يذكر الكاتب السوداني حمور زيادة فجر يوم 25 نوفمبر 2009 وهو يدخل طائرة الخطوط الأثيوبية خائفا لا يعرف ما ستفعل الغربة به في القاهرة، كان في جعبته آنذاك مجموعة قصصية بعنوان “سيرة أم درمانية” صدرت عام 2008 فمنحته القاهرة رواية “الكونج” صدرت عام 2010 عن دار ميريت ثم مجموعة قصصية أخرى “النوم تحت قدمي الجبل” صدرت هذا العام عن نفس الدار،
ولم تكن ثيودورا ألفثيريوس الفتاة المصرية ذات الأصول اليونانية وهى تشق طريقها في رحلة، عكس اتجاه حمور، من الاسكندرية إلى الخرطوم على ظهر جمل عام 1881، تعلم أنها ستتحول من راهبة إلى جارية تدعى حواء! ولم يدرك “بخيت منديل” وهو في رحلته من العبودية إلى الحرية أن الحب سيستعبده ويودى به إلى الانتقام! ولم يضع الحسن الجريفاوي في حسبانه أبدا أثناء مشاركته في نشر الدين بقوة السلاح أن الايمان سيقوده إلى القتل!
مصائر عدة يحركها حمور في روايته “شوق الدرويش” الصادرة حديثا عن دار العين للنشر، خلال مرحلة مفصلية في تاريخ السودان تتشابه مع ما نعيشه الآن.
أزمة القناعات المطلقة!
اختار حمور زمن الثورة المهدية التي أتت لتبشر بقيام المهدى المنتظر وانتهاء دولة العثمانيين وإقامة دولة الاسلام، مستغلة الظلم الذي تعرض له السودانيين للسيطرة على البسطاء تحت اسم الدين وهو ما يعلق عليه الكاتب قائلا: “ليس استغلال الدين بالمعنى البراجماتي الحديث، انما أزمة الايمان والقناعات المطلقة حين تصطدم بالواقع. الثورة المهدية نموذج غني يكشف حالة التناقض بين براءة الايمان ووحشية الواقع. وكيف يحّول اليقين المطلق صاحبه إلى وحش”
ظلت امرأة تنتظر زوجها المنضم لجيش المهدي، كما أمرها، لثمان سنوات في الصحراء، مؤمنة بعودته بنصر الله وهو ما أثار سؤال بخيت منديل: (كيف يعيش الانسان أعواما ينتظر وهما؟ ) بينما خاض حسن الجريفاوي تجربة الايمان المطلق بالمهدى، ليكتشف إنه قد قادوه إلى طريق أكبر الخطايا وحاد به عن هدفه. يعلق حمور: ميلان كونديرا يقول ” الأنظمة المجرمة لم ينشئها أناس مجرمون وإنما أناس متحمسون ومقتنعون بأنهم وجدوا الطريق الوحيد الذي يؤدي الى الجنة فأخذوا يدافعون ببسالة عن هذا الطريق، ومن أجل هذا قاموا بإعدام الكثيرين ثم فيما بعد أصبح جليا وواضحاً أكثر من النهار أن الجنة ليست موجودة و أن المتحمسين كانوا مجرد سفاحين “.
– هل يتشابه زمن أحداث روايتك مع ما نعيشه الآن؟
زمن الثورة المهدية يتشابه مع ما نعيشه اليوم، ليس استغلال الدين، انما الافراط في اليقين لدرجة القتل من أجله. سواء كان اليقين أمراً الهياً، أو مصلحة وطنية.
بخيت منديل أم الكونت ديمونت كريستو!
تبدأ الرواية عام 1898 مع انهيار الثورة المهدية ودخول الجيش المصري لأم دورمان وخروج “بخيت منديل” من السجن لينتقم من قتلة حبيبته، وهو محور محرك لأحداث الرواية، إلا انه لا يشبه الخطوط الكلاسيكية لفكرة الانتقام بل هو يرتبط بجوهر فكرة الحب أو الايمان يضيف الكاتب: “الفكرة كلاسيكية جداً وقديمة بلا شك. ربما أقدم من روايات مثل كونت دي مونت كريستو. لكن مع كل هذا التراث الانساني في الحكي والانتاج الروائي لا توجد حكاية لم تحك من قبل بشكل أو بآخر. لكن ليست كل حكاية أخ يغار منه اخوته هي حكاية يوسف الصدّيق. يقع هنا على الروائي عبء تقديم نص جديد من هذا التراث الانساني القديم والممتد.”
ارتبط الانتقام بعلاقات الحب في الرواية والتي بدت كأنها صدى لعلاقة أساسية بنيت عليها الأحداث “علاقة بخيت منديل وثيودورا أو حوا”، الشاب الآتى من جبال السودان عبدا يباع ثم يحصل على حريته وتقيده الفتاة المصرية اليونانية بحبها، ويظهر تلك العلاقة بين الانتقام والحب في إحدى فقرات الرواية (دين المحبة ثقيل، دين المحبة قيد، لكنه تعلم أن الحرية في إخلاص المرء لقيده).. يستكمل الكاتب الفكرة قائلا:
“هناك سؤال وجودي قديم عن قيمة الايمان بأي شيء أو التعلق بأي شيء. إله، دين، وطن، حب، أسرة. هذه اسئلة حقيقية أرّقت العالم، أو لنقل الجزء المفكر من العالم. هناك جزء من العالم راض بحاله وليس لديه اسئلة أو شكوك. لديه يقين راسخ ومطلق ممتد منذ ألف عام لكن هناك لحظات معينة تطرح أسئلة كهذه. لحظة دخول الجيش المصري لأم درمان سنة 1898 كانت لحظة فارقة بلا شك. هي شبيهة بانهيار سور برلين حين تكتشف ان كل ما كنت تؤمن به خاطئ. وهو اكتشاف لا يتم عبر مراجعة نقدية انما عبر المواجهة العنيفة مع الواقع.. في لحظات كهذه تنبت هذه الاسئلة.”
كسر الزمن!
تدور أحداث الرواية خلال سبعة عشر عاما، لكن حمور ينطلق خلالهم فوق حصان مجنح لا يلتزم بحركته على أرض واحدة أو بتتابع زمني محدد، يقفز فوق محطات ويتركها ليعود إليها مرة أخرى، لتتكون قطع البازل في آخر الرواية وندخل في أعماق الثلاث شخصيات الأساسية عبر ازمنة وأمكنة مختلفة يقول حمور: “هذا التشظي جزء من واقع تلك الفترة التاريخية. والحراك الدائري الذي بدأ بالحكم المصري/ التركي وعاش 17 عاماً في واقع مختلف ثم استدار مرة اخرى لينتهي عند حكم مصري/انجليزي. فترة من الحماس، واليقين، والدم. أحلام مشروعة وتحرر وطني. ثم انتهى الحال بمن قاتلوا مع المهدية بأن قاتلوها. في عالم كهذا كل شخص كان يشبه الاخر. وكل شخص يختلف عن الاخر. والأماكن تتشابه كالبشر.”