نرسيس الجديد
محمد رفيع
لم يكن ذلك اليوم عاديا بل كان الأخير، حين وقف الدكتور آدم أمام المرآة فى أبتسامة ناصعة ، أبتسامة كجبل الثلج لا يظهر منها الا اليسير ، ويضئ باقيها الاعماق، الببيونة السوداء أمسكت بتلابيب قميص أبيض، والسترة اللامعة لا يلبسها الا عريس فى تلك الليلة، لكن المرآة لم تندهش لهذا المنظر الساطع ، ولا لان الدكتور ارتدى جونلة بيضاء وحذاء فضي، بل ربما لان أمرأة جميلة تسيل دموعها في صمت هى التى تشرف على وضع اللمسات الاخيرة وترش عطرين ممتزجين على يديه وسترته وقرب الوجنتين. كانت تلك هي مساعدته ليلك التى تتلمذت على يديه فى السنوات الاولى قبل ان تكتمل المأساة بحلاقاتها المريعة، ولو عدنا لتلك السنوات لعرفنا ان هذا النابغة له أبحاث غيرت وجه الارض والسماء معا .
والحكاية الاولى بدأت عندما حول آدم كثير من الرجال الى نساء وكثير من النساء الى رجال ، بل أعاد المتحولون لنوعهم الاول حين طلبوا ، لكن فريقا من الناس كره تلك العمليات وكاديفتك بآدم وفريقه، وأنبرت أقلام وصدحت منابر ، تتهمه بكل نقيصة ، وتطلب القصاص منه ، فاعتلى المنابر من قال ان آدم يعصف بنصف الدين، فلو حول امرأة الى رجل وهى ناقصة العقل والدين فكيف ان يكتمل دينها وعقلها ، واذا حول رجل لامرأة فانه يكون قد عصف بدينه الكامل وجعله ناقص الدين والعقل ، وامتلأت المحاكم بقضايا الميراث التى تغير جنس اصحابها ، فتحولت الانثى لذكر فى الميراث وبعد النطق بالحكم تعود لسيرتها الاولى، حتى صك تعبيرا قانونيا لم يكن موجود وهو "ذكر منذ الولادة" ، ومارت الدنيا وصارآدم مطلوبا للتحقيق والقتل مسفوح الدماء من دول وقارات ، كانت تلك العمليات فى ما مضى تحدث على نطاق ضيق لكن جرمه ان جعلها بسيطة وسريعة وغير مكلفة ، لم ينقذه من فتك الناس به كلامه فى هذا المؤتمر حين قال :
الا يكفيكم ان ظاهرة العنوسة اختفت ، الا تذكوروا كيف فتكت ببناتكم ، فمن فاتها القطار لا تقف على الرصيف مكتوفة اليدين والارجل ، بل تركب هى القطار بعد ان تصير رجلا وتبحث على رصيف القطار الذى وقفت عليه البارحة، إختفت البطالة التى فتكت بشبابكم فكل شاب يتخرج ولا يجد عملا لسنوات طويلة ، يمكن ان يغير نوعه ويتعلم الطبيخ والغسيل ، لم يعد أحدا يهرب من الجيش فمن لا يريد التجنيد ،يحول نوعه منذ البداية فلا يكلفه الهرب من الجيش حياته، فصارت الجيوش أنقى لا يدخلها الا من فى صلابة الحديد، انتصرنا على الموت ياسادة ، فمن ماتت زوجته وتركت له صغارها ، تحول الى امرأة و عشش على صغاره ، ومن مات زوجها وترك لها ديونا تحولت رجلا وحمت نفسها من الترمل وطمع الناس فيها وسددت ديونها ، لم يقتنع الناس بما قاله الدكتور آدم وقال بعضهم ان هذا التحول الغريب فى مسار البشرية ، ولد مشاكل جديدة لم تكن موجودة وتلاعب الناس باقدارهم واقدار ذويهم بتلك العمليات، فالمتهم بالاغتصاب يجرى هذه العملية ويتحول لامرأة ويفلت من العقاب ، وصار الناس يتلاعبون بالميراث والاطفال واليتامى ، ويهربون من العقاب ومن الجيش ومن المسؤولية ، من الزواج ومن الطلاق ، يهربون داخل رداء آخر يهربون بنفس الجسد .
حتى فريق آدم أنسحب من أبحاثه واحد تلو الاخر تحت التهديد والانسحاق والخجل والكفر بالفكرة الاولى
وحدها ليلك صاحبته وطورت معه أبحاثه ولم تتركه حتى النهاية ، تلك النهاية المخيفة التى عادت فيها وحدها وفى قلبها حزن العالم بأثره
لكن ليلك الصغيرة ظلت مع آدم وهو يواصل أبحاثه حتى صار التحويل سريعا وأبسط وأبسط ، فقد وصلا معا الى معجزة فى ذلك المجال ، فبالحقن المجهرى للخلايا والهرمونات وبعد الاشعاعات ثم صار كل انسان قادر على تحويل نفسه بنفسه دون دخول غرف العمليات ، حقن لبعض الخلايا فى ذلك الموضع ، ثم تعليق محاليل من الهرمونات والمضدات الحيوية والمنومات ، فيغيب فى ثبات عميق لثلاثة أيام ، تنمو فيها الخلاية المحقونة لتغير الاعضاء ، تنمو الخلايا بسرعة الجنين ، وعند انقضاء اليوم الثالث يصحو الانسان وقد تغير جنسه من رجل لامراءة أو العكس ، المشكلة لم تكن فيما أحدثه هذا الاختراع من انقلاب غير كل شئ على وجه البسيطة ، المشكلة حدثت للدكتور آدم نفسه حين اخترع طريقة ذاتية ينام فيها الانسان لثلاثة أيام ثم يصحو وقد تغير كل ما فيه ، المأساة بدأت حين جرب ذلك على نفسه عدة مرات لدراسة التغيرات النفسية والدينية وعلاقة الانسان بالسلطة والاطفال ، والجنس ، علاقته بأزماته الداخلية ونواقصه ، علاقته بالله ، هل الله الاوحد يكون نفس الاله لو بدلنا نوعنا ، كيف سأهابه وأحبه وانا فى الرداء الاخر من الانسانية ، كيف سأدعوه وأتبتل اليه فى كل مرة أغير النوع فيها ، كيف سأحب وأكره ، ما علاقتى بالروائح والاطعمة بالملمس ، كيف أعيد أكتشاف حواسى مرة أخرى ، لم تكن المشكلة فى مكامن الانوثة أو الرجولة المشكلة الاكبر فى الاجزاء الاخرى التى تشعر ، هل البرد والدفئ لهما نفس الوقع هل الخوف والتهور هل الورد والحشرات لهما نفس التأثير ، ماذا عن جراحى وأعتزازى ماذا عن ذكرياتى ومستقبلى.
تحول الدكتور آدم الى دكتورة لكن ماسمها ٍماها أدم ليليت، على اسم المخلوقة الاولى المكتملة ، المخلوقة التى قال عنها آدم الكبير أم الحور العين وقالت حواء عنها انها تحولت شيطانة وتزوجت أبليس ، لكن ليليت الجديدة هى نفسها آدم لأيليت الجديدة ليست من ضلع آدم انها آدم ذاته.
جلست ليليت تحكى شعورها ودواخلها أمام كاميرات الفيديو تمارس حياتها الجديدة لشهر كامل ، ثم تعود ثانية بعد نومة الثلاثة أيام لتصير الدكتور آدم ، الذى ما ان يصحو من نومه ليذهب الى كاميرا الفيديومتلهفا ليستمع لليليت ويدون ملاحظاته ، ذهب آدم وجائت ليليت عدة مرات وفى كل مرة يذداد شعورا جديدا لكليهما فلا ليليت الثالثة هى مثل ليليت الاولى ، فالثالثة عادت رجلا مرتين، فتغير أحساسها بالانوثة وبالحياة بالطبيعة وفى كل مرة كانت تسجل احاسيسها بالفديو وبالقلم ، الغريب ان آدم أيضا تغير وأقترب أكثر من روح الانسان المكتمل ، تغيرت نظرته الى الحياة وأعاد تقييم الاشياء من جديد أحساسه بالجمال أختلف وأهتمامه بالتفاصيل وحفاظه على مظهره ، اكتشافه لحواسه ملمس الجرائد في يديه أختلف ، لفح الشمس لخده لون البحر آدم يمتلك ذكريات عديدة ذكريات عن المكياج والغليون ذكريات عن تقليم الاظافر وحلاقة الذقن عن الخروج فى الليل والتسكع فى الطرقات فى الحالتين فعل ذلك مرات ومرات حتى شعر انه بحاجة الى ان يسجل كل ما يعتريه من مشاعر وما يمور فى عقله من أفكار، فأستعار من ليليت كاميرتها ، وقال : ان الانسان يكون أكثر ألتأما بعد تكرار التغيير مرات ومرات ، فشعورك بالخوف ينعدم ، والتحامك بالله يكون أكثر وحبك الى الحياة يأخذ اشكالا وأطوارا جديدة، بعد ان كان الدكتور آدم يقيس كل الامور بالعقل والقياسات دخل القلب فى الموازنة وأصبح للمشاعر الغامضة بالبهجة المفاجئة أو الانقباض المباغت مقاييس ، صارت معادلات الحب تؤخذ فى الحسبان وأمتزج الوعى بالاشياء بالاحساس بها ، وتغير شكل التعامل مع الذات ومع شروخ الروح ، وصف آدم كل ما اعتراه ، وصار يرقم التجارب الى آدم الرابع وليليت الخامسة ، وصارت ليليت تسمع كل ما يسجله آدم من ملاحظات ومن أغانى وموسيقى يعزفها ، كل هذا كان طبيعيا لكن المأساة تحلقت حول رأسيهما الواحد وقلبيهما الواحد عندما خطت ليليت أول خطاباتها المباشرة الى آدم ، بادية بعزيزى الدكتور آدم ، معلقة على الفيديو الذى سجل والاغانى التى غناها، والملابس التى يرتدى ونظرة عينه الحزينة ، شئ غريب أعترى الدكتور آدم شئ جنوني لكنه الحقيقة ، حقسقة بدأت كالدبيب ثم استفحلت شعر انه سقط فى حب ليليت، فكر طويلا فى كيفية حدوث ذلك من الناحية العلمية ، لكن العلم لم يجب على السؤال ، فاليذهب العلم الى الجحيم والمنطق أيضا ليليت تكبرأمامي ليليت ـشعر بآلامى ليليت تكون الذكريات معى هكذا قال ومع اقتناعه بعبثية هذا الشعور الا أنه سقط فيه وحواه بئر سحيق لم يستطع الافلات منه، شعور دافق بالعشق ، عاد مراهقا يبكي بلا سبب وينقض عليه الشوق ، صار يصفف شعره بطريقة جديدة ويرتدى ملابس جديدة قبل ان يصور الفيديو صار يعزف مقطوعات عزبة على التشيلو ويهديها لها ، نعم لها.
حدث ذلك وليلك لا تستطيع منعه بل تعاطفت معه وصادقت الاثنين وكونت معهما الذكريات ، كادت تجن من الفكرة لكنها ظهرت فى فيديو آدم مرة ومرة رقصت مع ليليت أمام الكاميرا فرحا وطربا .
ترك آدم البحث فى الحقائق وتفرغ للحب، ولم يعد يبالي بآدم العاشر أو ليليت الخامسة عشر ، صار الحب محموما ، أما ليليت فتحولت خطاباتها لكلمات ملتهبة ولواعج عشق حارقة، فقط ثلاثة أيام من النوم وبعض العقاقير يفصلان بين الحبيبين، صار الفيديو المسجل هو مكان اللقاء وأمتلأ البيت بالهدايا التى يهديها آدم الى ليليت و تهديها ليليت الى آدم، رابطة عنق على زوق ليليت وقصرية من الورد على زوق آدم ، علبة مكياج كاملة لليت وأسطوانت وأفلام جديدة لآدم ، أهدى آدم ليليت قميص نوم وردي وأهدت ليليت له بيجامة زرقاء ، أشتعل الحب والاغانى والاشعار ، لكن الحبيبين البائسين لايلتقيان الى من خلال الفيديو السخيف البارد ، غير الممسوك غير الملموس الذى لايمكن أحتضانه فكيف لأحدهما أن يشعر بأنفاس الاخر كيف يتلامسان كيف يتغلبان على النوم المقيت الذى يفصل بينهما .
حزنت ليليت وتهتكت روحها وقررت الا تعود ألا تضع المحاليل مرة أخرى ، والغريبة انها كانت تسأل نفسها هل آدم فى الضفة الاخرى ينتظر هل يتعذب مثلى وما جدوى ذلك ومن أوقعهما فى هذا الشرك اللعين أحرقت كل شرائط آدم وبكت فى أحضان ليلك، كان مكتوب عليهم آدم الاول والثانى والعاشر شعرت انها كانت تحبه وهو يتطور من آدم الى أخر وهو يحكى ويحكى ، كانت مشتاقة له لان ترى شريطا جديدا يبثها أشواقه جربت أن تخرج مع رجل جديد ، فشعرت انه قديم جدا كما لو كان جاء من الزمن السحيق، كيف لامرأة مرت بكل تجارب الاكتمال هذه ان تحب رجلا واحدا أحاديا رجلا سخيفا منذ الولادة، رجل ماذال بشروخه الاولى، بكت وصرخت وانهارت ومرضت ، وراحت فى غيبوبة تشبه الموت. كان جسدها يرفض الحياة وكان آدم هناك فى الاحلام يسألها لماذا لم تعد لماذا هجرته أهان عليها هل قررت قتله ، كان يغار عليها ويسألها ماذا ستفعلين تتزوجين تنجبين ، استيقظي يا ليليت كى تعيدينى أستيقظى لابد أن أكونك لابد أن أرى تسجيلاتك أن أراك بقميص النوم الذى أهديته لك ، لابد من هذا العبث ان يكتمل فالحياة هى العبث الاعظم استيقظى لكن ليليت لم تستيقظ وطالت غيبوبتها، وحارت ليلك ماذا تفعل حارت فى نفسها وشعرت انها ناقصة مشروخة حزينة لا يمكن ان تفقد الاثنين معا ، كيف لها ان تعيش وقد أحبتهما معا وتتلمذت على يديهما ، هل تحقن ليليت وتحولها الى آدم دون ارادتها و تتزوجه ، هل يمكن ان ينسى ليليت ، هل تترك ليليت تموت ماذا تفعل ، هل لو رحلت وتركت الله يقرر هل تصحو ليليت أو تموت هل يمكن أن تعيش يوما بعدها هل تتحول الى رجل أم ستعيد المأساة ، لم يكن أمامها الا أن تسأل شخص واحد شخص علمها منذ البداية شخص تحبه ، هل تحبه؟ قررت ليلك أستعادة آدم استاذها وحبيبها ، فحقنت ليليت وانتظرت ثلاث أيام تحملق فى السقف تبكى تستحم بماء الورد، تشرب القهوة ، تمشى بلاهدف ، ثلاثة أيام كأن الحياة تبدأ من جديد الخليقة تتكون البشارة الصراع يولد ويترعرع ، الخوف يعتريها كلما مر الوقت ، استيقظ ياآدم أستيقظ يا من أدخلتنا فى هذه اللعبة الجهنمية كم أحبك وأكرهك ، هل قتلت ليليت ، هل يعود لها لو عاد لن يجد فيديو مسجل هل يغضب يحزن يقرر أن يفارقها ؟ استيقظ آدم سأل عن الفيديو لكنها أخبرته بكل شئ ، بكى كالاطفال كالمراهق كالكهل كالشيخ بكى بكل المرات التى كان فيها أدم وكل المرات التى كان فيها ليليت.
قال لها انه عرف كيف يلتقي بليليت التى تسكنه ، وكيف يلمسها ويتزوجها ، وليلك تحترق شوقا وندما وشغفا لمعرفة الحال ، قال آدم لن يوحدنا سوى الموت ، بكت ليليت ترجته الا يفعل لكنه أرتدى الجونلة البيضاء والحزاء الفضى وفوقهما سترة رجالى أنيقة وببيونة ساحرة ، ساعدته ليليت وهى تبكى لكنها رأت عذابه وعذابها رأت ما لم يرى ، وعندما عادت من دفنه فى قبر كتبت عليه بنفسها "هنا يرقد أدم وليليت" كانت تحمل حزن العالم بأثره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاص مصري
من مجموعة "عسل النون" المرشجة لجائزة الملتقى ـ صدرت عن دار روافد