جلس الصبى بجوار جده الطاعن فى السن، شغوفا لسماع بقية القصة، قصة الجبل الذى أصبح مزارا ويحتوى فى باطنه على ضريح الشيخ الذى إختاره دونا عن بقية الجبال والتلال لتكون فيه راحته الأبدية.
من الناحية الجغرافية لا يختلف جبل “حميثرة” فى شيء عن بقية الجبال على امتداد الساحل الغربى للبحر الأحمر كله، لكن مايميزه هو وجود ضريح الشيخ “الحسن الشاذلى”، ذلك الرجل الذى بنى قبره بنفسه وفى ليلة وفاته صعد الجبل فرأى الحجاج على جبل عرفات فسلم عليهم ودعا ربه ومات، ومن لحظتها يقتفى مريدوه وأتباعه طريقه، فيقفون فى الموضع الذى أسلم فيه الروح ويتوجهون بأنظارهم نحو الشرق،عبر الصحراء والبحر فيرون بقلوبهم ماتعجز العيون عن رؤيته.
أيام قليلة متبقية على “الليلة الكبيرة”، والصبى ينتظرها بفارغ الصبر، فهذه أول مرة يشارك عائلته فى التحضير لها وخدمة المريدين، يعرف يقينا أن العمل شاق ومتعب،ولكنها التقاليد،فمنذ وفاة الشيخ والعائلة تقوم بحراسة الضريح ولا عمل لديها سوى ذلك، لم يشذ أحد عن تلك القاعدة أبدا، حياتهم كلها تدور بين سفح الجبل وقمته.يستقبلون المريدين ويودعونهم، ينتظرون الليلة الكبيرة من العام للعام، عيدهم يوم يخرج الجد الكبير المفتاح الذهبى من مخبئه ويفتح الضريح الموغل فى القدم،فتهب عليهم رائحته المعتقة،يستنشقونها بشوق ولهفة العاشق المتيم،ويغسلون قلوبهم بتلك الطمأنينة التى تشع من الداخل.
يقول الجد: ” كان الشيخ ذاهبا للحج ولكنه كان يعرف أنه لن يحج، جاء إلى هنا واعتكف، ترك القافلة وجلس فى ظل الجبل ولما سألوه لم يرد،صعد للأعلى بسهولة ويسر وكأنه يعرف الطريق دون صعوبات، نظر ناحية الشرق وبكى، لم يعرف أحد سبب بكائه أبدا:هل كان فرحا أم حزنا؟ولكن ماعرفوه أنه لن يستكمل الرحلة، وأن أسطورته سوف تكتمل حول هذا الجبل“.
لم يسكت الصبى وظل يطرح السؤال بعد السؤال، والجد يجيبه بكل أريحية وبشاشة وسعة صدر، يعرف أن حفيده يريد معرفة كل شيء، والتثبت من كل معلومة، حاول مرات ومرات أن يقول له بأن الشيخ “نفذ من التاريخ إلى الأسطورة” وليس مهما كتابة تاريخ الرجل لأن المهم هو تصديق الأسطورة وهذا كاف جدا.
……….
الحادثة
كنت مستندا إلى حائط أنتظر دورى فى مصافحة السيد رئيس الجمهورية حين بدأت حركة غير عادية، إثر ظهور رجل يحمل ملامح سلافية،غير متزن، يلوح بكلتا يديه ويثير ضجة بكلام لايفهمه أحد، حوطه رجال الحراسة بسرعة، أخرجوا من أحد جيوبه شيئا يشبه البيضة، ولكن غامق اللون، رماه أحدهم بعيدا فأحدث دويا أقوي قليلا من دوى بمب العيد.
لم يكن من المفترض أن أكون فى هذا المكان أصلا، بل كان يجب أن أذهب لمحطة السكة الحديدية أنتظر صديقى العائد من الجنوب، والذى أوصيته أن يشترى سمكا وبعض الملابس، حتى شدنى الحفل، وشدتنى طلعة الرئيس البهية بوجهه المستدير، وصلعته اللامعة، وبشرته التى تشبه لون الأسمنت.
قبل انفجار القنبلة وتفرق الجمع، داعب رئيسنا أحد الوزراء – بخفة دمه المعهودة – أن يغير تاجر المخدرات الذى يشترى منه الصنف لأنه ثبت – بتحريات رجال الأمن – أنه لا يؤتمن بالمرة.
وبعد انفجار القنبلة ساد الهرج والمرج، انتشلوا الرئيس من وسط الجماهير وانطلقوا به لمكان غير معلوم، وأنا لازلت خلف الحائط الخرسانى الذى لا أعرف لماذا تم بناؤه فى هذا المكان تحديدا؟ وصرخ أحدهم أن قنبلة أخرى على وشك الانفجار، الصوت كان قريبا جدا، وكذلك الانفجار، تطايرت من حولى شظايا صغيرة لأشياء معدنية كالزجاج أو المسامير، شعرت ببعض الألم فى أنحاء جسدى، ربما هذه آلام ماقبل الموت، ولكن فجأة تلاشى الوجع، وأخذت حقيبتي ومضيت بين الجموع المتفرقة أوزع السلامات والتحايا، وأسأل أحدهم هل جاء القطار فى موعده أم لا!؟