وحتى لا أكون مُتجنِّياً على أحدٍ ـ بوضعي البيض كله في سلة واحدة ـ عليَّ أن أؤكد أن ثمة نصوص تنتمي إلى فضاء قصيدة النثر بهرتني كثيراً ووقفتُ أمامها مشدوهاً من طزاجتها وشعريتها الفائقة التي تكمن بعيداً عن بساطة مبتذلة وغموض ليس مرغوباً في حضوره وغير مبرر كذلك. يحدث لي هذا على الرغم من عدم ممارستي لكتابتها..لكنني على قناعة تامة بتجاور الأجناس الأدبية التي تحتوي على قدر من الإبداع يجعلها تقف جنباً إلى جنب.
بالفعل ثمة قصائد نثر تأخذكَ منكَ إلى عالم إبداعي ساحر..حتى أنَّكَ لا تعثر على نفسكَ إلا وأنت تُصفِّق لها ـ وإنْ كنتَ وحيداً ـ إعجاباً بِنَصٍّ..شاكراً له متعةً خاصةً أهداكَ إيَّاها.وما دام الإبداع قد وُجد فلا مجال للحديث عن النوع أو عن المُسَمَّى الأدبي.
(2)
في ديوانه ( حارس الفنار العجوز) يجعل الشاعر عزمي عبد الوهاب الذات الشاعرة تنكفئ على نفسها في قصائد تميل في معظمها إلى استخدام الأسلوب السردي ويتجلى ذلك فيها إلى حد كبيرـ غير أنها لا تغض الطرف عن ذات الجَماعة التي تقوم مقامها في كثير من الأحيان ..إذن لا تتخذ الذات الشاعرة هنا من ذاتها مركزاً تتحرك من خلاله بل هي تستمد مركزيتها من ذات الجماعة.إضافة إلى هذا..تتعدد الحالات التي تتلبسها..حتى يَصعُبَ أن نقبض عليها وهي في حالة بعينها.
ورغم أنَّ مَنْ يقرأ عنوان الديوان( حارس الفنار العجوز)..أو بعض أسطره الشعرية يظن ـ للوهلة الأولى ـ أن هنالك حالة من الانكسار أو الانعزالية تسيطر على أجوائه (منذ عامين /بعثت قطة بموائها إلى هاتف رجل عجوز/كان يتدثر بشتائه متكئا على عزلته./صـ 15 ).. إلا أن ذلك يبدو غير صحيح في كثير من قصائد الديوان.نعم هنا ـ على غير العادة ـ لم تُصب الذات الشاعرة بداء الانكسارالمزمن مثل رفيقاتها في نصوص كثير من الآنيين.بل إن الذات الشاعرة تنتظر هنا آتياً ـ ربما تأمل في قدومه خيراًـ (الرجل العجوز يجلس جنب الهاتف مكتئبا /في انتظار قط يموء له/والفارس الذي لا يشبه أباكِ./صـ 17).
وفي أكثر من موضع نجد أن الذات الشاعرة تطرح تساؤلات شتى لكنها لا تبغي من وراء تساؤلاتها الحصول على إجابة ما..بل هي تتساءل لتقرر واقعا ما..على طريقة قولنا (أليس كذلك؟) ( ما جدوى هذا؟/نحن انتهينا / والذاكرة التي ربيتها على النسيان /لا تجيد الالتفات إلى الوراء.صـ 16 )/( هل فشلت تلك المحاولات /في إزالة العناكب التي بصقت ماءها فوق ظهرك؟صـ 13)/(هل تراك قايضتنا بحفنة من لصوص ؟صـ 21)/( أكان لابد أن نؤرق امرأة/تخطو نحو الماضي/طائعة كالماء، وناعمة كالسكين؟صـ 24)/(أبانا/هل أنت ـ فعلا ـ أبانا؟!صـ 26).ورغم أن الذات هنا تعبر عن مكنوناتهاهي إلا أن ذات الجماعة تتسرب من بين ثناياها..ولهذا يأتي الحديث مصحوباً باستخدام (نا ) الفاعلين بدلاً من ضميرالأنا الفردي . إذن ثمة قضية ما تخص الجماعة تنشغل بها الذات الشاعرة..قضية حقيقية بعيدة تماماً عن تهويمات لا ثمار من ورائها.(أبانا الذي في الشوارع /منحت امرأة واحدة…/ومنحتنا../ فانكشفنا /كنا خارجين…صـ 19،20).من هنا نستنبط أن الذات الشاعرة قد نَحَّتْ هدفها الذاتي من أجل الهدف الجماعي.ومحاولةً منها لتفادي ما يصاب به آخرون..تحاول أن تسمو فوق إحباطات تُولد نتيجةً لمؤثر خارجي..كانت بغيته أن يحطَّ من شأنها..وأن يتغلب عليها في ساحة ومضمار التحدي الناشب فيما بينهما..إلا أنها للحظاتٍ ما..يصيبها قليل من وهن وتعود أدراجها إلى الاكتئاب والانعزال معلنةً أن ما يحيط بها من أوضاع قائمة وحالية أصبحت في حالة من التردي ( كل شئ لم يعد على ما يرام /انخدعنا /أليس كذلك؟ هذا صحيح .صـ 25).
ترى ما الذي أدى بها إلى هذه الحالة ؟( المدينة تبدو كسيدة مسنة/خرجت من حرب خاسرة. صـ 25)
تُرى هل كانت الذات الشاعرة تطمح إلى حدوث شئ يتفق مع ما توده أن يكون أم أن ثمة حلم قد تحطمت زوارقه على عتبات المدينة ؟
كذلك لا تدعي الذات الشاعرة أنها تمتلك عصا سحرية لتقول للشئ كن فيكون ولا تدعي كذلك أنها نقية إلى درجة شفافية الزجاج (لست نبيا كما تزعمين /ولا أنت قديسة كما أزعم /يا خطيئة أخبئها في أوراقي.صـ 69). بل هي لا تزيد عن كونها (أنا الغيمة العجوز/انصرفت ثقيلا كالفضيحة /واختبأت ..صـ 70) .في قصيدة ( حارس الفنار العجوز ) التي أخذ الديوان اسمها اسماً له تنفي الذات الشاعرة وجود أي شبه بينها وبين آخرين ـ وربما تكون تتنصل من ذاتها هي طالما أنها ليست راضية تماماً عمَّا هو كائن..وتود أن تتزيا بذات أخرى لا صلة لها بأشياء مشكوك في نزاهتها ـ (هو لا يشبهني/إنه مجرد حارس فنار عجوز/وأنا لست صانع أقنعة.صـ 83).أما في قصيدة في منزل صغير فهناك حالة من النشوة المفقودة أو التي ما زالت تُلقي بظلالها على الذات الشاعرة (في هذا المنزل الصغير/فتحنا الأبواب للغناء/ مسحنا البلاط جيدا.صـ101)
هنا تعلن الذات الشاعرة أنها قد تخلت عما كان جاثماً على عاتقها فَرِحَةً بالتملص منه آملة فيما هو آت..لكن ما حدث كان عكس توقعها (من أين جاءت كل هذه الجثث/لتحتل الغرف المكتظة بالحياة/وتتركنا في الخلاء/لا بيت لنا .صـ103).
إذن لقد تبخرت أحلامها غير أنها لم تفقد ثقتها بذاتها ومازال يتبقى في دواخلها باقة بصيص من أمل حتى أنها تعلقت بسحابة أمطرت فوق عاشقين صغيرين.
وبعد أن استراحت الذات الشاعرة في كنف عزلتها قليلاً..عادت ثانية لتسلط عدسات كاميراتها على الواقع الجماعي واختارت هذه المرة صنفين من البشر ( قاتل وقتيل )..القاتل هو المُغْتصِب اليهودي الذي يشبه الآخرين في كل شئ سوى في ظمأه الوقح لدماء أبرياء لا ذنب لهم . يتجسد ذلك في قصيدة القتلة التي يهديها الشاعر إلى أطفال قانا رغم أنف قصيدة النثر( هل يشير هنا الشاعر إلى أن قصيدة النثر لم يكن من أهدافها أن تهتم بآخرين فجعلها هو تهتم ؟ أم أنه يُلوِّحُ ـ من بعيد ـ إلى أشياء أخرى؟).(يا إلهي /إنهم يشبهوننا تماما !صـ127).
لكن هؤلاء الذين يشبهوننا تماماً..لهم أقارب ـ أو بالطبع هم ـ يفعلون ما لا يقوم بفعله إلا سافك دم (يحشو أقاربهم الطائرات بالقنابل/القنابل التي لا تأسى لبكاء طفل /أو شيخ /يتكئ على حزنه في صمت.صـ132).
وفي ختام هذه القصيدة يعلن الشاعر أننا نصبح أحياناً أعداء أنفسنا..بالطبع يحدث هذا عندما نُطبِّل لأعدائنا ونباركُ تصرفاتهم متوهمين أن ذلك قد يأتي بمردود طيب ،لكن هل نسينا أم (نُنَسِّي) ـ إن صح استخدام هذا الفعل ـ أنفسنا أن ذيل الكلب لن يستقيم أبدا؟(صدقوا فقط/ أنهم يشبهوننا/في الهزيمة التي تأكل الروح/أنتم لابد تعرفون /أن اليد التي تقتل الحياة هناك/هي اليد التي ترفع الشعار هنا/أن يدا صغيرة تمتد من تحت الركام /نهديها دمعة مالحة /لنصبح نحن أعداءنا؟/الذين يشبهوننا تماما !صـ 135،136).
بالطبع ليس هناك أسوأ من أن تصبح عدو نفسك ! لا بل هناك أسوأ..الأسوأ من ذلك أن تتحول أنت إلى أداة في أيدي أعدائك .