ما إن وصل البيت حتى جرَّب القرص، ليستمع إلى تلك اللغة الأنيقة التي طالما كانت تأسر فؤاده.. لكنه لم يفهم شيء فالمحادثة كانت سريعة فلم يستوعب أي شيء :” لا بد من متابعة الصوت بالنص المكتوب حتى أعي ما يقول”، قالَ ثم عاد أدراجه للحصول على نسخة المُسجَّل مكتوباﹰ، لكنه لم يكن محظوظاﹰ فقد نفذت جميع النسخ، فعاد لتوه، وبينما هو يعبر أحياء المدينة حياﹰ بعد حي باتجاه البيت، كانت تتناهى إلى مسامعه أصوات المُكبِّرات وهي تُشيد بالقوات الأجنبية المغيرة وبالمتمردين فأسرع خطوَهُ وهو يبزق هنا وهناك، وما إن وصل حتى خفّت الأصوات وصُدَّت الأبواب وهجعت الأرواح على أزيز سِرب آخر جديد من غارات الحِلف وهي تستبيح العاصمة كما تشاء، وكأن الأمر لا يعدو أن يكون حلماﹰ، حاول صمَّ أُذنيه على السماع ﺃو ﺃن يلعن قدره ﺃو يخرج إلى شباب الحي يحرِّضهم على رمي العدو بكل ما يُرمى.. لكنه هجع وسكن هو الآخر. وهو فاقدٌ للإدراك حرَّك قُفل الراديو مصغياﹰ ﻷخبار محطات راديو الافرنجة وحلفائهم حيناﹰ والمحطات العربية حيناﹰ آخر فلم يسمع غير تدخلات الخونة والمتمردين وهم يحيُّون أسيادهم ويشتمون قائدهم، فلم يدري في وقت تسارع فيه ضجيج دك طائرات العدو للعاصمة طرابلس ومغالات المذيعين في أكاذيبهم إلاًّ و هو يضرب الراديو ضربة أسكتته إلى الأبد. – أتُرى صحيح ما تقوله دعاياهم ؟ أصحيح يكون المتمردون سيطروا على أطراف العاصمة؟. لِماَ التأكد من ذلك على ﺃرض الواقع؟
هيَّأ دراجته للخروج إلى الأحياء التي قالت الأخبار أنها سقطت في أيدي “الثوار” ولكم كانت دهشته عظيمة عندما دخل وكثير من أبناء العاصمة الغاضبين إليها، وأعينهم تشع بالنور ، لا وجود إلا لطوابير طويلة من النور مُنبعث من أعين شباباﹰ وكهول، شيوخاﹰ وأطفال صارو في أمس الحاجة للماء.. والنور، منهم من كان يحمل السلاح، فعرف حقيقة أن زعيمهم قد وزَّعها عليهم قبل أن يتوارى، لكن هل سيثبُت هؤلاء أمام الخونة المُحيطين بالمدينة وهم عطشى، إن المتمردين وآلياتهم باتت تحاصر ممرات العاصمة مستعدة للإنقضاض ككلاب مكلوبة أو خنازير جائعة، بل دخلت بعضَها إلى المدينة وسيطرت على مصادر المياه، وتشدقت لتوها ونظَّمت طوابير كانت و أخرى ستكون لملئ قوارير المياه وتوزيع سِلال الطعام.. وكان كل هم عمر أن يرفع صوته كمكبر صوت أو كبراح شعبي إلى عنان السماء :” الأهالي جاؤا غاضبين حانقين لا مبتهلين فرحين، جاؤا لملء جاحاتهم من المياه لا الترحيب بفلول الخونة كما إدَّعت المحطات الاذاعية” لكنه لم يستطع.
عندما عاد عمر إلى منزله في الأثناء تسترعي انتباهه كاتدرائية مُهشّمة، كأنها مهجورة، تقع بين أحياء راقية تعج بالحركة فاستغرب عدم استعمالها من طرف المتمردين، وهم الذين من عاداتهم تسخير كل شيء للإطاحة ﺑ “الديكتاتور” حسب زعمهم، حتى دور العبادة، حاول دخول الكنيسة وما كاد يفعل حتى هاجمته مجموعة من الكلاب والجرذان الضخمة التي كانت محتمية داخلها، صار عمر متلهفاﹰ ﻹكتشاف رُدهة الكنيسة التي لم يرها إلا في التلفزيون، أو اكتشاف سر ما يكون قد تركه فيها المسيحيون قبل أن يرحلوا ولِماَ لا إغتنام فرصة القلاقل هاته لغنم ما يمكن غنمُه؛ برغم الظلام المُطبق الذي يضيع فيه الطريق، تحول بين مقاعد الكنيسة المُغبرة وبين الرُّدهة ثم إلى غرف صغيرة قبالتها، فلم يشاهد غير الحُطام والخراب والأوراق المبعثرة في كل مكان، إذ كل ما بقي من خزائن وأدرج كانت ملتصقة بالحيطان، ولا وجود لأي أثاث حر، فلا بد من أن تكون كل مقتنيات الكنيسة قد سُلبت.
بينما بدﺃ عمر ينفض الغبار عن حزمة مكدّسة من الأوراق، إذْ به ينتشل كتاباﹰ متوسط الحجم، ما بقي فيه من حروف توحي أنه الكتاب المقدس، فمسحه ووضعه تحت إبطه وراح يفتش عن المزيد، غير أن مُواء القطط المجرَّحة المتصارعة مع الجرذان الضخمة قد أدخل الرعب في نفسه. ولكنه تعاطف كثيرا مع القطط المُكابدة بدون جدوى إذْ لم تقدر على النيل منها لنحافتها وسمن الجرذان التي كانت تعيش في رغد عند الأوروبيين، تلك المشاهد الدرامية المُرعبة جعلته يفكر في المغادرة لكنه ما كاد يفعل حتى ناداه أحدهم، بادياﹰ في هيئة مسلح كالمتمردين تماما، سائلاﹰ إياه : ” – هاي توقف ماذا تفعل هنا؟ -من أنت تكلم؟ – ماذا تُخبأ تحت ذراعك؟ – هي إنبطح بسرعة.
ومن حسن حظ عمر قبل ﺃن يواجهَهُ بالكتاب المقدس بدأت طوابير مُختبئة خلف الكاتدرائية تصوب نيرانها على غير هدى… “إنها خلايا المقاومة يا لحظي. سأحاول الإفلات من هذا المجرم” قال عمر، بينما سارعت مجموعة من المتمردين إلى مصدر الطلقات هرول عكس مصدر الطلقات وهو يلهث أخرج الكتاب؛ إنه زاده الغريب الذي لا يدري ماذا يفعل به، فلغته الفرنسية مازالت ضعيفة حتى يقرأه.
قرر أن يتخلى عنه حتى لا يثير شكوك المتمردين فيرمُونه، بيد أنه قاوم على طريقته، ودخل بين المباني مختصرا المسافات جُهده حتى وصل سالماﹰ، ولم يبطئ وشغَّل الراديو فوجد دعايات المحطات قد زادت وهي تبث أنواع من الشهادات عن “معارك حامية الوطيس” يقال أن أبطالها اعتقلوا “جرذان النظام” كانت مختبئة بكنيسة القديس فلان وسْطَ العاصمة، فتعكر مزاج عمر ولعن أبواق الطواغيت ثم بصق. ولم يوجه ضربته للراديو لكنه غير المحطة بسرعة لينأى بنفسه عن كل تلك الأكاذيب والسفسطآت الإعلامية بالاسترخاء على سريره، وأخذ قسط من الراحة.. وبينما هو كذلك تتناول يداه المتعبة ذينك الانجيل من على الرَّف مطلقاﹰ تنهيدة عميقة، ثم ما يلبث أن يعود ليُلقي به على صدره مستعذباﹰ إغماءة وتمططاﹰ ممتعين. ولم يكن في حل من شيء سوى التمتع بلذة الاسترخاء.
لم تمضي برهة قصيرة حتى تناهت إلى أسماعهِ أصوات وشوشرات الراديو من جديد، فقد عادت فيه الروح من جديد، يبدو أنه كان بعيد كفاية لكي يُصمتَهُ إلى الأبد ثانيةﹰ، لذلك تمنى أن يفهم الراديو نفسه في وقت هو وقت قيلولته، بيد أن الأصوات المنبعثة منه ما لبثت أن استحالت قراءات متقطعة كأنها حشرجات إنسان ثم استوت خطاباﹰ بلغة جميلة أنيقة هي لغة الشعر والرومانسية، لغة موليير التي طالما إستهوته، فأدرك بالخصب في نفسه بكل ما بقي لديه من وعي، عندما لاح في ذهنه طيف تلك الصديقة الخائنة وخيال ذلك القرص المسجل فاستجمع قواه محاولاﹰ فك طلاسم تلك القراءات المتتالية…كأنها محطة إذاعية تبشيرية.. أضحى يستمع بتمعن وتركيز شديدين ويده تعبث بالكتاب المُلقى على صدره، وتقلبه دون وعي حتى تبين له أن المُذيع يقرﺃ من نفس الكتاب الملقى بين يديه؛ فأرسل تنهيدة أخرى كأنها تنهيدة عودة الروح إليه بعد موات فزاد أمله في صبر أغوار تلك القراءات للكتاب المقدس، ومداومة الموعِد حتى تمكن من لغة موليير نطقاﹰ وكتابة.
..و ليته لم يفعل، فقد عاودت عمر أوجاع ذكريات القطط والجرذان والكنائس المحطمة والبلاد الخَرِبة حتى بلغت بهِ الحلقوم، حيث ما برحت ألام الظلم متقدة كجذوة تلازمه كلما اتجه بنظرهِ صوب النافذة، كأنه وقع في مرض لا يعرفه. ربّما هو مرض الوطن المستبد به بعد أن فقه اللغة الفرنسية وصار يفهم ما يُذيعه الغزاة، أم أنه مرض تلك التعاليم التي جاءت جسداﹰ لثوب اللغة لتُحطمه وتقوض كيانه بل تزلزله غير ما مر؟، ” ليتني لم أقرﺃه وليتني لم أْحْبِبه وليتني لم ألتقطه، كأني أصِبتُ بطاعون تلك الجرذان السمينة القذرة في لحظات من غبن وطمع وانقطاع عن الوعي..”.
لقد أدخلتهُ تلك التساؤلات وهم جديد، ليس بوهم اللغة هو، لكنه وهم الفكر المسيحي بوساوسُه جسدتهُ تعاليم ما قرﺃ، فأضحى كالمجنون لا يدري ما أصابهُ، بيد أن كل شيء أضحى يجذبه ويستدرجه ﻹمعان النظر ثم التأمل والتفكير: في الحي قبالة الكنيسة المهدمة أو قرب شوارع الطوابير الخمس المندسة بِأحكام أو قرب نعوش الشهداء المسجاة أو قرب القرب، قرب ضميره وفكره المتحول المناجي لذاته بأعلى صوت: أن أترك لغة الحرب والطوابير وأقبل على لغة السلم والسلام.
…………….
كاتب من الجزائر