السينما كثيمة فى الرواية العربية ومساءلة الحداثة الغربية

موقع الكتابة الثقافي art 53
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

كاتيا غصن

العلاقة بين الرواية العربية الحديثة والسينما مرتبطة ارتباطاً وثيقاً ببدايات النهضة. تبلور الشكل الروائى والفن السينمائى فى الحقل الثقافى العربى من خلال الاحتكاك مع الغرب، أوروبا خاصة. وقد كان لنشأتهما مسار متلازم تاريخي. دخلت السينما مصر فى أواخر القرن التاسع عشر، ١٨٩٧ تحديدا، بعد سنة على أول عرض عام فى فرنسا للأخوين لومير.كذلك بدأت الرواية العربية تترسّخ فى الحقبة نفسها. ففى سنة ١٨٩١ أصدر جرجى زيدان أول كتبه، والمويلحى كتب حديث عيسى ابن هشام بين ١٨٩٨ و١٩٠٣، وعرائس المروج لجبران خليل جبران صدرت سنة ١٩٠٦…

وفى خضم إنشاء شركة مصر للتمثيل والسينما وافتتاح استديو مصر لاحقا(١٩٣٥)،قام طلعت حرب بإرسال وفد سينمائى إلى الخارج بغية التخصص واكتساب الخبرات ليكون دعامة لصناعة السينما الوطنية. انطلقت أول بعثة إلى باريس وبرلين وإيطاليا عام ١٩٣٣. يذكرنا إرسال الشباب المصرى إلى الخارج بالبعثات العلمية التى أوفدها محمد على فى بدايات القرن التاسع عشر إلى أوروبا وكان من ضمنها البعثة التى ترأسها الطهطاوى والتى تركت أثرا بالغا فى إعادة اكتشاف الغرب.

وخير مثال على تلازم مسارى الرواية والسينما وتداخل عوالمهما هو نجيب محفوظ.تفرّغ محفوظ لكتابة الرواية أواخر الثلاثينيات، وكتب ما يزيد على ٢٠ سيناريو خصيصا للسينما. كما ساهم بشكل كبير فى فترة أربعينيات لستينيات القرن الماضي،التى تعتبر العقود الذهبية للسينما فى مصر، فى تجديد الموضوعات والكتابة السينمائية من خلال تعاونه مع كبار المخرجين أمثال: صلاح أبو سيف ويوسف شاهين. وترك عمله كسيناريست أثرا جمالياً واضحاً على تقنياته وأسلوبه الكتابي. ولعل هذا الحس السينمائى فى رواياته مما جعل السينما والشاشة الصغيرة تحتفى بها بشكل كبير.

ليس من المستغرب إذن أن تحاكى الرواية العربية السينما من منطلق النقل الثقافى للحداثة الغربية.سأتناول فيما يلى أربع روايات تتخذ من السينما ثيمة تعبّر من خلالها، عبر تقنية الترجيع الأدبي،عن العلاقة الشائكة بين الشرق والغرب وعن التحولات التى آلت إليها هذه العلاقة. تجمع هذه النقطة بين النصوص الأربعة : «سارة» لمحمود عباس العقاد (١٩٣٨)، «تسطفل ميريل ستريب للروائى اللبنانى رشيد الضعيف (٢٠٠١)، «حرمة» (٢٠١٢)للكاتب اليمنى على المقرى و «كلب بلدى مدرّب» للروائى المصرى محمد علاء الدين (٢٠١٤).تقدّم هذه الروايات مشهديّة واسعة لنظرة المتلقى الشرقى إلى السينما كأداة تحمل قيم الحداثة الغربية، تمتد حسب زمن القص من ثلاثينيات إلى أواخر تسعينيات القرن الفائت.

رواية سارة ورواية تسطفل ميريل ستريب، وإن تباعدتا فى المكان والزمان تقدمان نظرة متشابهة للحداثة الغربية، مستمدّة من حركة النهضة، أو ما زالت تدور فى فلكها عند الضعيف. تجرى أحداث سارة فى ثلاثينيات القرن الماضي، أما تسطفل ففى فترة حرب الخليج الثانية وما بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية فى آخر التسعينيات. لكن رغم الفاصل الزمنى بين الروايتين، مقاربة الحداثة الغربية (المتمثلة هنا بالسينما) كعامل ثقافى مضعضع للرجل العربى هى ذاتها فى النصين. لذا سوف نرى أن خيوط القصتين تتداخل وتنطوى على أوجه مشتركة.

ومن الجدير بالذكر أن سارة هى رواية حداثية بامتياز، تتفاعل مع الفن السابع، وتكسر التسلسل الخطى للسرد وتعتمد على النمط الذى يسمّى بتيار الوعى. يبرز الراوى التجربة الداخلية للشخصية الرئيسية وينقل الأفكار والانفعالات والأحاسيس والذكريات التى تعتريها. يجرى الخطاب السردى بضمير الغائب لكنه يتبنّى بالكامل وعى الشخصية المروى عنها. وهذا النوع من الانسياب المتواصل للأفكار والمشاعر نشهده عند رشيد الضعيف بصيغة المتكلّم وطغيان طابع البوح فى أعماله.اختيار العقاد لهذا النمط لافت ورياديّ فى هذه الفترة التى سوف تشهد فى النهاية انتصار الواقعية الاجتماعية مع نجيب محفوظ.

تربط الروايتان مساءلة النقل الثقافى للمبادئ الأخلاقية من خلال النظرة إلى المرأة ككائن يحمل هذه القيم الجديدة. تبدأ رواية سارة بانفصال سارة وهمام وهما غير متزوجين وكانت تربطهما علاقة غرامية.السينما،الأوروبية والأمريكية خاصة،تلعب فى الرواية دوراً محورياً، إذ تجسّد أفكار وطباع سارة الجريئة مما يخلق أزمة تضعضع همام الشرقى الذى كان يحسب نفسه من المحدثين حتى اتضح له أن للسينما التى يعشقها مساوئ يُصعب عليه تقبّلها. يكتب الراوي:

« كانت دار الصور المتحركة عندهما شيئا أكثر من ملهى الفراغ وموعد اللقاء، كانت محور حياتهما الغرامية»؛
«وكان من عادتها أن تقارن بينها وبين بطلة الرواية… وتسأله فى ذلك أسئلة ذكية خبيثة…»؛
وأحيانا كانت تكتب له تعليقاتها:” فكتبت وقد شهدا رواية المرأة المترجلة (والمقصود فيلم ): هل أعجبتك رواية المرأة المترجلة ؟ أما أنا فسأكون لك، امرأتك فقط… وكتبت مرة أخرى وقد شهدا رواية المرأة المحتالة: أرجو ألا ترى المرأة المحتالة إلا فى السينما، أما فى الحياة فحسبك المخلصة فلانة…»

وفى سهرة من سهرات الصور المتحركة شاهدا رواية من روايات الغرام بين الكهول بطلها أدولف منجو الممثل الأمريكى «المشهور بقدرته على غزو قلب النساء»…«وكان منجو بغيضاً إلى همام كما هو بغيض إلى كثير من النظارة فى دور الصور، فأراد همام أن يناوئ صاحبته وقال لها: أما والله إن النساء لسخيفات إن كان لمثل هذا الرجل هذه الحظوة عندهن…فأجابته متحدية: ولم لا تكون له هذه الحظوة عند النساء؟ … الرجل الخبير بالنساء أمثال أدولف منجو …تحسّ (المرأة) كل الإحساس أنه يعرفها كما تعرف نفسها فى مخدعها…» الجواب لم يرق طبعا لهمام.

هكذا ترسم الرواية تقاطعاتٍ ما بين سارة وممثلات السينما المتحررات، فسارة أيضا منعتقة من جميع القيود. وإن كان هذا التحرر يغرى همام ويحبب سارة إلى قلبه فهو فى الوقت عينه محلّ للشك والريبة والخوف الدائم من أن تخونه، وسببُ ليدفعها عنه ويقطع علاقته بها.ليتخلّص من هذا الشك القاتل الذى صار هاجساً مرضياً لديه، يستعين بصاحبه فيقيمه جاسوساً عليها، يتحرّى عن جميع تحركاتها ليل نهار، دون أن يتمكن من التغلب على العذاب الذى يولده هذا الشك فى نفسه وعلى التمزق الذهنى والنفسى الذى يعتريه.
يتطرّق رشيد الضعيف لمأزق الحداثة العربية فى عديد من رواياته، ويصوّر تداعيات العلاقة الملتبسة بين الشرق والغرب فى «السرير»، أى من خلال العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة، بين الرجل الشرقى الذى يتحصّن وراء الذكورية والمبادئ التقليدية الموروثة والمرأة التى تجسّد الحداثة وما تحمله من مبادئ الحرية والمساواة تكسر بها القيود التى تغلّ حياتها. فى رواية تسطفل ميريل ستريب، تتشكل مساءلة الحداثة والعولمة أيضا من خلال السينما ومقارنة الزوجة بتصرفات الممثلة الأمريكية ميريل ستريب. تحب زوجة رشود التليفزيون كثيرا، فيشترى لها تليفزيوناً علّها تخفف من زياراتها لبيت أمها بحجة أنها تريد مشاهدة التليفزيون. رشود مثل همام عند العقاد يضعضعه هذا التحرر الجنسى الزائد. تبدأ الشكوك فى عذرية زوجته قبل الزواج تنخر دماغه، فمن تشوب ماضيه الانزلاقات والعلاقات الجنسية قبل الزواج لن يتوانى عن الخيانة الزوجية.

بعد بضعة أشهر فقط على زواجهما، يطفح كيل الزوجة (التى لا اسم لها غير كنية الزوجة) فتغادر البيت وهى حامل، وتطلب الطلاق.كان رشود وحيداً فى المنزل بعد هجر زوجته له، يقلب المحطات حين وقع على فيلم كرامر ضد كرامر مع مريل ستريب وداستن هوفمان (١٩٧٩)

ميريل ستريب/جوانا كرامر لديها طفل من زوجها لكنها لا تتردد فى ترك منزلها من دون أن تأخذ طفلها معها. الفيلم دراما قضائية يعالج قضايا اجتماعية كالطلاق، وحقوق المرأة والحضانة. يلجأ النص إلى حركاتٍ مكوكية ترددية بين الشخصيتين، الزوجة وميريل ستريب:

«هل يمكن لزوجة مثلها أن تترك ابنها لزوجها وترحل؟ لا يا ميريل ستريب! إياك أن تكونى دعامة لزوجتي. »
«فهل تذهب ميريل ستريب عند أهلها كما فعلت زوجتي؟»

« من منهما الأمريكية؟ هي، أم ميريل ستريب؟ للغربيات الصيت ولها الفعل. هنّ يمثلن أفلاماً سينمائية ونحن نطبّق.»
النقل الحضارى فى روايتى العقاد والضعيف يُفضى إلى تأرجح مستمر ما بين ثنائية الشرق والغرب. الشخصيتان فى دوامة لا يستطيعان الخروج منها، لذا السردية فى الروايتين مفتوحة ولا تنتهى فعليا إلا على هذا التمزق. علاوة على ذلك نلاحظ أن مفهوم الثقافة فى النصين لا يأخذ منحى دينياً.

هذه النظرة للنقل الثقافى التى تستمدّ حيثياتها من تصورات النهضة العربية لم تعد على ما كانت عليه. «حرمة» و «كلب بلدى مدرّب» تقدمان صورتين متناقضتين إلى النقل الثقافى عبر السينما أو التليفزيون، بعيدتين كل البعد عن نظرة العقاد والضعيف،وترصدان التحولات التى طرأت على العلاقة مع الغرب وفقا للمرحلة التاريخية ولمستجدات الواقع السياسى والمجتمعى السائد بشكل عام.

تدور الأحدث فى رواية «حرمة» نهاية التسعينيات بعد وحدة اليمن وصعود الإسلام السياسى المتطرف. التليفزيون محرّم فى البيت لأنه الشيطان من وجهة نظر الأب الذى يعيش وفق أصول دينية متشددة. لم يثن المنع ابنتيه وصديقاتهما من الاستماع إلى كاسيتات سُجلت عليها أفلام إباحية. الكاسيت لا تنقل الصورة، لكن لا بأس طالما بإمكان الوسيط السمعى تجاوز وتقويض الحدود الصارمة. يؤدى الصراع الحاد والمتطرف مع الغرب إلى انكسار الشخصيات وتقوقعها على ذاتها. وليس فقط إلى التجاذب كما كان الحال عند العقاد والضعيف. الابنة البكر تترك نفسها للموت وتقع الثانية فى شباك عقيدة الجهاد. الفضاء الروائى فى حرمة دينى بحت. سيطرة الطابع الدينى على جميع المستويات الثقافية للفرد وللمجتمع لا تترك مكاناً للسينما وللراديو وللتليفزيون وما يمثلون من رفض قاطع لمغريات الثقافة الغربية.

أما رواية «كلب بلدى مدرب» فتتعامل مع الوسيط السينمائى على عدة مستويات، منها: أسلوب القص الذى ينقل المشاهد والحواديت المتتالية كلقطاتٍ متحركة، بخاصة المشهد الأخير الذي يضع القارئ أمام شريط سينمائى تخييلى بامتياز. ناهيك عن شخصية اللول الذى درس السينما والإخراج ولديه مشروع تحويل «غادة الكاميليا» إلى فيلم، فيسخر منه أحمد. هذه الحكاية الميلودرامية المحببة إلى صناع السينما، خاصة فى مصر، لا تتماشى مع شغف العلاقات العاطفية وتطورها وتحررها من آفاق الزمن السابق.أما من حيث تلقّى الثقافة الغربية عبر السينما، فيبدو المشهد متناغماً كلّياً، لولا لهجة الرواية الساخرة التى ترسى بعداً انتقادياً بارعاً. تبدأ الرواية بمشهد سينمائى جنسى يقتصر على نقل الحركة وشيء من الصوت: «إيلاج، مؤخرة تصطدم بالدركسيون. نفير. إيلاج. طرقعة لحم فى لحم. مؤخرة تصطدم بالدركسيون. نفير. إيلاج..» يعشق أحمد ممثلات البورنو ولا يشكل له موت الرومانسية وشبق المرأة أى مشكلة. فهو ملمّ بتاريخ السينما الإباحية وبمقدوره أن يكتب بحثاً علمياً وافراً فى هذا الموضوع. بالإضافة إلى ذلك يستثمر أحمد موهبته الأدبية فى كتابة قصص جنسية لموقع إلكترونى تدر عليه بنقود قليلة. ونيفين صديقته المصرية متزوجة ولا تقل شهوة وغواية عن ممثلات هذا النوع من الأفلام: «كانت مثل نجمات البورنو اللواتى كنت أحلم بهنّ قبل قليل». أحمد ورفاقه يقيمون علاقات جنسية خالية من الأحكام الأخلاقية ولا تحتل الحرية الجنسية للمرأة موضع مساءلةٍ وشك وارتياب لديهم. فلو قرأ أحد منهم رواية رشيد الضعيف ووقع على هذا التعليق لرشود، بعدما شاهد هو وصاحبته التى ستصير زوجته فيما بعد فيلماً جريئاً : «وما زالت هذه المشاهد التى تجرى أمامى تثير فيّ مزيجاً من الدهشة والقرف والإثارة والخوف»، لهزئ منه ومن هواجسه التى نغّصت حياته وحياة جيله من دون أن تأتى عليهم بفائدة…

ينتمى أحمد وشلّة أصدقائه إلى عصر الماكدونالدز التائه الذي انقلبت عليه سياسة الانفتاح الاقتصادى. لا يؤمنون لا فى الأديان ولا فى الأيديولوجيات السياسية السائدة. يتماهون مع النزعة الاستهلاكية، يمارسون العلاقة الجنسية كما يدمنون المخدرات. السينما فيما تحمله من فانتسمات وتخيلات على أنواعها أضحت ملاذا يلجأون إليه ليهربوا من واقعهم المسدود.

تحيلنا موضوعية السينما فى هذه الروايات إلى سؤال العلاقة مع الغرب. تتباين النظرة بين التذبذب (العقاد والضعيف)، والرفض المطلق (المقرى)، والتماهى الكلّى (محمد علاء الدين). وبالرغم من التحولات التى طرأت على المجتمعات العربية وبدّلت من معالم العلاقة مع الحداثة الغربية، إلا أن الإنسان العربى يجد نفسه فى هذه الأعمال الأدبية فى موقع المتلقي، أياً كانت توجهاته وتموضعه. يتأثر ولا يؤثّر، يأخذ أكثر مما يعطي. هذا المشهد يحيلنا إلى سؤالٍ معاكس، ألا وهو ما هى اليوم عناصر ودلالات ومآثر الثقافة العربية فى سياق عولمة الثقافة وديناميكيتها.

…………….
ناقدة وأستاذة بجامعة باريس

مقالات من نفس القسم