محمود قرني صاحب الكبرياء.. رحيل مهيب بعد حرب الألف يوم

محمود القرني والشيخة مي آل خليفة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

سعد القرش

في بداية الثمانينيات نال الشاب محمود قرني أول مكافأة عن قصيدة منشورة. أرسلها من الفيوم، ثم جاء إلى القاهرة ليتأكد له أن الشعر أسمى من الكلام، وأن للقصيدة عائدا أكبر من مكافأة مادية تكفي غداء معقولا، وشراء رصّة كتب من مكتبة مدبولي، والعودة إلى الفيوم. لم يتنازل عن رهانه على أن الشعر بعضٌ من نبوة، وأن الشاعر ليس ناظما، وإنما هو باحث عن الجوهر، جوهر الفن وجوهر الحياة، أيّا كان شكل الشعر. وبعد البدايات، بدأت معاركه الخاصة والعامة. الخاصة وهو يجرّب شكلا مختلفا للقصيدة، والعامة دفاعا عن الشعر ضد من يرون أنفسهم أولياء أمور الشعر، فيفرضون الوصاية على الشعر والشعراء.
ما لم يتوقعه محمود قرني أن هناك حربا أخرى سيطول أمدها، إنها حرب الألف يوم. بدأت قبيل التقاعد، وتراوحت المعارك بين انتصار صغير، وهدنة مرواغة، ووعد بنجاح جراحة كان مقدرا أن تتم في بدايات يوليو 2023. راهن على الأمل، وكذّب خبرته مع معارك خاسرة، خذله فيها أصدقاء. في 2011 استقال من عضوية مجلس أمناء بيت الشعر؛ لأن أعضاء المجلس رشحوا أنفسهم لجوائز الدولة. الأمناء مؤتمنون، حكماء وقضاة يرشحون غيرهم ممن يرونهم أهلا للجوائز، والقاضي لا يحكم في قضية هو أحد أطرافها. طلب محمود التصويت على اقتراحه/اعتراضه فخذلوه، وخضعوا لكبار صغار تغويهم الجوائز ولا يشبعون. ربحوا جوائز مسمومة، ومحمود كسب نفسه.
ترفع محمود قرني عن أن يرشحه مجلس الأمناء لجائزة. رفض التواطؤ. باب المقايضة يفضي إلى الجائزة. ولا مفاجأة في أن يفوز بجائزة النيل، كبرى الجوائز المصرية، مسؤول عن إقرار الترشيح للجائزة. لمصر «سوابق»، بالدلالة الجنائية. في مارس 2009، فاز الشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي، مقرر «ملتقى القاهرة الدولي للشعر العربي» بجائزة الملتقى. الملتقى تنظمه وزارة الثقافة، ونال محمود درويش جائزة دورته الأولى (2007). حجازي، كما أعلن التونسي عبد السلام المسدّي رئيس لجنة التحكيم، فاز بالإجماع، ونال 100 ألف جنيه (18 ألف دولار آنذاك). حجازي آنذاك رئيس لجنة الشعر، ومقرر الملتقى ورئيس لجنته التي تحدد المحاور، وتختار الضيوف ولجنة التحكيم.
الشاعر المؤمن بالشعر عاصما من قواصم الإذلال ومساومات البيع والشراء، واصل حربه على اعتلال أداء وظيفي يُفترض أن ينزّه كبار السن والمقام أنفسهم عنه. كتب، في يناير 2014، منتقدا بيت الشعر الذي يصرّ على مواصلة ترشيح أعضائه لجوائز الدولة. تُرتكب المخالفة الأخلاقية مرة، نزوة للترضية كمعونة شتاء، ثم يستمرئونها ويعتبرونها استحقاقا. انتقد ترشيح فاروق شوشة لجائزة النيل، وحسن طلب لجائزة الدولة التقديرية. وفازا بالجائزتين. وسط معارك صغيرة وكبيرة، اتهمه البعض بما يشعرون به وينكرونه في أنفسهم، تطبيقا لنظرية الإسقاط في علم النفس، فكتب بيانا من بضعة أسطر، عن تاريخه مع التخلي، واستقالته من مجلس أمناء بيت الشعر ومركز أحمد شوقي.
محمود قدّم الكثيرين في صحيفة «القدس العربي» اللندنية، منتصرا للإبداع. هناك شعراء اعتبروه عرّابا. حتى بعد أن ترك «القدس العربي»، واصل دوره عبر منتدى الشعر المصري، وجائزته التي حملت اسم حلمي سالم. كتب محمود أنه استقال من «القدس العربي وخسرتُ أكثر من نصف دخلي بعد أن اشترتها قطر»، وتوقف عن الكتابة في «الأهرام» رفضا لسداد أثمان يجب ألا يدفعها. وأتبع: «بعد أن أصبحت خالي الوفاض.. أليس للمرء أن يتعجب من أن ينبري إرهابيون وأميون وأنصاف متعلمين ممن يحتلون كراسيهم الوثيرة في قلب الدولة لاتهامي بالدفاع عن ذات الدولة التي استقلت من مناصبها بينما ناموا هم تحت أحذية أسافل المسؤلين فيها؟!!».
لو خلصت النيات، لوجه الله والشعر والوطن والمجتمع والناس، لرشحه بيت الشعر، أو مركز أحمد شوقي، لجائزة التفوق بعد الاستقالة. هنا موضوعية الترشيح لشاعر نزع نفسه من المناصب، حتى العمل نفسه لبلوغه سن التقاعد. لا غرابة، فالسلوك غير السوي يتسق مع من يتأكد لهم أنهم عراة أمام زميل قادر على الاستغناء، هو غني وهم أثرياء، والثراء لا يشبع جوع القادمين من مجاعة تاريخية. لا يرضيهم أن يروا إنسانا منزّها عن مخازي العمل العام. وجاءه التكريم من بيت آخر للشعر، من بيت الشعر بالمنامة، في ديسمبر 2022، بدعوة من الشيخة مي آل خليفة مؤسسة مركز الشيخ محمد بن إبراهيم آل خليفة.
أجّـل تلبية دعوة البحرين ستة أشهر، لظروفه الصحية. وجاءت أمسية التكريم دافئة وحاشدة، وحملت عنوان كتابه «لماذا يخذل الشعر محبيه؟!». هو أكثر عناوين كتبه حدّة، وربما أقلها توفيقا. في يناير 2023 نظم منتدى المستقبل في حزب التجمع ندوة تحدث فيها: نبيل عبد الفتاح، وأحمد الفيتوري وجرجس شكري وأحمد المريخي والدكتور يسري عبد الله. وقلت إنني تمنيت لو كان العنوان «هل يخذل الشعر محبيه؟!». لا يخذل الشعر محبيه. والمحبون الفرادى، لا المؤسسات العاجزة عن ترويض مبدع حقيقي، لم يخذلوه. في الجيل السابق حاقدون، ولكن الأجمل في تجربة محمود قرني أن مجايليه يعرفون قدره، ويعلنون هذه المعرفة، بالمشاركة في ندوات وكتابة الدراسات.
حين تجمع الدراسات سنكتشف أن تجربة محمود قرني الأكثر إثارة للانتباه في جيله، وأنه يتجاوز السابقين والمجايلين بوعي فلسفي لم يمسّ براءة الشعر، بل زاده عمقا وتركيبا. ولا أبالغ بوصفه بأنه نموذج «الشاعر العارف». والشعراء العارفون الآن في العالم العربي ندرة. نادرون ندرة الشعر على الرغم من كثرة المطروح في سوق الشعر، ويظل «الشعر» نادرا ندرة تغيّبها غزارةٌ وركامٌ من الزبَد، وصخبٌ يشوّش الرؤية؛ فيشكو البعض من غياب الشعر. أعلنت كثيرا فرحي بالعثور على «الشعر»، ولا أحب أن ألحق بصاحبه صفات الكبير والمرموق والبارز، يكفي أنه شعر، وأن كاتبه شاعر. ما حيلتي ومحمود قرني كبير حقا.. شاعرا وناقدا ثقافيا رائيا؟
خامس أيام عيد الأضحى، الأحد 2 يوليو 2023، توفي محمود قرني وفي حصاده أحد عشر ديوانا، وخمسة كتب، وما لا حصر له من أصدقاء لم يكتموا محبتهم، واعتزازهم بتجربته ومسيرته التي أطالتها الإرادة، في حرب الألف يوم. في 2 مارس 2021 كتب، مع صدور أربعة كتب: «قبل أن يتساءل أحد لماذا أربعة كتب دفعة واحدة؟ أقول: لمّا رأيتُني قاب قوسين أو أدنى من الموت، بسبب ظروفي الصحية، دفعت بما يمكن طباعته وما رأيت أنه جدير بأن أقدمه للناس. صحيح أن خزانتي لم تفرغ بعد، وما زال هناك ما يستحق النظر، لكن الأمر ربما يحتاج إلى جهد ووقت ليسا بمقدوري الآن».
وأضاف: «وآمل أن يمتد بي العمر حتى أتمكن من إنجاز بعض ما أتمناه. شكري البالغ لصديقي النبيل الروائي الكبير سعد القرش على ما تكبده معي من مشقة في مراجعة هذه الكتب، وفي احترامه وتقديره للظرف النفسي والجسدي الذي أعانيه. وكذلك لا بدّ أن أبعث برسالة محبة وتقدير لصديقي النبيل حقا الشاعر فارس خضر مدير دار الأدهم على جهده في إنجاز هذه الكتب». أسعدتني قراءة المخطوطات، ثم حفاوة الأصدقاء بتجربة محمود قرني الذي غافلنا، وبلغ الستين، فنظم «مركز الاستقلال»، في يوليو 2021، احتفالا شارك فيه من الشعراء: أحمد سراج، ومحمد السيد إسماعيل، وعيد عبد الحليم، وعزة حسين، وعلي عطا، وزيزي شوشة.
في حرب الألف يوم تباعدت لقاءاتنا. في 23 فبراير 2023 شرّفني بالمشاركة في برنامج «فن المحاكاة»، بحماسة من طارق عبد الفتاح، عن روايتي «أول النهار»، في قناة النيل الثقافية. هو ظهوره التلفزيوني الأخير، وفي مارس 2023 كتب منشورا اعتذار عن عدم القدرة على المشاركة في أنشطة يدعى إليها: «صحتي قهرتني، فلا تؤاخذوني على ما لا أملك لإصلاحه سبيلا». وأكد الرفض القاطع لفكرة أن يساعده الأصدقاء، متأسيا بدعاء الدكتور زكي نجيب محمود: «الحمد لله الذي رزقني، وقد رزقني بأن منحني أكثر من كفايتي. والحمد لله الذي علمني النبل، وقد علمني النبل بأن أحاطني ببشر هم قدس أقداس الحقيقة». وختم كلامه قائلا:
«تعففي هذا ليس افتعالا مهما بدا مغاليا، لكن تعففي هو شعري وكتابتي ومواقفي وتربيتي وثقافتي، وبدونه ستنكسر روحي بحق. وهذا لن يحدث حتى أدخل القبر». ثم قابلت محمود، ولم أبلغه أنني قابلت مسؤولا عن مؤسسة، صاحب قرار، وأطلعته على الحالة الصحية والنفسية الإبائية للشاعر الذي لن يرفض تدخل المؤسسات. افتعلت سياقا لأذكر اسم هذا المسؤول، ولم يعقب محمود، فأدركت أنه لم يتصل به. ثم كتب محمود منشورا، في 17 يونيو 2023، عن الدكتور رفعت رفعت كامل: كانت الحالة الصحية تسوء، رغم إقامته في أقسام مدفوعة الأجر، «فلم أكن أجد ملاذا لاستعادة ما تساقط من روحي وجسدي سوى على أعتاب مشفاه».
بعد اللقاء الأخير، قال في اتصال هاتفي إن لقاءنا سيكون في بيته، لا في القهوة القريبة منه. وفي ذلك اللقاء، رأيت فداحة أن يحارب نبيل أعزل على عدة جبهات. في جبهة الجسد لا يصمد الكبد، يتفتت وتتجدد حياته بآمال الشاعر في إنجاز مشاريع جديدة، وإن تراجع الكلام عن الكتابة لحساب الصحة وظروف العملية الجراحية التي تعطل إجراؤها. خرجت من سيرة المرض إلى شجون الكتابة، وأثنيت على إعادته نشر قصيدة «زَغْرودة من أجْل الحِكِمْدار» التي ذيل بها مختارات «خاتم فيروزي لحكيم العائلة» (2022)، وأهداه «إلى روح أمي.. في ملكوت صنعته بأياديها البيضاء». وأعاد نشر القصيدة في ديوانه «مسامرات في الحياة الثانية».
قال إنه كتب السطور الأربعة الأولى من «زَغْرودة من أجْل الحِكِمْدار»، وهربت منه القصيدة. عاود قراءة المطلع، لأسابيع وشهور، حتى منحته القصيدة نفسها؛ فكتبها في جلسة. قرأها على نساء البيت في الفيوم، فبكين الأم، فعرف أن القصيدة كُتبت:
إنه يوم الجمعة
الذي لا أحبُّ منه إلا صوت أُمي
أُهاتفُها عادةً منتصف نهاره
فيأتيني صوتُها كوردةٍ جرَّحها عاشقان
أنا أكبرُ أبنائها
لكنني لستُ أرجَحَهُم عقلا
عندما كنتُ صغيرا
كانت تَقْضِمُ وَحدتي
بأناشيدَ عن الأراضي البيضاء
وعندما تنامَت وَحدتي معي
كانت تَنْهاني عن مغازلة الأشباح
التي تراها خارجةً كل مساءٍ
من رفوف مكتبتي
تسألُني عادة:
متى ستعودُ أيها الغريب؟
أقولُ لها:
رائحتي لا زالَتْ بين يديكِ
والرائحةُ تستردُّ البعيد
تقول لي:
بالأمس رأيتُكَ على شاشة التليفزيون
لمْ أفهم شيئا مما قلتَ
لكنك كُلَّما ابتسمتَ
أجدني قد فهمتُ كل شيء
أقول لها: إنني مُعْتَلٌّ يا أُمِّي
تقول لي:
عندما مَنَحَني اللهُ اسمَك وَرَسْمَك
لمْ ينتقِص من أعضائك شيئا
حماقاتك أفسدتْ ما أصْلَحَته السماء
أقول لها:
لعلَّها الصفقةُ الخاسرةُ
التي عَقَدْتُها مع شيطانٍ
يَسْكُنُ جلبابَ بائع الكتب القديمة
عندما استَبْدَلْتُ بـ “صحيحِ البُخاري”
عشرة أعدادٍ مِن مجلة تَضِجُّ بتصاوير النساء.

أُمِّي كانت لا تزال صغيرةً
عندما قام رجالٌ مُهابو الجانب
بثورتهم على المَلِك
لكنَّ جَدِّي لمْ يَكُفَّ عن إملائها شِكاياتِهِ الحارقة
ضد “سعد بك العيسوي” عُمْدَة بلدتنا
كانت تحفظُ خَلْفَ جدِّي بيتين جميلين منَ الشعر
يقدمُ بهما كل شِكاياتِه:
“لا تَلُم كَفّي إِذا السَيفُ نَبا
صَحَّ مِنّي العَزمُ وَالدَهرُ أَبَى
رُبَّ ساعٍ مُبصِرٍ في سَعيِهِ
أَخطَأَ التَوفيقَ فيما طَلَبا”
عرفتُ، عندما كَبُرتُ، أنهما لشاعرٍ غليظ
اللفظ حَسَنِ المَعْنَى هو “حافظ إبراهيم”.

وفي ليلةٍ ما
دخل حكمدار “الفيوم” على جدِّي دونَ حِراسته
سلَّمه خطابَ شُكرٍ لِمُؤازَرَتِه الثورة
وقال له:
لقد نَزَعَتِ الثورةُ ثوب البَكَوية عن أكتاف أعدائها
فَنَمْ قريرا أيها الشيخ.

أُمّي أطلَقَتْ زغرودةً طويلة خَلفَ الحكمدار
فكافأها جدّي بخمسةِ قروشٍ من الفِضة الخالصة
ولطمةٍ ثَخينَةٍ علَى وجهها
لأنها أطلقتْ صوتَها في حضرةِ رجل غريب.

بعدما كَبُرَتْ أمِّي
وتسربَتْ شعراتُ المَشيبِ
مِن أسفلِ طَرْحَتِها
دخل عليها أبي بزوجةٍ ثانية
فصادَقتْ زَوْجَ حَمَامٍ يَهْدِلُ فوق رأسها
حَمَّمَتْني أنا وإخوتي الثلاثة
بينما تُغنّي بصوتٍ جافٍ وخفيض:
“يا ويلهم راحوا مع مَنْ راحْ
لا ردّهم فارسْ ولا رمَّاحْ”

إنه يوم الجمعة
وقد أدْرَكَني منتصف نهاره
سأهاتفُ أُمّي حالا
ولن أُقِيمَ أي اعتبارٍ
للنَعي الذي نشرَهُ إخْوَتي عن وفاتها
صبيحةَ الثلاثاء الماضي.
………………………………
(“الأهرام” ـ 7 / 7 / 2023)

مقالات من نفس القسم