د. محمد سمير عبد السلام
“عين سحرية” مجموعة قصصية حديثة للروائية المصرية المبدعة مي التلمساني؛ صدرت عن الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة سنة 2017، وتواصل مي التلمساني مشروعها السردي التجريبي الذي يمزج بين عوالم الفن، وآثاره، والصور، والذكريات، و أخيلة اليقظة، والأحلام؛ فضلا عن إعادة اكتشاف الفضاء، وصيرورته، وحياته الطيفية التصويرية الأخرى الكامنة في عوالم الوعي، واللاوعي؛ وقد تتداخل شخصيات مي التلمساني مع الشخصيات الفنية المستمدة من الأدب، أو من السينما وفق خطاب سردي تفسيري، يرتكز أحيانا على التبئير الخارجي وفق تعبير جيرار جينيت؛ ويؤسس – هذا الخطاب السردي في عين سحرية – للمزج بين المنظور السينمائي في استعادة بعض المشاهد السينمائية – في بكارتها الأولى – من جهة، واختلاطها بأداء إبداعي سردي تفسيري، وإكمالي من جهة أخرى؛ ومن ثم يحيا المشهد في تجلياته الممكنة في وعي الساردة، وخطابها المنتج للمشهد، ولأطيافه التصويرية التأويلية التي تنبثق من داخل منظور الكاميرا، وشعرية السرد، وصيرورته، ومقولاته المكملة التي تنطوي على دائرية المشهد، وحياته الفنية المغايرة في العالم الداخلي للساردة؛ ويمكننا أن نكشف – من داخل تحليل الخطاب – هذه العلاقة بين فعلي الاستعادة، والتأويل التصويري المتجدد للمشهد، واتصاله بمقولات ثقافية، ووجودية تؤكد امتداده الزمنى المحتمل في بنية الحضور.
إن ساردة مي التلمساني تستعيد الصور، والمشاهد، والأطياف من تاريخ الفن، ومن الذكريات؛ لتكشف عن الاتصال الجمالي العابر للحدود الزمكانية من جهة، ولتقاوم بنية الغياب المحتملة في بنى الشخصيات، والأماكن، والفضاءات من جهة أخرى؛ وتذكرنا بالحياة التصويرية لأعمال الفن في فكر أندريه مالرو في مذكراته المضادة، وفي أصوات الصمت؛ ولكن الخطاب السردي في عين سحرية يوثق لبكارة حدوث الحدث الجمالي؛ ليوحي بامتداده وحياته الطيفية الأخرى المتجاوزة للنهايات، ومن داخل المنظور السينمائي الذي ينطوي على التعقيد بين استعادة الآخر / المخرج، وتعليقات الساردة، ومنظورها التنقيحي / التفسيري للمشهد عبر علاقات الاستبدال، والإكمال، والتخييل، والإعلاء من الهامشي.
إن الشخصيات الفنية، والفضاءات قد تحيا من داخل أخيلة الساردة الإبداعية الأنثوية؛ فالأب يقاوم بنية الغياب من داخل استعادة الساردة لشخصية كارمن، وتمثيلاتها الجمالية الأخرى عبر صوت ماريا كالاس مثلا، وتستعيد شخصية ميكي روائح هليوبوليس الأولى من خلال استعادة الأطياف الأدبية لشخصية أنتيجون بين سوفوكليس، وجان أنوي، ويحيا المنزل العتيق من داخل أصواته، وذاكرته في أخيلة البطلة، وفي خطاب الساردة التأملي للفضاء؛ والذي يذكرنا بمفهوم الأنيما، أو التأملات الأنثوية الشاردة لدى باشلار في شاعرية أحلام اليقظة.
تشير عتبة عنوان المجموعة / عين سحرية – إذا – إلى عين الكاميرا التي تسجل، وتوثق من جهة، وتستعاد في سياقات تصويرية / سردية ممتدة عبر أشكال نسبية من الخطاب من جهة أخرى؛ إنها عين سحرية؛ لأنها توثق للتكوينات الجمالية الفيزيقية المستعادة، وللأطياف الكامنة في فضاء المشهد نفسه، وفيما وراء الواقع أيضا.
*منظور الكاميرا بين التسجيل، وخطاب الساردة التأويلي:
تستعيد الساردة – في عين سحرية – وهج الحدوث الأول للمشهد السينمائي، وتمزج بين تخييل رؤية الآخر / المخرج، وتصوره للمشهد، ومقولاتها الخطابية التأويلية التي تتخذ من عين الكاميرا نفسها مدخلا للقراءة، والتنقيح، والإنتاجية الإبداعية التصويرية النسبية للمشهد، وإظهار حياته الفنية الأخرى المحتملة في عالمها الداخلي.
ينطوي السرد في عين سحرية لمي التلمساني – إذا – على التبئير الخارجي الذي يشبه منظور الكاميرا لدى جينيت؛ ويذكرنا بعوالم جرييه، وساروت، وكلود سيمون؛ وإن لم يتخل خطاب ساردة مي التلمساني تماما عن عمل الوعي، وإن جاء تفسيريا، وإكماليا؛ ومن ثم فهو يتعلق – بدرجة كبيرة – على منظور الكاميرا، أو على التبئير الخارجي؛ وبخاصة في قصتي تسلل منظم، وشرع المحبين.
وقد قدم آلان روب جرييه الشخصية طبقا لمنظور السارد الذي يعكسها من الخارج، ولا يستبطنها من الداخل، ولكنه يقوم بتخييل منظور الشخصية طبقا لموقعها الرؤيوي النسبي؛ ففي نصه المعنون ب الاتجاه الخاطئ ضمن مجموعة لقطات يتجلى الرجل / الشخصية الفنية بصورة ظاهرية في الوعي، ويسجل السارد حركة الشخصية من داخل موقعه النسبي، ثم يقوم بتخييل منظور الشخصية من خلال انعكاس العالم طبقا لموقعها المختلف؛ فالرجل يرى – من موقعه – الامتزاج الجزئي بين جذوع الأشجار، وظلالها، بينما يمنعه ضوء الشمس من معاينة الأشياء بوضوح كامل، ويرجح السارد أن الرجل قد غير مساره لأنه ربما كان قد سار في اتجاه خاطئ، دون أن يؤكد ذلك، ثم يعاين فراغ المشهد النسبي من الرجل مرة أخرى.
(Read, Alain Robbe Grillet, Snapshots, Translated by Bruse Morristtle, Northwestern University Press, p.15).
يرتكز السارد – عند جرييه إذا – على جماليات انعكاس الشخوص، والأشياء كما تتجلى عبر نسبية المنظور الخارجي وتكويناته الانعكاسية المعقدة التي تنتج علاقات جمالية احتمالية بين التشكيلات، والعلامات، ودلالاتها التفسيرية الترجيحية المتباينة؛ وتقوم ساردة مي التلمساني بالالتزام إزاء عين الكاميرا، ولكنها تقوم بتقديم خطاب سردي تنقيحي للمشهد من داخله؛ ومن ثم تؤكد حياته الاحتمالية الأخرى المتجددة عبر تجليه الجمالي في الوعي.
تقوم الساردة باستعادة مشهدين يجسد فيهما الفنان عبد الحليم حافظ شخصيتين متعارضتين؛ تعاين الأولى تجربة المرض في فيلم حكاية حب، والأخرى تحتفي بالبهجة، والحياة في فيلم أبي فوق الشجرة.
وتنتخب الساردة – في خطابها – سير الفنان وحيدا على الشاطئ في حكاية حب، وتسير مع الكاميرا؛ لتعيد إنتاج اللقطة السينمائية في الموضوع التفسيري في خطابها السردي التأويلي؛ وهو تفكير شخصية الفنان في العودة؛ ليعمق الأثر في الرمال؛ وكأن خطاب الساردة يرصد مراوحة اللقطة بين الغياب، وحضور المغني؛ ليقاوم بنية الغياب من داخل العلاقة الجمالية المحتملة بين الأثر في الرمال، والنزوع الغنائي الذي يذكرنا بأورفيوس، وقراءة إيهاب حسن ما بعد الحداثية التي تمزج غناءه بالصمت، والفراغ.
وتقوم ساردة مي التلمساني بتوصيف لقطة البهجة في لقطة أغنية دقوا الشماسي من فيلم أبي فوق الشجرة؛ لتكشف عن التعارض البنائي الداخلي / ما بعد الحداثي بين اللقطتين في خطابها التفسيري، ثم تمزج بين اللقطتين عبر الأطياف التي تولدت عنهما في نوع من الاستبدال بمفهومه التفكيكي الذي يقع بين اللقطة، وفضائها الجمالي ما بعد الواقعي؛ تقول:
“بعد قليل، يدعونه ليأخذ مكانه في المشهد. يستجيب بحيوية مفرطة، بالقدر الذي يكفي لبعث الحماس في نفوسهم … تتابعه الكاميرا أكثر من مرة، وهو يعيد تمثيل البهجة تحت طوفان الشماسي، وهو يتقدم الراقصين الذين ينصبونه زعيما على شاطئ قفر”. ص 10.
يمزج الخطاب هنا بين الإعلاء من البهجة التي تتجلى في ثيمات الرقص، والحيوية، والاحتفاء بالحياة من جهة، وإمكانية السخرية من بنيتها في المشهد من داخل منضور الكاميرا نفسه في توصيف الشاطئ بأنه قفر؛ وكأن البهجة تقبل التأجيل في المشهد؛ وتؤكد ذلك المنظور عبر إنتاجية الخطاب لطيف العندليب التمثيلي، والواقعي في آن، والذي يلج اللقطة بصورة سردية تتجاوز الانفصال بين الفن، والحياة؛ تقول:
“بين لقطة وأخرى، يحلق طائر العندليب ملقيا بظله القديم على المشهد. يغرد بصوت شجي عن الجرح الذي كان أطول من الأيام”. ص 10.
تؤكد الساردة – في خطابها – التعارض الداخلي ما بعد الحداثي بين متواليتي البهجة، والغياب عبر الحضور الاستعاري للعندليب، والصوت المغني المتجاوز لبنية الغياب، والممثل لها في حضور البهجة المؤجلة أيضا.
وتقوم الساردة بوظائف الإكمال الإبداعي، والتعليق، والإعلاء من الهامشي في اللقطة السينمائية في نص شرع المحبين؛ إذ تستعيد فيلم دعاء الكروان؛ وتعلي من الهامشي / شخصية هنادي في خطابها السردي ما بعد الحداثي الذي قد يحتل الهامشي فيه موقع المركز؛ ومن ثم تقوم بإكمال المشهد عبر الإضافة لفضاء اللقطة، وتخييلها الشعري الأنثوي لشبح هنادي بين النخلتين؛ وكأن شبح هنادي يستبدل الفراغ، أو صورة الكروان في آليات التلقي الإبداعي المعقدة؛ وتسهب الساردة في مقاومتها لهامشية هنادي، واستبدالاتها الممكنة، وتعلق على اللقطة عقب سيرها مع حدود الكاميرا، ومنظورها العاكس؛ وهو ما يؤكد الخطاب السردي التجريبي المتجاوز للمركز في مجموعة مي التلمساني؛ تقول:
“نسيها بركات، وسينساها الناس في غمرة انسياقهم وراء حكاية آمنة، والمهندس. واكتفى الجميع بحضور الكروان بديلا عن غيابها. هكذا قرر الكروان، وهو يحط على قبر فوق التل بين نخلتين عاليتين أن الخطيئة ستكون من نصيبها، والتكفير عنها من نصيب المهندس”. ص 17.
يرتكز الخطاب هنا على النزوع الشعري النسوي في تفسير اللقطة، وتخييل منظور هنادي الأنثوي في قراءة الحدث، وتؤكد الساردة آلية الاستبدال في توليد صور الفراغ، والكروان، وشبح هنادي من فضاء اللقطة التي تقاوم الموت، والغياب في وعي، ولاوعي الساردة، وتبدو تعليقات الساردة في مقولاتها الفلسفية الخطابية عن ثيمات الخطيئة، والتكفير، والعلاقة بين بنيتي الحضور، والغياب بين لقطة بركات، وأخيلتها الأنثوية.
*لامركزية السرد:
تتداخل الأصوات، والحالات النسبية للشخصيات، والأزمنة، والأماكن، والذكريات مع تاريخ الفن، وشخصياته، وامتدادها في نسيج المشهد السردي، ومتوالياته التي تنطوي على مقاومة للمركز، أو تفكيكه من خلال هذه التدلاخلات، واحتفاء النص بتعددية القوى الفنية، وطبقات الصوت المتعلقة بالشخصية، وحضورها النسبي الملتبس في النص؛ وهو ما يؤكد السخرية ما بعد الحداثية من المركز من جهة؛ والتطور العلاماتي المتجاوز لبنى النص، والشخصية، والمدلول من جهة أخرى.
تحاول الساردة استعادة الحالات النسبية، والصور، والأطياف، والذكريات، والروائح في نصها القصصي التعددي استعادة هليوبوليس؛ فهي تبحث عن روائح المكان، وذاكرته، وأصواته الخاصة، وتبدو الروائح – في أحلام اليقظة – مماثلة للمياه؛ وتذكرنا بقوة الأنيما الأنثوية في تصور باشلار، ثم تنتقل من تذكرها لدراسة شخصية أنتيجون، وارتباطها بروائح المكان إلى رائحة الغياب، والموت في مأساتها كما صورها جان أنوي، ثم تستعيد لقطات من الفيلم، وتمزج بين الموت الذي يكتسب رائحة العطر، ومتوالية الغياب؛ وكأنها تحتفي بغياب أنتيجوني المؤجل في حياتها الفنية الخاصة خارج بنية الحكاية، وفي انبعاثها المتجدد في طرائق كتابتها الأخرى بعد سوفوكليس، وفي تحولاتها السينمائية، وفي حضورها الآخر في المكان / هليوبوليس، وذاكرته؛ تحيا أصوات الماضي، وتحولاتها – إذا – في بنية المكان التعددية، وفي وعي الساردة، وفي ذلك التنازع البنائي الداخلي بين روائح الموت، والحياة، والحياة الطيفية المستمدة من تاريخ الفن.
وتومئ الساردة إلى ولع البطلة / ميكي بلصق الجوارب، وبترميم الفخار، وبمادة الطين، ولصق شرائط الكاسيت المقطوعة؛ وكأنها تعاين قوتي التفكك، والنشوء الأول للحياة في اللاوعي، وتذكرنا بحديث فرويد عن العضوي، واللاعضوي في غريزتي الموت، والحياة في تصوره؛ إن ميكي تبحث عن بلاغة التناغم الجمالي في الأشياء الصغيرة، وحضورها الأنثوي الآخر في الوعي.
وتتداخل لحظات صمت الأب، ومعاينته للنهايات بتجدد حياة الفن، ولعبها خارج البنية الزمكانية للنص في قصة في انتظار أن يموت أبي؛ وتذكرنا الساردة هنا بعوالم بيكيت، وكامو، وسارتر العبثية في صخب النهايات المحتملة، بينما نجد طيف كارمن يستعاد في لحظة موتها الفنية التي تبدو مفككة لمركزية بنيتي الغياب، والصمت؛ فهي تشير أيضا – في وعي الساردة – إلى قوى تجدد الخصوبة، والحياة، وانبعاث شخصيات الفن الذي يؤجل مركزية بنية صمت الأب في النص.
*أخيلة الفضاء، وحياته الأخرى:
يحيا الفضاء – في خطاب ساردة مي التلمساني – في مجال جمالي مواز لحضوره الفيزيقي، ويقترن بالأخيلة الأنثوية، والبحث عن أصالة الفضاء، وصخبه الخاص الخفي، وتنازع القوى بداخله؛ فثمة تنازع ثقافي، وجمالي، وفكري فيما وراء بنية فضاء المدرسة في نص الوجه الآخر؛ فالبطلة تبحث عن خصوصية تشكيل الذات، والملابس التي تجسد أناقة الروح بينما يبحث المدير عن القولبة والنمط المهيمن؛ وتبدو البطلة أقرب لروح الأصالة الخفية في ملامح المكان؛ وتتنازع بنيتا الفراغ، وانتشار الأطياف، والأصوات الطيفية الخاصة في المكان في نص بيت يبحث عن سكن؛ فالبطلة تحاول توثيق جماليات المنازل العريقة، ومدى مقاومتها للغياب من داخل الأثر الجمالي للحيوات السابقة بينما يبدو منطق التبادل النفعي مهيمنا، ومؤجلا في آن، إذ يحيا الفضاء في أخيلة البطلة الأنثوية، وفي اللقطات الفنية للكاميرا من منظور وعيها المبدع، وبحثها عن الوجود الآخر لآثار الفضاء الجمالية في تكرارها الدائري، وتحولاتها المحتملة.