إنما يقدم كتابة تحتية، شخصياتها من لحم ودم، أبطالها يدورون فى الشوارع لا فى الغرف، يئنون من الجوع لا من الوحدة مع المحافظة على الشرط الجمالى، فكما يحدد “جوتة” قيمة الأعمال الأدبية الناجحة التى تستقى (نظرة واحدة فى كتاب، ونظرتان فى الحياة)
التفكيرالخرافى
يسيطر على شخوص المجموعة نزوع لا عقلانى فى تعاطيها مع أمور الحياة، وإيمان بقوى غيبية تملك حل أزماتها الوجودية، فهى شخوص مغيبة لا ترى العالم إلا بعيون الآخرين. تتضح هذه النظرة الاتكالية فى قصة (طاقة القدر). “إبراهيم المغربى” صوفي اعتزل الناس، وهجر تجارته حتى تتجلى له نقطة النور. إنها عملية مقايضة الدنيا بالآخرة وفقًا لتأويلات دينية مغالية. تسلب من الإنسان عصب الحياة من خلال تحالف الدينى بالسياسى كآلية من آليات إنتاج القهر تمارس عبر الأزمنة. أما قصة (الحلم السابع) فتتصارع فيها رؤيتان، أو نموذجان؛ لإثبات وجهة نظرهما. الأستاذ “فتحى البطراوى” مدرس التاريخ – لاحظ دلالة مادته- يعتقد فى الشيخة “عفت” لشفاء آلام قدمه فى مقابل الأستاذ “عصام” مدرس الكيمياء صاحب التفكير العلمى.
– يا أستاذ دى خرافات ملهاش أساس.. جسم الإنسان ده خلايا يعنى كيمياء وفيزياء والمرض عبارة عن خلل كيميائى أو فيزيائى لا يعالج بالخيالات. صـ 12.
طوال السرد يقوم الراوى بخلخلة عقلية القارئ من ثوابتها القارة، وتقاليدها الراسخة؛ حتى ينتصر فى النهاية للعلم رافعًا صوت العقل مخرسًا صوت الخرافة. فى (لون يمنع الحسد) تمثل الوعى الشعبى فى حماية اللون الأزرق، أو الخرزة الزرقاء من الحسد ودرأ العين، فالمِعلّم يخشى على فحولته الجنسية؛ فيقوم بطلاء البيت باللون الأزرق. القاص يشير إلى أن الوعى الجمعى أسير إرث من المعتقدات والخرافات تعادى العقل، ولا سبيل بغربلتها سوى بنهضة تنويرية.
التشيؤ والاغتراب
تشيع روح العزلة، والغربة، وفقدان التواصل الإنسانى بين أجواء القصص. ثمة شخصيات تسير بلا هدف. بطل قصة (تجوال ليلى) يهوى التجول فى المساءات المطيرة (يود لو تظل تمطر إلى الأبد.. لو يظل يمرح فى تلك المساحة من التلذذ والخوف بداخله..)صـ53 بحثاً عن لحظة صفاء قد يجدها فى الجنس، أو فى سيجارة حشيش، ورأبًا لشروخ ذات مغتربة.
يلعب على المفارقة بين اسم البطل، وواقعه المؤلم فى قصة (يوم سعيد) سعيد المتشيئ الذى لا يجد لحياته قيمة أو معنى، شاعرًا بضالته، وتلاشى فرديته فى مواجهة مؤسسة المجتمع الكبرى.
بعكس المفهوم الشائع عن الوحدة كانت العزلة نجاة، ووسيلة؛ لالتقاء البطل مع ذاته، ومساحة للتأمل والسلام بعيداً عن تعقيدات الواقع. فى قصة (هروب). نلاحظ أن القاص لم يحدد للبطل اسمًا أو هوية، فيرفع حالة التخصيص إلى عمومية الحالة. كأننا جميعًا بحاجة لهذه العزلة الملهمة.
تثوير السرد
نلمح البعد السياسى فى بنية السرد خافتًا لا يظهر بقوة سوى فى الختام، كبارقة أمل، وفتح أفق للمعذبين، وبشارة بثورة تلوح. أيضًا يجعل تراتبية فى قراءة القصص مما يؤهلها أن تكون متتالية قصصية لا مجرد قصص مجمعة. يؤرخ القاص للمكان فى قصة (الذين يرثون الأرض). يرصد التحولات الاجتماعية، والسياسية فى نصف القرن الأخير التى جرت للقصر. كمعادل موضوعى لمصر. القصر تحول من الفخامة والأبهة فى العصر الملكى إلى ملكية للشعب حيث جيوش الموظفين، وطغيان ثقافة الكم فى ظل اشتراكية “عبد الناصر”، ثم إلى مولٍ تجاري فى عصر الانفتاح وسياسات السوق، ووقوع الوطن بين براثن الرأسمالية المتوحشة. أخيرًا يعود القصر إلى الشعب ولو رمزيًا فى صورة سويقة. كما نرى المقاومة الناعمة فى قصة (نجلا) التى تتشبه بالرجال فى ملبسها لصد الطامعين فيها على غرار بينلوب “أوديسيوس” حيث ينفتح النص على ثقافات عالمية تكثيفًا للدلالة، وتوسيعًا لمدرات أفق النص السردى.
الشغف بالحكى، والافتتان بالمغامرة جعل أغلب القصص تنحو نهجًا تقليديًا فى البناء حيث تتكون القصص من بداية ووسط ونهاية بالشكل الكلاسيكى المألوف للقصة.
توظيف تقنية الحلم بما لها من إحالات وإسقاطات على الواقع، وتعرية نفسية الشخوص، وكشف خبايا اللاوعى. قصة (الحلم السابع) الأستاذ “فتحى” يرى فى منامه خيالات حسية مع المدرسة الشابة، فهو يعانى من حرمان عاطفى ناسيًا آلامه الجسدية.
استخدام آليات الفنون البصرية كفن السينما عبر تقنية المونتاج. قصة (انفجار إطار أمامى) يقطع على وجوه ركاب السيارة مبينًا أزماتها برهافة وحس سينمائى حيث تتشابك خيوط الأحداث، وتتجمع مصائر الشخصيات فى لحظة واحدة.
وقع الكاتب فى فخ المباشرة فى قصة (الكرسيولوجى) وصنع لها مقدمة كما كان يفعل كتاب القصة الأوائل. كما أن اختيار العناوين كان فيه استسهالًا، جاءت تعليقًا على الأحداث، واختصارًا لمغزى الحكاية، وليس صنع جدل وتفاعل بين المتن والهامش مثل (لون يمنع الحسد/ طاقة القدر/ يوم سعيد(
تتعدد مستويات اللغة بين الحيادية التقريرية التى تكتفى بوظيفة الإخبار والتوصيل. كرد فعل لعالم متشيئ، قاس، خال من الجمال “وصل إلى البيت تناول طعامه، واستلقى محاولًا النوم فلم يتأت له.. أعد شايًا، وجلس أمام التليفزيون يدخن.. تنقل بين القنوات.. مسلسل تركى مدبلج يعاد للمرة الثالثة..” صـ5. ثم تكتسى اللغة ثياب الشاعرية، وجنوح الخيال فى قصص تتكئ فكرتها على الحلم والفانتازيا. “رأيته الليلة، كانت قدماه على الأرض، ورأسه يثقب السماء.. كان القمر يتوجه بدرًا، والنجوم حول وجهه، تطال يده ثمار الأشجار وتطوى خطواته المسافات البعيدة.. ليس بزاحف، ولا طائر، وليس كمثل الدب، ولا الفهد، ولا الأسد..”صـ81
……………..
*شاعر وناقد مصري