نهاية موسم القبح

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
محمد العبادي بين البائع والشاري: يفتح الله؟.. ربما كانت هي الإجابة الصحيحة دوما. لكن في العصر الحالي.. عصر "السوشيال ميديا".. لم تصبح "يفتح الله" هي نهاية المطاف.. فالآن يمكنك أن ترى عند بائع سلعة بالغة القبح.. تقلبها باشمئزاز ثم تتركها.. بل وقد تلوم البائع على قبح سلعته وتدعو الآخرين لمقاطعته.. ورغم كل ذلك.. في النهاية يخرج "تاجر القبح" بربح وفير!

أبرز مثال لهذا السوق العجيب مختل القواعد هو سوق البث التلفزيوني خصوصا في موسمه الأكبر: رمضان.. فعلى مدي سنوات لا تكتفي النماذج السيئة بفرض وجودها.. بل تحقق أعلى نسب من المشاهدة والإيرادات!!.. الأمر أشبه باللغز.. فنجد مثلا أن الكل تقريبا يجمع على كراهية برنامج المقالب السخيف الذي يصنعه ذلك الممثل المحدود.. لكنه يبقى أنجح برامج رمضان بدون منازع وعلى مدى سنوات طويلة.. نفس الأمر مع “أسطورة” مسلسلات البلطجة المبتذلة الذي يتصدر قوائم المشاهدة مهما بلغ سوء ما يقدمه.

كيف ينتشر القبيح؟:

من الممكن أن نركن إلى نفس المقولات التي نتداولها منذ عشرات السنين عن “انهيار الذوق العام” و”انخفاض مستوى الوعي والثقافة”… لكن يتناقض هذا مع هذا الكم من الهجوم الذي تواجه به الأعمال الرديئة.. بالذات على مواقع التواصل الاجتماعي.

ربما الحقيقة أن هذا الهجوم الجارف تحول لنقطة قوة لهذه الأعمال وليس نقطة ضعف…

في مشهد عبقري في فيلم “بيردمان” (2014).. يضطر البطل الممثل “ريجان” للعبور عاريا عبر ميدان التايمز المزدحم في نيويورك بين ضحكات المارة ومطاردتهم له للحصول على توقيعه وصوره.. وبعد دقائق تخبره ابنته أن فيديو مسيرته البائسة تلك حقق 350 ألف مشاهدة في أقل من ساعة.. “صدق أو لا تصدق.. هذه نقطة قوة…” هكذا تخبره.. وهكذا هي حياة “السوشيال ميديا” للأسف.. لا يهم المحتوى سواء كان سيئا أم جيدا.. مثيرا للضحك أم للاشمئزاز.. ما يهم هو الانتشار.. وعدد مرات المشاهدة.

ولهذا فإن  طوفان الهجوم الذي يتوجه للأعمال السيئة تحول في الحقيقة إلى كنز لهذه الأعمال ومبدعينها (إن شئت أن تطلق عليهم مبدعين).. كنز من الدعاية غير المباشرة.. فكلما زاد الهجوم على عمل كلما أثار هذا فضول الكثيرين لمشاهدته ليحكموا عليه بأنفسهم.. لا يهم حتى لو هاجموه هم أيضا بعد المشاهدة.. لكن كلما زادت المشاهدات كلما زاد المكسب.. ما بين زيادة وقت المشاهدة على مواقع الانترنت.. وزيادة الإعلانات على القنوات التلفزيونية ووسائط المشاهدة الأخرى.

هل هو هجوم حقا؟:

هذا عن الأثر الإيجابي للهجوم.. لكن ماذا عن الأثر السلبي؟.. هل تتأثر تلك البضاعة الفنية القبيحة حقا برفضنا لها وهجومنا المليوني عليها عبر صفحات فيسبوك وتويتر؟.. للأسف لا.. فرأيك السلبي – ببساطة – ليس له أي أهمية.. فكلمة السر هي “الفئة المستهدفة”.

الفئة التي يستهدفها صناع هذه الأعمال ليتوجهوا لها بمنتجهم الفني المشوه والردئ هي ليست نحن.. هي فئة أخرى غير الشباب المثقف والمتعلم ورواد مواقع التواصل الاجتماعي اللذين لا يتوقفون عن إظهار امتعاضهم ليل نهار.. بقليل من التدقيق في محتوى تلك الأعمال وطريقة صناعتها نجد إنها تتوجه لفئات جماهيرية أخرى. أهمها وأكبرها هي فئة الجمهور الشعبي محدود الثقافة.. الجمهور الذي يتجمع في المقاهي والبيوت ليتابع حكايات المسلسلات بعيدا عن صخب الصفحات الالكترونية الزرقاء.. حين فطن صناع الدراما لأهمية هذا “الظهير الشعبي” في دعمهم دأبوا على مغازلة هذه الفئة واستجداء رضاها بأي شكل.. حتى لو كان هذا على حساب الجودة الفنية والعمق والأخلاق وأي عامل آخر.. لهذا تحول البطل إلى بلطجي في مجتمع من البلطجية.. وأصبحت الشخصات مسطحة والأحداث ركيكة وغير مترابطة أو منطقية.. المهم في النهاية أن المشاهد الشعبي “ينبسط”.

وحتى إذا لم يتقبل المشاهد هذا النوع من الأعمال في البداية.. فالاستمرار في عرضها يغير ذائقة المشاهد.. فيستمتع بها.. كما استطاع “البهظ” أن يغير ذائقة الشريبة ليستمتعوا بشرب نشارة الخشب بدلا من الشاي…

نفس المنطق تقريبا يحكم برامج المقالب بمبالغاتها وتصنعها.. التي تغازل غرائز الحقد السادي عند “الفئة المستهدفة” من المتلقين .. بينما يرى المشاهد نجمه غارقا في الضعف والهلع والصراخ والبكاء.. يضحك في استمتاع سادي.. ينفس عن حقده الشخصي تجاه هذا النجم.. وكأنه يخبره أنه لا يستحق النجاح.. وأن الفشل والانهيار هو وضعه الطبيعي.. حيلة نفسية مغرية لعديد من المتلقين.. حتى من يهاجمون هذه البرامج ستجد عندهم تعليقات من نوعية: أنا مابحبش البرنامج.. بس انبسطت لما شفت “فلان” متبهدل.. ده برنامج فاشل.. بس فرحت في “فلان”.. “يستاهل…”.

لهذا فدعوات المقاطعة تقابل بزيادة في نسب المشاهدة.. ومقالات وبوستات الهجوم تدعم الانتشار…

والعمل الجيد؟:

لا.. العمل الجيد لا يفرض نفسه.. هي اسطورة أخرى انتهت في عصرنا.. فالحقيقة أن المردود الإيجابي للمنتج الجيد دوما أضعف بكثير من الهجوم على المنتج الردئ.. أمام كل “بوست” أو “تغريدة” تمدح في عمل فني جيد هناك عشرة يهاجمون العمل السئ.. وبما أننا اتفقنا أن المدح والذم يستويان في حسابات “التريندينج” والانتشار.. إذن فعشرة بوستات هجوم ستفيد العمل أكثر بكثير من بوست مديح واحد.

وحتى لو كان للمدح أثر حقيقي.. يبقى أثر محدود بدائرة التواصل الاجتماعي.. لا يصل إلى فئة الجمهور الشعبي الذي يشرب نشارة الخشب حتى الثمالة.

تحول سوق البث التلفزيوني إلى سوق للقبح.. يفوز فيه الأقبح والأسخف.. ومع التغيرات التي تشهدها ساحة الإنتاج لن نكون متشائمين إن توقعنا مزيد من التدهور في المواسم القادمة.. لذا ربما لم يبق لنا سوى أن نتجاهل هذا السوق ببضاعته المسجاة.. على الأقل لكي لا نتحول لأبواق دعاية وانتشار لكل ما نكره.

مقالات من نفس القسم