“كيس أسود ثقيل”.. حدوتة مصرية بلا نهاية

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمود عبد الشكور

ذكرتنى رواية "كيس أسود ثقيل" لعمرو عاشور، الفائزة بجائزة ساويرس الثانية فى فئة الرواية للشباب، بأطياف كثيرة لوجوه سقطت فى الطريق، تزاملنا فى المراحل الدراسية، كثيرون منهم مختلفون وحالمون، بعضهم شديد النبوغ الى درجة كنا نتوقع لهم مستقبلا يليق بهم، بعد سنوات طويلة،  نلتقى زملاء الأمس محبطين ومهمشين، مجرد أشباح سحقهم ذلك الكيس الأسود الثقيل، الذى حملوه فوقعوا به، وسقط بهم، حكاية عمرو عاشور البديعة والتى تنضح صدقا وحميمية، والتى تتصادم مع حكايات الحواديت الخيالية،  وتسخر من نهاياتها السعيدة، ليست إلا دراسة حالة لأحد تلك الأطياف التى هزمها الواقع، ولم ينقذها الحلم، حدوتة مصرية باميتاز، فقط اقرأ الرواية، وتذكربعضا ممن عرفت، ستجد تنويعات متعددة على نفس  النغمة.

أدهشتنى قدرة عمرو على الإمساك بشخصيته، واقتصاده الواضح فى السرد، مع تحقيق الإشباع والتفصيل اللازم، هذا روائى يعرف أبطاله جيدة، ويكاد يجعلك تلمسهم بيديك، متعاطف هو بلا شك معهم، مع المهمشين الذين يذكرونك بشخوص الراحل خيرى بشارة التى لا تنسى، أعجبنى أيضا تلك المفارقة المستمرة بين حواديت الواقع، وحواديت الخيال، عاطف مجدى، بطل الرواية فقير مثل أبطال الحواديت، ولكنه لن يفوز ببنت السلطان مثل الشاطر حسن،  سيحمل دوما كيس أسود ثقيل، وكأنه همّه الشخصى والعائلى، مجرد مندوب مبيعات متنقل يعرض بضاعته، وهو الذى كان يحلم فى طفولته بأن يكون مثل د مصطفى محمود، يمسك بطرف من العلم، وطرف من الأدب، فانتهى الى أن يمسك بقطعة حشيش هاربا من واقعه، ومودعا أحلامه وسط الدخان، وحيدا منزويا هاربا من تنفيذ حكم قضائى وغرامة ضخمة لا يملكها، ضاعت بضاعته التى يبيعها فى سوق إذا غفلت فيه لحظة سرقوك، يتعمد عمرو أن يمنح بطله اسما موسيقيا جديرا بطبيب أو أديب أو فنان تشكيلى، عاطف يعتقد فى طفولته أنه يحمل روح أينشتين شخصيا، ولكنه يتحول من فئة البطل الى فئة البطل الضد، ومن المتن الى الهامش، ومن حواديت الأم الى قسوة الواقع، يحدث ذلك بمنتهى السلاسة والبساطة، ودون ضغط على المشاعر والعواطف، حتى تكون هناك مسافة للتأمل.

تتقاطع رواية”كيس أسود ثقيل” مع رواية محمود الوردانى “بيت النار” فى شخصياتها الهامشية، وفى أحلام بطليها المجهضة، وفى دور الأم، وتد الأسرة، من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه بعد غياب الأب، سافر والد عاطف ليعمل نقاشا فى الكويت، كان يعتبر نفسه فنانا، لم يرسل أموالا أو خطابا، قررت الأم أن تعمل كحائكة للملابس، لإعالة عاطف ، وأخته شيماء، وحيدون هم فى العاصمة مثل عائلة بيت النار، تقبّله أمه فى عينيه، وتقول له :”إنت وأختك عندى بالدنيا .. لو حكمتْ أبيع جلدى عشان أربّيكم … هبيعه”، تقترب الأم كثيرا من شخصية قمر فى “بيت النار” بشموخها وقوتها، السارد فى “كيس اسود ثقيل” يغير الضمير من الغائب الى المخاطب عندما يتحدث عن أمه أو جدته،  يستحضرهما وكأنه يراهما، هناك حديث مع ذلك عن رجل غامض تقابله الأم فى حديقة الحيوان، وتوصى ابنها بالكتمان. عندما عاد الأب فجأة، أحضر معه الهدايا والملابس، اشترى دراجة لعاطف، تحدث عن حلمه ببناء بيت من طابقين، عاد من جديد الى الكويت، لم تهنأ الأسرة بالحصاد، رجع النقاش شخصا آخر، يتكلم باللهجة الكويتية، ويرتدى الجلباب والغطرة، ولكنه بلا أموال، على فيض الكريم، أصبح بركانا لا يهدأ، يشتم ويضرب ويهذى، ذات يوم غادرهم واختفى، تاركا أسرته بلا وداع.

أصبح عاطف رجل البيت، سيعمل مثل بطل “بيت النار” فى مهن متعددة، يقوم أحيانا بتوصيل شرائط الفيديو للزبائن، يعمل فى ورشة لصناعة تماثيل فرعونية  للسائحين، تكتسح التماثيل الصينية السوق، يزيد المهمشون تهميشا،  يستقرعاطف كمندوب مبيعات متجول، حاملا كيسه الأسود الثقيل،  يدور على المقاهى، ويطرق الأبواب، ولكن ليس قبل أن يمضى  وصل أمانة بقيمة بضائعه التافهة، امبراطور المهنة يهدده بالحبس والغرامة بعد أن فقد الكيس، لم تتوقف مطاردات الشرطة، ذات مرة وجد كل الأحذية فرد يمين، سرقوا الفردة الشمال تجسيدا لحالة من العبث المهنى ستلازم عاطف حتى صفحات الرواية الأخيرة، يهرب الى سوق الجمعة فى السيدة عائشة، فى الورشة كما فى السوق، يعرف عاطف المزيد من الشخصيات الهامشية العجيبة التى رسمت ببراعة لافتة: أبو عصام  الأسطى المحترف، عاشق الكيف، والمطعون فى كرامته من زوجته وابنه، سمارة كفيل عاطف فى سوق الجمعة، الرجل الفتوة الذى يحميه، ويقوم عاطف بجمع الإتاوات له من الباعة الغلابة، ثم يفرش لبيع بعض سلعه التافهة، وسمسم العجيب النصاب القادر على أن يبيع كل شئ، وأى شئ، لأى مخلوق، وأخيرا وردة البدينة، التى يتنتاقض اسمها مع شكلها، عشيقة بلا مطالب أو طموح.

مثل بطل “بيت النار”، دخل عاطف الجامعة، وصل الى المرحلة النهائية فى كلية الحقوق، ولكنه تعثر، فى الغالب يفشل التعليم فى إنقاذ مصائر المهمشين، حتى قصص الحب مع بنات الجامعة سرعان ما تنتهى، عاطف الذى كان يتباهى بأن روح اينشتين تقمصته، ويطيّر طائرته الورقية بخيوطها الملونة،  أصبح يقدم مبيعاته لربات البيوت مكررا اسطوانة يحفظها:” مع حضراتكم عاطف مجدى من شركة أميدى جروب .. النهاردة الشركة مقدمة عرض جديد ومتميز.. دول ست كبابات شاى حرارى .. اللؤلؤة الأصلى .. ده سعره فى الأسواق والمعارض خمستاشر جنيه .. النهاردة الشركة بتقدمه بعشرة جنيه” .. الستات تكتفين بالفرجة، واحدة غاضبة تقول له : “غور من وشى”، تصاحبه تعليقات مواسية تمزّق قلبه: ” شكله ابن ناس .. دى وليّة مفترية .. حرام عليها .. والنبى صعب علىّ”.

كل ما فعله عاطف لم ينقذه هو، ولم ينقذ أسرته، سيأتى الشاطر حسن فى صورة رجل مصرى اسمه حسين يعمل فى  الإمارات، يتزوج شيماء، وتعيش معها الأم فى شقة فاخرة، يزورهما عاطف، يرفض أن يقبل أن يدفع العريس الثرى الغرامة الضخمة المفروضة عليه جرّاء ضياع البضاعة، يكذب عاطف على أمه وعلى شيماء، يدعى أنه منهمك فى الشغل، بينما هو قابع فى حجرته، تحت سيطرة الكفيل المصرى، مثلما كان والده ضحية الكفيل الكويتى، فشل عاطف فى أن يشيل الحمل عن أمه، سقط بحمولة الكيس الأسود الثقيل، لم يعد الرجل أساس البيت وحيطانه وسقفه، لاتوجد نهايات سعيدة إلا فى الحواديت، لم يبق من حصاد اللابطل إلا العودة الى الحجرة المنسية، حيث بقايا كشكول كتب فيه بعض الأشعار، وحيث أحذية كلها فردة يمين، وحيث عشيقة اسمها وردة، ودخان يرسم أحلاما متبددة، وصوت أغنية منير، وهى تلخص الحدوتة المصرية السرمدية، وكأنها تتكلم بلسان كل الغلابة : ” عطشان مش لاقى المية .. حيران مش لاقى مراسيّأ” .

 

 

مقالات من نفس القسم