جمال القصاص
تستعير الكاتبة المصرية: “مي التلمساني” في روايتها الجديدة «أكابيلا» الصادرة حديثا عن دار «شرقيات» بالقاهرة أجواء فن «الأكابيلا»، وهو فن تراثي قديم استخدم دينيا في الكنائس والمعابد اليهودية ثم امتد إلى الإسلام، ويعني الغناء أو الإنشاد المنفرد من دون مصاحبة أي آلات موسيقية، واعتمادا على الأصوات الطبيعية للمؤدين. على هذه الطريقة وبدرجات نغمية متفاوتة توزع الكاتبة اللحن الأساسي في الرواية على أبطالها، وهم صحبة من الأصدقاء، يجمعهم مشترك إنساني، يتسم بغلالة من الألفة والحميمية. بينما تتجاذب «عايدة» و«ماهي»، الصديقتان المتضادتان، محور إيقاع اللحن، في تراسلات ومناورات سردية تكشف عن صراع رغبات مثقل بمساحات من القلق والتوتر العاطفي والضجر من الواقع والحياة، يعيشه أبطال الرواية، كل على طريقته الخاصة.
تمسك بطلتا الرواية بخيوط اللحن وكأنه زمن هارب يتشكل فيما وراء اللحظات والمفارقات الحياتية العابرة.. فعلى عكس “ماهي” المحافظة على الإرث التقليدي للعائلة المكونة من زوج مسالم وطفل، تفشل عايدة، الرسامة الشابة المتحررة، في أسر الأعراف والتقاليد في تجربة الزواج والاستقرار العائلي، وإمعانا في التحرر تترك طفلها في كنف والده، لتواجه العالم عارية إلا من جاذبيتها وأنوثتها الخاصة، لكن كل هذا لا يمنحها الثقة بذاتها وبالحياة التي تتسع وتضيق كل يوم. فتظل تحلق كالفراشة على الحافة، بحثا عن لهب خاص في مرايا الحب والجنس، لكنها تسقط بشكل مباغت مودعة الحياة في منتصف الشوط، تاركة ذكرياتها وحكاياتها وظلالها ودفاتر يومياتها تشد اللحن إلى ذروته الدرامية. فبموت عايدة تنفتح صورتها بشكل أكبر في المرآة، وتتعدد وتتقاطع مع صور أخرى لـ “ماهي” رسمتها عايدة لها، وكشفت فيها عن جوانب صادمة وخفية في حياتها الشخصية. لذلك تمنح ماهي لنفسها حق الشطب والتعديل في اليوميات، لتستقيم العلاقة بين اللحن في رقته وانضباطه المنفرد، وقوته الصاعدة في حركة الكتلة أو النشيد الجماعي لمجموعة الأصدقاء.
ولأن صراع الرغبات هو برأيي صراع حالة تظل مشدودة إلى الداخل ومسكونة به دوما، وليس صراع موضوع أو فكرة تنتظر إجابة أو رد فعل من الخارج، تستبدل مي التلمساني في هذه الرواية بلعبة القناع لعبة المرايا، خاصة أن اللعبة الأولى قد اختبرتها بمهارة وتجلت على نحو لافت في روايتها السابقة «هليوبليس»، حيث كان الحكي يتم من وراء قناع عروسة «الماريونت» كوسيط ومقوم فني ومحور لحركة السرد وإدارة الصراع. وعلى العكس، ففي «أكابيلا» نحن أمام مجموعة متجاورة من المرايا تتقاطع وتشتبك بعضها بعضا بحثا عن نقطة جذب، تخرجها من متاهة المرآة، بينما تكتسب المرآة وظيفة حامل المصائر والأدلة، أو حارس الرغبات والأسرار لوجوه تتخفى في ظلالها.
تتناهى هذه المرايا السردية في الكبر والصغر، بحسب طبيعة الأحداث، وطبيعة الشخوص، ولكي تحتفظ الكاتبة بحيوية تداخل حركة الشخوص وشفافية أبعادها المتجاورة والمتباعدة، ترفد شكل الكتابة ببنية روائية تعتمد على فكرة «تسطيح» الزمن، وتخليصه من أبعاده الثلاثية التقليدية. وبهذه الاستعارة العفوية من إرث الفن التشكيلي تُدخل الرواية الزمن كطاقة فاعلة في صراع الرغبات، كما تحوله في طيات لعبة السرد إلى مؤشرات ضوئية متعددة ومتباينة، تبدو خاطفة أحيانا، ومكثفة أحيانا أخرى، لكنها في الحالين تعمل على كسر أحادية السرد، مشكلة غلالة شفيفة للمناخ العاطفي والانفعالي الذي تتحرك فيه الشخوص، وتومئ إلى حالتهم النفسية اللاواعية للتغيير، ومن ثم، تبدو الشخوص وكأنها تخترق بعضها بعضا، أو يتلصص بعضها على الآخر بعين راوٍ ماكر يقف دائما خلف المرآة.
يتضافر مع فكرة تسطيح الزمن ويعضدها، في الوقت نفسه، التمويه الشكلي على المكان، وتخليصه من ثقل المركز، ومفهوم الكتلة أو المنظور المحدد، فعلى مدار الرواية نحن أمام شذرات وعلامات متناثرة على المكان: شقة، بيت، سوبر ماركت، عيادة، شاليه، مقهى.. وغيرها من المفردات، لكن لا نعرف تحديدا في أي فضاء مكاني تدور الرواية، في أي مدينة، في أي قرية، في أي بلد، حتى إن الماهية المصرية للشخوص، أحيانا تبدو مشرَّبة برياح أجنبية، ربما بحكم السفر والإقامة، وربما بحكم الثقافة. وقد أتاح التخلص من مركزية المكان الحرية للشخوص لأن تتنقل وتتقاطع وتتجاور بعفوية في نسيج الرواية، وفي إيقاع متنوع الحركة رأسيا وأفقيا وفي شتى الاتجاهات.. فهكذا لا تتعامل الرواية مع المكان كجغرافيا مؤطرة المعالم، وإنما كحالة مفتوحة على تحولات الزمن والشخوص معا.. في ظل هذا التمويه تستعيد الراوية صورة عايدة بطلتها قائلة: «اليوم أتأملها بعين الخيال، فلا أكاد أصدق أن هذه الفتاة النحيلة التي تعشق الأوبرا وتتحدث الإنجليزية بطلاقة هي ابنة قرية في الجنوب لا يظهر اسمها على الخرائط». وحين تحدد معالم هذه القرية تسرد الكلام على لسان عايدة كما دونته في يومياتها: «ولدت في قرية صغيرة، تغفو كل مغيب عند سفح جبل عتيق، يرهبه الناس كلما تعاركت على قمته الرياح ويحنقون عليه كلما رست عند سفحه الأتربة. غادرت القرية إلى المدينة، مثلي مثل مئات غيري غادرتها بلا رجعة. كنت أتحسس الخطى على طريق الحرية، يراودني حلم الفن والمعرفة، أما الآن فقد أصبح الشك في إمكانية البقاء هنا إلى الأبد أمرا حتميا. لا أعرف ما الذي فسد، ولا كيف تسلل الإحباط على نفسي، ولا أستطيع أن أخمن كيف ستكون النهاية لكن فضولي يدفعني إلى الانتظار».
ومن ثم يمكن أن ننظر إلى بطلتي الرواية الأساسيتين عايدة وماهي. عايدة، تعرف كيف تكون ولا تكون، كيف تخرج وتدخل في عمق المرآة ببساطة وعفوية، وتحولها إلى أيقونة خاصة، تنحل فيها الفواصل والعقد السميكة في الزمن والأشياء. في المقابل تريد ماهي أن تكون ولا تكون في الوقت نفسه. لذلك تقف بجسدها على الحواف والعتبات، وتترك لروحها حرية التلصص على الداخل من الثقوب والفجوات.
زمن عايدة سائب، مفتوح على تخوم البدايات والنهايات معا؛ لا يكترث بحسابات المنطق والعادة والمألوف. وعلى العكس زمن ماهي، يكاد يكون هو زمن «الوشك»، فهي دائما على وشك المغامرة، على وشك أن تصل إلى مائها الخاص، على وشك أن تتحرر، أن تكسر قفص الأعراف والعادات والتقاليد والحياة الأسرية الرتيبة، لكنها تحت مظان هذه «الوشكية»، تظل تراوح مهمتها في ضبط العلاقة بين الإناء وما يحتويه؛ وفي الوقت نفسه، تراكم رغبات وحيوات مؤجلة ومقموعة. على الرغم من أنها تكره البينية، تضجر من برودة منطقة الوسط والوقوف في البين بين.
خارج هذه العلاقة تتراءى «عايدة» بنزقها وحيويتها ومرآتها الخاطفة التي تنعكس عليها كل المرايا الأخرى وكأنها زمن ماهي الهارب المنسي، الذي تتحسسه في مسامها وتحت جلدها، ويؤرقها في حلمها وذاكرتها. وتدمن من أجل الإمساك به الوقوف على حافة عايدة، متناسية أن الوقوف على الحافة ليس بديلا عن الوقوع فيها. وهو ما يتجلي في خاتمة الرواية، ففي شقة عايدة، التي اشترتها ماهي بعد موتها، تتوحد مع صورة صديقتها، وتشم روائحها في كل مفردات المكان.
هكذا، على مدار الرواية تعيش ماهي زمن عايدة، تتأمله وتترصد لحظات صعوده وهبوطه، وتروي عنه من وراء مرآتها الصغيرة المبتورة، بل تتمنى في أحيان كثيرة أن تذوب في ظلاله. لأنه زمن استثنائي بالنسبة لها، لا حواجز فيه بين مشاغل الجسد والروح. يحمل في طيات عبثيته وفوضاه ونزق وجوده، خبرة عميقة من الحب والألم، ومعنى أن تلمس وتقطف الأشياء في لحظة النشوة الأولى.
وعلى الرغم من أن شخصية “ماهي” تبدو على النقيض من شخصية عايدة، فإن الرواية وبمهارة فنية فائقة، وربما بالتوازي مع حالة «الوشكية» السالفة الذكر تسحب لعبة السرد بكل مدها وجزرها إلى منطقة أسميها وبلغة المنطق «تحت التضاد»، محافظة بذلك على شفافية التوتر الدرامي لسقف النص، فنحن أمام شخوص تختلف وتتفق، تحب وتكره، تفترق وتلتقي، تتصالح وتتعارض، تتنافر وتتجاذب، لكنها ليست في حالة تناقض أو صراع بالمعنى المألوف، وإنما دائما في حالة تعايش هي أشبه بالتضاد.