للوهلة الأولى، يبدو الواقع الذي افتتح به خشبة المسرح شبيه بواقعنا، فليس هناك من شيء خاص، سواء في شخصية الزوجة الشابة نورا التي قدمت دورها الممثلة (نانسي منير)، التي تعيش حياة تقليدية ضمن الدور المرسوم لها، والذي تتعامل من خلاله مع الحياة. فهي المرأة اللطيفة الوديعة المحبة الضعيفة، التي هي بحاجة إلى حماية زوجها هيملر، ولكن اختار الدراماتورج (فيصل رزق) لحظة البداية بالتوهم بالحياة السعيدة بين نورا وهيملر الذي يقوم بدوره الممثل (إسلام علي)، حيث يركع هيملر على قدميه ويطلب الزواج من نورا بعد أن أحبها وذلك داخل مشهد البداية، الذي انتهى بأن ربط هيملر يد نورا خلف ظهرها، لتبدأ حياتها الزوجية معه، أي مع تقبل فرض سيطرة هيلمر وأفكاره الذكورية عليها، فلا يجوز لزوجة هيملر أن تعمل حتى ولو كانوا في أشد الحاجة لذلك، وهذا الرفض لم يكن له مبرر سوى مزيد من فرض الملكية عليها، ولكن ذلك لم يمنع نورا من مسؤولية التفكير وتأمين المعيشة، فلجأت إلى حياكة الملابس وبيعها. وعلي عكس هيلمر الذي رسمه إبسن في بيت الدمية، كان هيملر في العرض لم يكن يحمل في رفضه عادات و تقاليد المجتمع بقدر من كونه رفض من معتقداته الشخصية.
حاولت نورا في عرض “العش” التمرد على نمط الحياة-الفارغة والرتيبة- التي فرضها هيملر، من خلال عملها، ولكن بمزيج من المراوغة والتحايل، بين كونها تحب زوجها وبين كونها تريد التحرر من ذلك العش الخانق لكيانها، لذلك فعل الدخول والخروج سواء بالنسبة لنورا أو لباقي الشخصيات أمر سلس ولا يحمل أي تعقيدات اجتماعية. بالإضافة إلى هموم طبقة اجتماعية التي تنتمي إليها وأن تشارك في العمل مع هيملر، والجدير بالانتباه أن نورا كانت تدافع عن قضية شخصية تمسها فقط ولم تكن رمز للمرأة بشكل عام أو تحمل عمق المشكلة التي تعانيها، لذلك لم يكن هناك تحولات في شخصياتها، بل هي تمردت على والدها وتزوجت هيملر وهي الآن تتمرد بالتبعية على هيملر الذي اطفَئ نورها. فهي مهمومة بأحلامها الشخصية وسعادتها.
بُنيت دراما العرض على شاكلة الدراما الثلاثية، ترأسه نورا، فى الضلعين هيملر، والدكتور رانك الذي يلعب دوره (ميشيل ميلاد) -الحائز على أفضل ممثل في المهرجان- الذي قدم دور العجوز بروح كوميدية و بتفصيلات الجسد المتقنة، من حيث انحناءة الظهر أو حركة القدم. ولعب رانك مع الجمهور قبل أن يلعب مع نورا في المراوغة بحقيقة مشاعره تجاه نورا. رانك تولى تربيتها وحمايتها حتى أصبحت زوجة، لكن مع أول دخول له إلى المنزل نبدأ في التشكيك في حقيقة علاقة نورا ب هيملر. فهل يجمعهم الحب أم القمع. وفي النهاية يبوح رانك بحبه كرجل -ليس كأب أو مُربي- لنورا. إلى أن نصل إلى لحظة الكشف من الثلاث شخصيات في جلسة عشاء وتتوسط نورا المائدة ويتبادل كل من رانك وهيملر الأماكن خلف نورا عندما يتحدث كل منهم عن مشاعره تجاهها.
استبدل مصمم الديكور(أحمد فتحي) منزل هيملر الثري عند إبسن، إلى منزل من شباك المصيدة، وعيدان خوص وقطن متناثر، منزل هش، قابل للسقوط والانهيار مع أقرب تيار ريح، وبالفعل يسقط سقف المنزل عندما قررت نورا التعبير عما بداخلها وكشفت لعبة النزاع على الملكية بين رانك الذي يراها تحفة فنية، و هيملر الذي وضعها في حقيبة ممتلكاته لا يمكن التنازل عنها. فهل كانت الشبكة التي تكونت منها سينوغرافيا العرض، هي رمز لاصطياد نورا داخل بيت هيملر، أم كانت شبكة الحب التي أوقعت كل من هيملر ورانك فى حب نورا .. أم كانت شبكة التي وقعت فيها نورا داخل الحياة الاجتماعية وسلبت منها أحلامها فى الحرية المزعومة!، يمكن أن تكون كل ذلك. لما كان الرمز عند إبسن ليس تحقيق حقيقة مجردة، موجودة في المطلق، وإنما هو مفردات تكمن داخل صورة تتمثل فيها القدرة على مراسلة مشاعرنا الواعية بمضمونها الفكري، استعان المخرج ومصمم الديكور بالرمزيات في العرض، كالشباك أو القطن أو شجرة عيد الميلاد التي ترمز إلى حياة نورا وروحها التي كانت من قبل مشرقة ومُفعمة بالحياة والآن هي تقترب من التلاشي. ورُسمت هذه الرمزيات بالإضاءة التي صممها (محمود طنطاوي) فنقلت حالات الحب والتمرد والاحتفال بليلة العيد بين نورا ورانك.
يكاد يكون الأداء التمثيلي من الركائز التي يقوم عليها عرض “العش” في حين الدراما كان يعوقها بعض المُببرات والنتائج التي تدفع بالشخصيات إلى القيام بأفعال وبالتالي تحولاته، فما دافع التحول الذي طرأ في النهاية على هيلمر من الداخل بعد رحيل نورا عنه، جعله يسعى إلى إرضائها من جديد؟!. كما ابتعد المخرج عن الركيزة التي بُنيت عليها قضية “ابسن” الاجتماعية والواقعية التي طرحها فى نصه، إلى مونودراما، مجرد أفراد لديهم مشكلات ذاتية وليس لها أبعاد أو تشابك مع الواقع الاجتماعي الذي يعيشون فيه، لذلك خروج نورا كان يحمل مٌعضلة إلى هيملر، وبعد خروجها حاول أن يعيد ترتيب حياته حتى يحصل علي نورا من جديد ولم يحمل معه قلق اجتماعي و خوف من اختراق التقاليد. وكذلك الحال بالنسبة لنورا التي صبغت بالبيئة والحياة المصرية، حيث سعت كأي امرأة مصرية إلى مساندة زوجها، وخروجها للبحث عن ذاتها أو للبحث عن الحرية لم يكن بهدف الخروج من بيت الدمية، بل مجرد الخروج من العش.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ناقدة مسرحية