فيلم باب الوداع.. أن نملك أجنحة لنطير

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام
آيـة عـزت يبدأ الفيلم بخطى متثاقلة في المقابر لامرأة كبيرة وطفل صغير، يتلفت الصبي إلى الكاميرا أكثر من مرة فأشعر بالتدريج أنني معه، أسير خلفه بخطوات بطيئة كأنني أُراقبه.. يسيران في طرق ملتوية وصولا إلى زاوية بعيدة، تتوقف به المرأة أمام إحدى القبور، ﻻ نعلم لمن القبر، ثم نرى عليه وردة حمراء ذابلة ووردة جديدة تضعها الأم فيستقر شعور غريب في قلبي "هذه الأسرة الصغيرة دائمًا ما يزورها الموت". تقع مشاهد الفيلم  بين منزل كبير فارغ كقلب أم وحيدة مكلومة، وبين المقابر، المقابر التي رغم وحشتها كانت هي المكان الوحيد اﻷكثر وضوحًا وطمئنينة طوال أحداث الفيلم.. مشاعرك مفهومة في المقابر، فراق وحزن ووحدة، أما هذا المنزل الكبير فهو مأكول بفراغه وذكرايته التي تأكله. هناك عجوز، الجدة، تجلس بإبتسامة رضا تسمع أغاني عبد الوهاب وتصنع قهوتها على السبرتاية، تجلس على مخزن ذكرياتها، فستان عرسها، هي راضية طول الوقت، تربط شعرها بحنان فائض ﻻ تجد أحد لتمنحه إياه، ترتدي ثيابها الأنيقة وتزف نفسها للموت. هناك طفل صغير، وبتوضيح مقصود يرتدي البطل الشاب (أحمد مجدي) نفس ملابس الطفل فنفهم أن هذا الطفل هو نفسه هذا الشاب العشريني، يردد كلمات بسيطة أكثر من مرة “أنا ابن أمي.. ابن خوف أمي.. ابن حزن أمي” ﻻ نرى ملامح الطفل بوضوح، لكن نرى هيئته، نرى يده المرفوعة في محاولة -لطفل صغير قصير القامة- لفتح شباك ليس به مقبض، لكنه يحاول ويفشل، عندما نراه شابا نجده حزين خلف هذا الشباك، نفس الحزن نراه دائمًا في عيني أمه، ورغم طول قامته لا يفتح الشباك، فقط يردد بصوت مرتعش أنه ابن خوف أمه وابن حزن أمه ثم يردد بإستسلام وقلة حيلة في مشهد لاحق أنه نسي أي شيء غير هنا وأنه سيبقى في هذا المكان "أنسى دومًا أني مُقيّد بهذا المكان وأني لا أملك جناحًا لأطير".. وما نفهمه ضمنًا فيما بعد أنهم ﻻ يغادرون هذا البيت إﻻ بالموت وأنهم محبوسين بداخله بسبب خوف الأم من الفقد.. ثم نرى حركة يداه وهي تتحسس جدران، أي جدران ﻻ نعرف، ثم يتلاشى ويختفي.. يخبروني أن المرأة ﻻ تقُص شعرها إﻻ حدادًا على موت زوجها، في مشهد هاديء تماما -وﻻ ترتدي فيه اﻷم اﻷسود- نجدها تقص شعرها الحزين الطويل، عينا البطلة كانت على شعرها، لقد راقبت هذا المشهد جيدًا، كانت مﻻمحها هادئة كأنها تريد أن تنهي المهمة بثبات ودون خسائر أخرى، تقص شعرها، والحزن في عيونها ﻻ ينتهي.. في رأيي أن أكثر المشاهد حركة ورمزية هي كل المشاهد المُصوّرة باﻷبيض وأسود، فسرتها -كما شعرت- أنها مجرد هواجس اﻷبطال ومخاوفهم، وربما أحلامهم، في أحد هذه المشاهد تجلس اﻷم مرتدية طرحة الفرح الطويلة المنسدلة على اﻷرض وطرفها يحترق، الحريق ثابت، يتمدد بحذر، لكن في النهاية ﻻ شيء يحترق، هذه المرأة تحترق بنار ﻻ يراها أحد، وﻻ تقصد أحد غيرها.. كل المشاهد باهتة عدا مشاهد المقابر التي تتزين بنساء مكلومات في ثياب سوداء ودموع لا تجف وصور قديمة لموتاهم، كأن المقابر تكشف لنا الحقيقة وهي الموت في مشاهد ألوانها تُشبه  جدًا الحياة في لحظات السكون والرضا. في النهاية تحضن اﻷم امرأة شابة وجميلة في ملابس سوداء، كأنها تطمئنها أنها سلمت اﻷمانة، كان المشهد في المقابر، وكانت هذه الشابة الجميلة (شمس لبيب) هي الملاك الحارس التي ترافقنا وترافق أبطالنا منذ البداية إلى أن نصل إلى لحظة الخروج، لحظة الإنعتاق، لحظة الطيران من هذا البيت. يجردنا الفيلم من الزمن ليتركنا نغوص في حالة إنسانية فريدة، بمشاهد صامتة وإضاءة وتصوير وكادرات سينمائية أشبه باللوحات الفنية والتي تعكس حس فني حقيقي لمخرج العمل، أذكر شعوري في أحد المشاهد والكاميرا تلتقط الابن والأم والجدة فلم أُدرك لثوانٍ هل هذا المشهد تصوير صورة ثابتة أم أن الأبطال يمثّلون مشهد ثابت في لقطة ثلاثية ترصدها الكاميرا بحركة أفقية Pan Left ؟ ابتسمت في عقلي ولم أهتم كثيرًا بالإجابة على تساؤلاتي واكتفيت بالمتعة البصرية وحالة الخلط بين الحاضر والماضي التي نقلتها لي الكاميرا بذكاء ومهارة، وهنا أحب أن أشكر مدير التصوير " زكي عارف"  على حسّه الفني المميز أيضًا والذي يجبرني بقوة على أن أتنبأ له بمسيرة متفردة في مجال التصوير وهذا ما رأيناه بأعيننا أيضًا في عمله كمدير تصوير في فيلم (نوارة) للمخرجة هالة خليل. شارك باب الوداع في العديد من المهرجانات المحلية والدولية وحصد الفيلم العديد من الجوائز منذ عرضه للمرة الأولى في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته السادسة والثلاثين (حيث حصل في المهرجان مدير التصوير زكي عارف على جائزة الهرم الفضي لأفضل إسهام فني عن فيلم " باب الوداع" ) وأيضًا حصل الفيلم على جائزة أفضل فيلم مصري عُرض تجاريًا في عام 2015 من جمعية نقاد السينما المصريين، كما حصد أربع جوائز من مهرجان المركز الكاثوليكي للسينما المصرية في دورته الرابعة والستين.. وغيرها العديد من الجوائز والعديد من المشاركات. الموسيقى التصويرية لراجح داوود جاءت هذه المرة ناعمة وخفيفة، ربما لم تترك أثرًا كبيرًا مثلما ترك الصمت الطويل أثرًا قويًا وصادقًا، لكنها كعادة موسيقى راجح هادئة ومثيرة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كاتبة مصريّة   

آيـة عـزت


يبدأ الفيلم بخطى متثاقلة في المقابر لامرأة كبيرة وطفل صغير، يتلفت الصبي إلى الكاميرا أكثر من مرة فأشعر بالتدريج أنني معه، أسير خلفه بخطوات بطيئة كأنني أُراقبه.. يسيران في طرق ملتوية وصولا إلى زاوية بعيدة، تتوقف به المرأة أمام إحدى القبور، ﻻ نعلم لمن القبر، ثم نرى عليه وردة حمراء ذابلة ووردة جديدة تضعها الأم فيستقر شعور غريب في قلبي “هذه الأسرة الصغيرة دائمًا ما يزورها الموت”.

1
تقع مشاهد الفيلم  بين منزل كبير فارغ كقلب أم وحيدة مكلومة، وبين المقابر، المقابر التي رغم وحشتها كانت هي المكان الوحيد اﻷكثر وضوحًا وطمئنينة طوال أحداث الفيلم.. مشاعرك مفهومة في المقابر، فراق وحزن ووحدة، أما هذا المنزل الكبير فهو مأكول بفراغه وذكرايته التي تأكله.
هناك عجوز، الجدة، تجلس بإبتسامة رضا تسمع أغاني عبد الوهاب وتصنع قهوتها على السبرتاية، تجلس على مخزن ذكرياتها، فستان عرسها، هي راضية طول الوقت، تربط شعرها بحنان فائض ﻻ تجد أحد لتمنحه إياه، ترتدي ثيابها الأنيقة وتزف نفسها للموت.

هناك طفل صغير، وبتوضيح مقصود يرتدي البطل الشاب (أحمد مجدي) نفس ملابس الطفل فنفهم أن هذا الطفل هو نفسه هذا الشاب العشريني، يردد كلمات بسيطة أكثر من مرة “أنا ابن أمي.. ابن خوف أمي.. ابن حزن أمي” ﻻ نرى ملامح الطفل بوضوح، لكن نرى هيئته، نرى يده المرفوعة في محاولة -لطفل صغير قصير القامة- لفتح شباك ليس به مقبض، لكنه يحاول ويفشل، عندما نراه شابا نجده حزين خلف هذا الشباك، نفس الحزن نراه دائمًا في عيني أمه، ورغم طول قامته لا يفتح الشباك، فقط يردد بصوت مرتعش أنه ابن خوف أمه وابن حزن أمه ثم يردد بإستسلام وقلة حيلة في مشهد لاحق أنه نسي أي شيء غير هنا وأنه سيبقى في هذا المكان “أنسى دومًا أني مُقيّد بهذا المكان وأني لا أملك جناحًا لأطير”.. وما نفهمه ضمنًا فيما بعد أنهم ﻻ يغادرون هذا البيت إﻻ بالموت وأنهم محبوسين بداخله بسبب خوف الأم من الفقد.. ثم نرى حركة يداه وهي تتحسس جدران، أي جدران ﻻ نعرف، ثم يتلاشى ويختفي..


يخبروني أن المرأة ﻻ تقُص شعرها إﻻ حدادًا على موت زوجها، في مشهد هاديء تماما -وﻻ ترتدي فيه اﻷم اﻷسود- نجدها تقص شعرها الحزين الطويل، عينا البطلة كانت على شعرها، لقد راقبت هذا المشهد جيدًا، كانت مﻻمحها هادئة كأنها تريد أن تنهي المهمة بثبات ودون خسائر أخرى، تقص شعرها، والحزن في عيونها ﻻ ينتهي..

2
في رأيي أن أكثر المشاهد حركة ورمزية هي كل المشاهد المُصوّرة باﻷبيض وأسود، فسرتها -كما شعرت- أنها مجرد هواجس اﻷبطال ومخاوفهم، وربما أحلامهم، في أحد هذه المشاهد تجلس اﻷم مرتدية طرحة الفرح الطويلة المنسدلة على اﻷرض وطرفها يحترق، الحريق ثابت، يتمدد بحذر، لكن في النهاية ﻻ شيء يحترق، هذه المرأة تحترق بنار ﻻ يراها أحد، وﻻ تقصد أحد غيرها..

كل المشاهد باهتة عدا مشاهد المقابر التي تتزين بنساء مكلومات في ثياب سوداء ودموع لا تجف وصور قديمة لموتاهم، كأن المقابر تكشف لنا الحقيقة وهي الموت في مشاهد ألوانها تُشبه  جدًا الحياة في لحظات السكون والرضا.

في النهاية تحضن اﻷم امرأة شابة وجميلة في ملابس سوداء، كأنها تطمئنها أنها سلمت اﻷمانة، كان المشهد في المقابر، وكانت هذه الشابة الجميلة (شمس لبيب) هي الملاك الحارس التي ترافقنا وترافق أبطالنا منذ البداية إلى أن نصل إلى لحظة الخروج، لحظة الإنعتاق، لحظة الطيران من هذا البيت.

يجردنا الفيلم من الزمن ليتركنا نغوص في حالة إنسانية فريدة، بمشاهد صامتة وإضاءة وتصوير وكادرات سينمائية أشبه باللوحات الفنية والتي تعكس حس فني حقيقي لمخرج العمل، أذكر شعوري في أحد المشاهد والكاميرا تلتقط الابن والأم والجدة فلم أُدرك لثوانٍ هل هذا المشهد تصوير صورة ثابتة أم أن الأبطال يمثّلون مشهد ثابت في لقطة ثلاثية ترصدها الكاميرا بحركة أفقية Pan Left ؟ ابتسمت في عقلي ولم أهتم كثيرًا بالإجابة على تساؤلاتي واكتفيت بالمتعة البصرية وحالة الخلط بين الحاضر والماضي التي نقلتها لي الكاميرا بذكاء ومهارة، وهنا أحب أن أشكر مدير التصوير ” زكي عارف”  على حسّه الفني المميز أيضًا والذي يجبرني بقوة على أن أتنبأ له بمسيرة متفردة في مجال التصوير وهذا ما رأيناه بأعيننا أيضًا في عمله كمدير تصوير في فيلم (نوارة) للمخرجة هالة خليل.

3

شارك باب الوداع في العديد من المهرجانات المحلية والدولية وحصد الفيلم العديد من الجوائز منذ عرضه للمرة الأولى في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته السادسة والثلاثين (حيث حصل في المهرجان مدير التصوير زكي عارف على جائزة الهرم الفضي لأفضل إسهام فني عن فيلم ” باب الوداع” ) وأيضًا حصل الفيلم على جائزة أفضل فيلم مصري عُرض تجاريًا في عام 2015 من جمعية نقاد السينما المصريين، كما حصد أربع جوائز من مهرجان المركز الكاثوليكي للسينما المصرية في دورته الرابعة والستين.. وغيرها العديد من الجوائز والعديد من المشاركات.

الموسيقى التصويرية لراجح داوود جاءت هذه المرة ناعمة وخفيفة، ربما لم تترك أثرًا كبيرًا مثلما ترك الصمت الطويل أثرًا قويًا وصادقًا، لكنها كعادة موسيقى راجح هادئة ومثيرة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كاتبة مصريّة 

مقالات من نفس القسم