يشتمل «منتصف الحجرات» -وعلى رغم وحدة ثيمته تقريباً (المرأة، الحب)- على نصوص القصّ الشعري التي تخضع للتكثيف والشدّ. لكنها في أحيان قليلة، تفاضل أناقة الجُملة على وضوح المعنى، ما يبطئ الإيقاع، لكنه يضيف بعداً آخر إلى أبعاد المعنى المتواري. في بعض النصوص (بخاصة الأولى) يدأب يماني على صقل جملته بصورة لا تتنازل أمام الفكرة، ممّا يؤدي إلى إغراق الدلالة، أو يولّد شعوراً لدى القارئ بأن قراءة تلك النصوص أقرب ما تكون إلى المشي في حقل أغرقته الأمطار. نجد الشاعر أحياناً وكأنه بالغ في الاهتمام باللغة، لغة النص وزخرفتها، ما يغلّف الفكرة الشعرية أحياناً بنسيج لغةٍ مشدودة، ليقع القارئ فريسة اللغة بدل مواجهة الفكرة: «فتحوا الباب فهبّت أربعة جراء متشبّثة بقدميه، انحنى عليها، وعندما رفع بصره كانت الجراء قد فرّت إلى مكانٍ بعيد. كان الوقت مساء وكانت هي قد خرجت إليه. أغلقوا الباب وتحت جلده وضعوا دودة هائلة. لم يشعر بها أول الأمر. في مساء آخر قريب خرجت الدودة، بصعوبة بالغة في البداية، حتى ظنّها بعوضاً ينقر الجلد ويفرّ هارباً. عندما أمسك الدودة بيديه كان الباب قد أُغلِق من جديد، وكانت هي قد خرجت إليه، والجراء فَرَّتْ إلى مكان بعيد».
هي سلسلة مقاطع (ينكسر تجانسها شكلانياً بتدخّل قصيدة بين مقطع وآخر أحياناً) لا تخضع لسياق كرونولوجي محدَّد، أو درامي، ولا تتعمّد استيلاد خرائب نفسية فضفاضة بناء على «حادثة» أو أي معطى اجتماعي أو إغراء بصري محدَّد. إنها نصوص لا تلتزم موضة الصراخ أو الاستعراض، ولا تكسو نفسها بفائض الرغوة السوريالية. بدلاً من ذلك، فإن الشاعر، يحمِّلها صوتاً خافتاً، حاداً، يظهر كما لو أنه معطوف قسراً على يماني الذَكَر وامرأته، والموقف «الجدّي» الذي هما حاضران فيه. هذا الخفوت الصوتي، ينسحب أيضاً على القارئ، الذي يشعر وكأنه يقرأ الكتاب في «منتصف حجرة» موصَدة عليه وحده. النصوص- رغم المناخ السوداوي الذي يلسع جلدها، وإيقاعها البطيء، والمسافة التي تتولّد بينها وبين القارئ- لا توحي بأنها نصوص كابوسية ولا بأنها نتاج جنون تخييلي، أي أن المخيِّلة فيها تميل دائماً إلى تأسيس توازن بينها وبين «الشعور». ومن ثمَّ بين «حقيقة» و«شعرية»، و«معطى بصري جاف» و«استعارة». وهي مخيّلة تُعنى بالمجاز من دون أن تتطرّف نحوه، تماماً كعنايتها بشكل كتابة النص. لكن تهجين القصيدة بالسرد والقصّ، لا يقلّل من سطوة الشعر أو سلطته. فللشعر، في النصوص، تكون كلمة الفصل والإطار الأوسع؛ ذلك أن الشــــعر -وإن لم نــــجد له تـــــــعريــفاً ثابتاً- يسيطر على انطباعنا العام بعد انتهاء القراءة دافعاً إيانا للتساؤل في ملامح حلّته الجديدة، أو على الأقل المختلفة، التي قدَّمَها يماني. إنها- أولاً وأخيراً- نصوص تتنازل للشعر، وربما لكينونة الشاعر، رغم تشرُّبها ملامح أجناس كتابية «غير شعريّة». نصوص تُحكَم باللاترتيب، بفوضى أنيقة، كولاج من أجزاء منتقاة بعناية، تشكِّل شرطاً لاستيلاد جماليات ما : «كنتُ على سريرك والسماء كانت تشغل سقف الغرفة، كما لو خطّتها يد دون أن تبرق النجوم والكواكب. غرفة لها سقف هو السماء بكاملها، وبينما أتأمّل الظاهرة محاولاً فهمها رأيت كما لو أن النافذة الزجاجية تعكس صفحة السماء. ولم يكن الأمر سوى تفسير أوَّلي، كانت السماء حقيقة لكنها فقط لا تلمع وحينئذ دَخَلْتِ الغرفة فاختفت السماء وكنتُ أنا كلصّ تسلّل إلى بيتك، وارتاح على فراشكِ، ثم اعتذر لك ومضى».
كذلك، فإن هذه المقاطع هي رهن بذاكرة يماني المتمرّسة في الشعر، حتى وإن بدت -بأسلوب كتابتها- مدفوعة نحو بوحٍ خاضع لبيوغرافيا (قد تكون متخيَّلة أو حقيقية) غير أنه بوحٌ معنيّ بالإدهاش ظاهرياً. بوحٌ يقدّم، في كلّ جزء منه، قطعة من المعنى، ويترك للقارئ فسحة زمنية للتفكُّر والتفاعل، بهذا القدر أو ذاك، مع كتابة يماني. «إذا ما أحببتكَ أكثر فسوف تنسى قدميَّ المشي، جملتكِ العابرة هذه وتَّدَت الغرغرينا في رجليّ. والآن يصبح بيتك القريب ذلك البيت خلف منزلنا القديم والذي حاولتُ التسلُّل إليه عشرات المرات دون جدوى، وعندما تمكَّنت أخيراً من صعود سلَّمه الحجري أصابني الرعب، لا من خيوط العنكبوت ولا حتى من الشقوق التي تقبع بها ثعابين متحفّزة، بل من تصلُّب الرجلين كما في حلم، من نسيان المشي والحجارة والبيت نفسه».
لكنها نصوص لا تتطوَّر بشكلٍ تصاعدي. لا يشكِّل كل نصّ نقطة بداية للنصّ الذي يليه. بل تتنفَّس جميعها في ذاتها. كل مقطعٍ يعيش في هوائه وضمن الكادر/ صورته/ السبب المرسوم له، بصرياً أو شعرياً، أو مزيج الاثنين معاً. لغة يماني، حين يريد إراحتها، سخيّة في اندماجها بالسرد حيناً وبالقصّ حيناً آخر، والتنازل حدّ الاقتراب من اللفتة الشعرية.
نصوص يماني الجديدة أقرب ما تكون إلى شريط من المعاينات البصرية والمجازية في آن معاً. فالشاعر يتحرَّك بين العبارة والدلالة، بين الإيجاز والإنجاز، بين مسح ذاتٍ قلقة ومعاينة فضاء دائم التحوُّل أمامه، خالصاً في ذلك إلى توفير أرضية بسيكولوجية وفلسفية، لمقاربة الحبّ. أحياناً يبدو الشاعر كما لو أنه مجرّد صوت لذاكرة تلك العاطفة، وأثر لنتيجة تلك العلاقة مع المرأة، أو مع ذاته المتروكة. أثرٌ يَتَّخذ أشكالاً، ويصبح ألعاباً رمزية في القصيدة، أو هذا ما يبدو عليه الأمر.
في نصوصه، يحاول يماني الإحاطة بكلّ عناصر الشعرية، وكلّ التجريب المؤمن به. هناك اختبار لمسألة وجودية أساسية قد لا تكون أصيلة (بمعنى مكرّرة)في الشعر، وهي الحبّ. لذلك، فإن ثيمة كتاب يماني، سواء أكانت الحب/ المرأة/ العشق/ الجسد، وكلّ ما يتفرَّع عن هذه الحزمة، هي كليشيه شعري، غير أن يماني يفلح، متمسّكاً بهذه الثيمة، في العبور إلى مناطق شعرية نظيفة بعيدة عن أي (كليشيه). فهو يتحرَّك في مثلث البيوغرافيا والواقع والفانتازيا: «عندما تغيبين أغطّي المساحة التي يحتلّها بجانبي جسدك على السرير؛ الذراع اليمنى أضع مكانها رسائل فان جوخ إلى أخيه، واليسرى أغطّيها برسائل ريلكه إلى الشاعر الشاب، بطول ظهرك أُفرِد مستنسخاً للوحة دافيد هوكني «عَبّاد الشمس والزجاجة»، مكان رأسك رواية «لا شيء» لكارمن لافوريت، عند القدمين قصيدة «المدينة» لكفافي، واللوحة التي رسمتِها لي وأنا متمدِّد في سريرك في الصباح. أشياؤكِ نفسها التي تشاركنا فيها أحياناً ستغطّي سريري. استلقاء واحدٌ على السرير سيعيدك إليّ أينما كنت».
ما يبرز أيضاً في «منتصف الحجرات» هو التنقُّل النشيط والمتمهِّل في آن واحد، ضمن خصائص مكانية جغرافية أو حيّز بيتي. أحياناً، يشترط هذا التحرّك، وجود امرأة/ حبيبة/ عشيقة، وأحياناً أخرى لا يستلزم أكثر من وقوف الشاعر قبالة ذاكرته أو شظايا سيرته الذاتية. من هنا، فإن المرأة في حضورها الرمزي المــــولِّد اســـــــتفزازاً شــــــعرياً معيناً تعادل -وهي المؤقتة- ذاكرة شخصية دائمة مكثفة مشذّبة، ذاكرة تُستحضَرُ فيها اهتمامات الشاعر الأولى، ويُستفَزّ فيها إنسان يماني السابق، الإنسان العادي، إنسان العشق، ذلك «الإنسان» الذي يكون اختَبر لا كَتَبَ بعد. مقابل ذلك، فإن هذا الحضور الأنثوي الكثيف والجميل يقابله غياب/ تغييب فجائي. وسواء أكان هذا الغياب حاصلاً بالفعل داخل النص أو كان مجازياً أو كان مجرَّد ضرورة لتفحُّص الارتدادات الناتجة عنه عاطفيا،ً فإنه يدفع بالشاعر لأن يؤسس نصّاً يقف هو الآخر على مسافة من الشاعر ومن القارئ ومن امرأته، كأنه يحتفظ بسرّ في علبة صغيرة، نحاول فتحها مع كل قراءة جديدة للنصّ. الشعر -إذاً- أحد اشتقاقات هذا الغياب للمرأة. واستقلال النص في جماليته، وكينونته و«ترفُّعه» عن الأسباب المولِّدة له، هو ما يضيف إليه ألقاً، ويضخّ في عروقنا ذلك السحر الشعري ليماني، كما يرسم كينونة تصون النصوص ضدّ أيّة محاولة لإطلاق أحكام نهائية عليها. كل ذلك، يأتي منجدلاً مع اجتهاد يماني الواضح لوضع استعارة «غير مألوفة»
يترك يماني في نهاية المطاف -إلى حدّ ما- العنان للغته لأن تنفلت من أي التزام شكلاني شعري أو نثري. إنها تجربة جديدة على ما يبدو في مسار يماني الكتابي، ولا بد أنها -ككل كتابة مسؤولة- تحمل أبعاداً تجديدية أو على الأقل تسعى إلى ذلك.
ـــــــــــــــــــــــ
مجلة الدوحة مارس 2014