الصغير، أي بواسطة اختفائه، الاختفاء الذي لا يتيح له أن يشكّل ذخيرته فحسب، بل أن يحصّنها أيضاً من انتباه الآخرين.
أتذكر الآن كلمات “جيمس فري” حول عدم اهتمامه ككاتب بآراء الناس، وبأرقام المبيعات، وبعدد الحضور في أمسياته، وبسعيه فقط لـ (كتابة ما يزحزح العالم ويضع الناس في الفوضى)، كلمات يمكن أن يكتبها كتّاب كثيرون، ولكنني حينما أفكر فيها لن يمكنني التغاضي عما يسبق “عدم الاهتمام”.. أتحدث عن المسافة الفاصلة بين النص/ الكتاب، والقارئ .. الطريق الذي يتحتم أن تقطعه تلك الكتابة التي “تزحزح العالم”.. التي لن ترسم “الفوضى” فقط ملامح ما سيتعيّن عليها مجابهته. الاهتمام الذي ستُجبر عليه إذا أردت لما كتبته أن يعبر بطريقة عادية مما تعتبره مخبأً طفوليًا إلى حيث يتواجد “الناس”.. الطريق الممتلئ بالمحررين والناشرين؛ إذ أن الكتابة في حد ذاتها لن تمثّل إلا جانبًا من صفقة تتداخل فيها كل العوامل “غير النصّية” التي لا يصدّق البعض مدى تأثيرها، أو مجرد وجودها في تلك المسافة الفاصلة. لا يتعلق الأمر بلجلجتك التي سيسمعها الآخر عبر الهاتف، أو بارتباكك الذي سيبدو عاريًا تمامًا حينما يلتقيك وحسب، بل كذلك بالحد الأدنى من هذه الضرورة، وهي اضطرارك إلى تمرير كتابتك إلى ممثلين لفضاء “ثقافي” لا تعتبر نفسك واحدًا من أبنائه.. إلى وكلاء نموذجيين لـ “وضع أدبي” معاصر أنجبتهم مراكمة تاريخية لطالما كانت محل سخريتك.. هذا ما يجعل امتنانك لكل ما هو استثنائي، منفلت من هذه الطبيعة المتجذرة، يندرج في نطاق الاضطراب الشخصي، غير المفهوم، الذي تصافح به الجميع حينما تتحرك خطوات نادرة خارج مخبأك.