د.مصطفى الضبع
شريف صالح قاص وصحفي مصري، تقوم تجربته الإبداعية على كتابة القصة القصيرة، صدر له خمس مجموعات قصصية تشكل بطاقة تعريفه قاصا:
- إصبع يمشي وحده ـ قصص ـ دار المحروسة ـ 2007.
- مثلث العشق ـ قصص ـ دار العين ـ 2009.
- شخص صالح للقتل ـ دار الياسمين ـ 2011.
- بيضة على الشاطئ – دبي الثقافية 2014.
- شق الثعبان – دار صفصافة – القاهرة 2014.، وصدر له مسرحية “رقصة الديك” – دائرة الثقافة والإعلام ـ الشارقة.2011، وفي مجال النقد صدر له “نجيب محفوظ وتحولات الحكاية” ـ الهيئة العامة لقصور الثقافة ـ القاهرة 2011.
حصدت أعماله عددا من الجوائز العربية، منها:
ـ جائزة ساويرس في القصة القصيرة عن مجموعة “مثلث العشق” 2011
ـ جائزة دبي الثقافية عن مجموعة “بيضة على الشاطئ”2011
ـ جائزة أفضل مؤلف مسرحي من مهرجان “أيام المسرح للشباب” في الكويت عن مسرحية “مقهى المساء”(2011)
ـ جائزة الشارقة للإبداع العربي ـ الإصدار الأول ـ عن مسرحية “رقصة الديك” ـ 2010.
تضم مجموعته “بيضة على الشاطئ” ثلاث عشرة قصة قصيرة (الغواية الأولى – ألعاب الراعي – العجوز الذي يراقبنا – عصر السنجة – الطواف وسارق النحاس – تجشؤ – النحلة الخشبية – وراء البياض – الخروج إلى الشمس – وفاة غامضة لعدو صامت – زائر أم الرشراش – السيدة المختفية – الخناجر السبعة )، تتنوع موضوعاتها وتختلف طرائق التعبير عنها وتشكل نظاما خاصا للكتابة لدى صاحبها يقوم على محاولة تصوير الواقع في لحظاته الحرجة على مستوى الإنسان الذي يسعى لإصلاح عالمه أو ذلك الذي يسعى للوقوف على تفاصيل واقعه للمحاولة بالوصول لأسباب مشاكله.
قبل القراءة نحن إزاء معنى أولي تطرحه جملة العنوان ” بيضة على الشاطئ ” ذلك العنوان الذي لم يتصدر نصا من نصوص المجموعة ولم يكن للمفردة وجودها في القصص إلا أربع مرات جاءت فيها لتؤدي وظيفة محددة لها طبيعتها الخاصة.
تنفرد المجموعة كلها بتصدر عنوان تجد صداه في المجموعة عبر أربعة عناوين تشكل ثلاثة منها الأساس للحكي في المجموعة كلها ، الأولى في قصة “عصر السنجة”: “بين كل صفصافة وصفصافة كانت هناك فلاحة….. لا تغسل الأواني وملابس عيالها، بل تلتقط بيضة كبيرة الحجم من قصعة في متناول يدها ثم تمررها من بين وركيها العاريتين وتدحرجها في النهر ببطء” (ص 54)، والثانية تأتي في سياق تعبير دارج ” البيضة والحجر”،” كل الأشياء التي تضيع منك فجأة، هو وحده يعرف متى وأين وكيف ضاعت. لكنه لن يعيدها إليك حتى لو ركعت على ركبتيك. ولكي تنسى ما ضاع منك يرتب في دقائق هلاوس تليق بنقاشك الليلي الصاخب مع أصحابك على قهوة فرساي، وسط قرقعة أحجار الدومينو وكركرة الشيشة وحكايات عمن يلعبون بالبيضة والحجر”
الثالثة في قصة “السيدة المختفية”: “كانت ثمة حركة وامضة تظهر أمام العدسة، تأخذ مناظر نورانية متنوعة: بيضة سماوية هائلة، فتاة رأسها في السماء وحول الرأس هالة فضية أو طرحة زرقاء. تتحرك بقدميها خفيفاً، سحاب وأبخرة متوهجة، مزيج من ألوان فسفورية وفضية وزرقاء فاتحة ” (ص 148)، والرابعة في قصة “الخناجر السبعة”: “كان الماء المظلم العميق لا شاطئ له، لكنها لما أخرجت وركها العظيمة ناصعة البياض من الماء، صارت شاطئاً ثم هبطت فوقه إوزة بيضاء باضت أعلى الورك ثلاث بيضات: ذهبية وفضية ونحاسية. لكنه لا يتذكر أي بيضة فقست قبل الأخرى”.
وجميعها مساحات حضور للبيضة تكشف عن كونها لا تقف عند معنى واحد ولا تؤسس لمعنى وحيد وإنما تتعدد معانيها وما تطرحه وفق السياقات المختلفة مما يجعل القارئ على دراية بحركة المفردة الواحدة في سياقات فنية مختلفة تتعاضد لرسم الصورة الكلية في المجموعة كلها تلك الصورة التي تلعب فيها كل قصة دورها لأداء المعنى المتعدد الذي تطرحه النصوص وفي كل مرة يكون على القارئ تشكيل المعاني وفق خيط محدد يكون على القارئ تتبعه للوصول على معنى محدد، فمن هذه الخيوط على سبيل المثال خيط الواقع الذي ترسمه القصص وكيف يتشكل هذا الواقع من خلال عدد من الأحداث الأساسية كحركة اكتشاف الإنسان حياته وتاريخه، وحركة اكتشاف الشخصيات العالم من حولها وحركة إدراك الأشخاص طبيعة اللحظة التاريخية التي يعيشونها وهكذا فكلها خيوط تتشابك لتقدم صورة لها أهميتها في إدراك العالم من قبل الأشخاص أولا والقارئ ثانيا.
لا تنفرد البيضة بالحضور وإنما تقترن بعنصرين آخرين: الماء ( الشاطئ ) و المرأة عبر الجسم ( الورك ) بوصفه كاشفا عن علاقة لونية (البياض ) وسمة الخصوبة القارة بين البيضة والمرأة أو بالأدق بين البيضة والجسم الأنثوي إضافة إلى سيولة الماء وخصوبته وهو ما يجعل البيضة تمثل علامة على الخصوبة التي تعني استمرار الحياة في التعبير عن نفسها.
يعتمد القاص على طرح مجموعة من الامكنة متعددة الوظائف: ( المستشفى بوصفها بؤرة الحداث ومنطلق السرد – الواقع على اتساعه – الكيس الأسود – بطن المحاسب وماتدل عليه محتوياتها – حالة التشرنق التي يعيشها السارد – الأكواريوم (Aquarium مكان لتربية الحيوانات أو النباتات المائية يأخذ شكل الغرفة ذات الجانب الشفاف ممتلئ بالماء ويستخدم لوضع الأسماك، اللافقاريات المائية، البرمائيات، السلاحف، والنباتات المائية) الذي يبرز في القصة الأخيرة بما يحمله من دلالة )
“أواسيها فتتمتم بشفتيها الذابلتين. أستلقي بملابسي متعباً على سرير المرافق إلى جوارها.. أبقى منتبهاً لأقل حركة وإن كنت أغفو من التعب أكثر من كوني نائماً. أتمتم بآية الكرسي وأدعية مرتبكة تأتي عفو الخاطر. انتبهتُ إلى الممرضة الهندية وهي تقف بين سريري وسرير زوجتي. ترفع إبرة الحقنة بتلقائية. ظننتها ستعطيها لزوجتي لكنها انحنت قرب وجهي وقالت: ستساعدك على النوم.
“لا أحتاج إليها، أكره الحقن” (ص 12)
الحقنة ضغط من الخارج لا تملك إرادة الداخل أن تتراجع عنه، وعندما تخترق الحقنة جلد السارد ينتقل المتلقي إلى عالم آخر يبدو فيه التماهي بين الواقع والحلم، واقع المتلقي وحلم / أحلام السارد أو لنقل انفصاله عن هذا الواقع بغية إدراكه بصورة أفضل، ذلك السارد الذي يحولنا إلى رحلة من البحث عن والبحث في تفاصيل هذا العالم على اتساعه، مساحات الحركة المختارة بعناية بادئة من مستشفى غير محدد الانتماء لبلد بعينها ( العلامة الوحيدة على المكان تلك الممرضة الهندية التي تظهر في بداية الأحداث المسرودة في القصة الأولى ) وهو ما يحدد البداية من منطقة الخليج ( يمكنك أن تبني على الكويت بوصفها مكان إقامة الكاتب الآن )، وتمتد مساحات الحركة إلى أمكنة بدايات الوعي ( القصة الثانية ) وتستمر إلى أن تصل إلى أمكنة تمثل نضج الوعي بالأساس (راجع القصتين الأخيرتين: “السيدة المختفية” و” الخناجر السبعة ” ) كما أن وضع البطل في القصة الأخيرة هو امتداد لوضع البطل في القصة الأولى، في الأولى يتبلور المشهد بين السارد والممرضة تحقنه بما يحوله من واقع إلى حلم ومن سكون إلى حركة، وفي الأخيرة:” احتضنته الراهبة بجلال عريها وقالت:
لا بأس يابني.. أعلم تماما.. أعلم أنك تعذبت طويلا لكن رحلتك المقدسة لم تبدأ بعد ” ( ص 163)
الحياة داخل المستشفى واقع وداخله حلم، فالمستشفى واقع يضم شخصية واقعية ( السارد) والشخصية نفسها تتسع لحلم هو امتداد للمستشفى تماما كالنهر الذي يغادر اللوحة:” في بهو المستشفى لوحة كبيرة جداً لمنظر ريفي يتوسطه نهر يجري إلى ما لا نهاية إلى خارج إطار الصورة، وفوقه طيور بيضاء تحلق وتنخفض في حركة أبدية لا تزيد ولا تنقص. إلى الأعلى من جهة اليسار متاهة حلزونية رخوة تنقبض وتنبسط حول بقعة بيضاء. مثل تلك اللوحات الصينية التي توهمنا بالحياة والحركة ليست سوى صور كهربائية رخيصة تم تصميمها بحيلة بسيطة!” ( ص11) المشهد السابق رسمه السارد في القصة الأولى مختزلا الجانب الأكبر من أفكاره الأساسية، فالمشهد أولا يشير إلى فضاءين أساسيين: فضاء المستشفى الداخلي، والفضاء خارجها، وهو ثانيا يضم عددا من العناصر المفتاحية التي تتردد في فضاء نصوص المجموعة بكاملها (النهر – الماء – الطيور – اللون الأبيض )، ثم هو ثالثا يشير صراحة إلى عدد من العناصر السردية بوصفها مفردات تعبر عن النشاط السردي وتتبلور عبر عدد من الأفعال والصفات المتقابلة (الداخل – الخارج، تحلق – تنخفض، تنقبض – تنبسط ) وعند تتبعك نصوص المجموعة ستجد هذه المفردات تطرح نفسها بوصفها عناصر مؤثرة في إنتاج الدلالة، وتلعب دورين مختلفين في سياقين مختلفين غير منفصلين: سياق المشهد السابق أولا وسياقها الخاص في موضعها ثانيا، وهو ما يؤكد مساحات الإحكام التي تشهد بقدرات السارد في تشكيله نصه على شاكلة تشكيل العالم مترابط الخيوط على الرغم من تعددها وتفككها.
المشهد في المستشفى أساس للمشهد خارجه، المستشفى إصلاح لما هو خارجها تماما كالحلم الذي يوظفه السارد في النصوص خلافا لوظيفته في الواقع، الحلم خارج النص تعليق على الواقع وفي الكتابة قد يأخذ شكل الهامش على الواقع، السارد هنا يجعل الواقع تعليقا على الحلم أو هامشا عليه حيث الواقع امتداد للحلم وليس العكس وحيث الحلم تقنية كتابة فحين يحل الحلم في النص يحول النص إلى نص إطار ويتحول الحلم إلى نص داخلي تماما كالجنين في بطن الأم هو موجود في العالم بقوة الحياة ولكنه حياة داخل الحياة، حياة مؤجلة لزمن آخر، والسارد يلعب على فكرة التداخل بما يعني أنه ليس هناك طبقة يمكن الاستغناء عنها وليس هناك إلا قشرة لعمق، وعمق لإطار.