وعدم قدرة المشاهد على الوصول لأي يقين سوى في المشهد الأخير من الفيلم؛ ومن ثم يكون السيناريو المكتوب هو المتحكم الوحيد والمحرك الأساس لأحداث الفيلم والمشاهد، والممثل جميعا، وهذا يستدعي بالضرورة كتابة سيناريو شديد الإحكام يستطيع من خلاله السيناريست الإمساك بجميع الخيوط الدرامية وكأنه يمسك بين يديه خيوط عرائس الماريونيت ليحركها كيفما شاء بمهارة يحسد عليها، وان كان في حقيقة الأمر لا يحرك سوى المشاهدين المتخبطين منذ بداية الفيلم حتى نهايته.
كما أننا لابد سنلاحظ رابط آخر بين هذه الأفلام وهو، أن كاتب هذه الأفلام جميعا- 45 يوم، ملاكي إسكندرية، فتح عينيك- هو السيناريست “محمد حفظي” الذي تدل كتابته لهذه الأفلام- إذا ما تأملنا الأمر- وإذا ما أضفنا إلى هذه الأفلام الثلاثة فيلما رابعا من تأليفه أيضا- فيلم “تيتو” للمخرج “طارق العريان”2004 – بالرغم من أن فيلم “تيتو” ينحو أكثر باتجاه أفلام الحركة.
نقول إذا ما تأملنا ذلك سيتضح أن هذا الاتجاه يكاد يكون نهجا خاصا بالسيناريست “محمد حفظي”- المتأثر بالسينما الأمريكية- بدأه عام2004 بفيلمه “تيتو” ومازال مستمرا معه حتى اليوم، وربما بدأ يتأثر به غيره من كتّاب السيناريو والمخرجين فرأينا “خيانة مشروعة” للمخرج “خالد يوسف”2007 .
ولكن، ربما كان هناك سؤالا هاما لابد أن يفرض نفسه فرضا، وبالتالي نحاول تأمله للإجابة عليه وهو، هل من الممكن اعتبار أربعة أو خمسة أفلام تتناول نفس التيمة- الغموض- ونفس طريقة بناء السيناريو وإحكامه، هل من الممكن اعتبار هذه الأفلام ممثلة لاتجاه جديد بالفعل في السينما المصرية؟ وهل تعد هذه الأفلام القليلة ظاهرة جديدة بدأت تطل برأسها كي ننتبه لها؟ وهل يستطيع هذا العدد القليل من الأفلام التكريس لنفسه ومن ثم حفر خندقا جديدا داخل السينما المصرية مواجها في ذلك التيار الهادر لسينما المضحكين والهلس والتفاهة التي يمثلها مجموعة ضخمة من نجوم السيناريو المتهافت مثل “بلال فضل، أحمد عبد الله، سامح سر الختم، أحمد البيه”، كذلك مجموعة من الفنانين المستفزين- أكثر تهافتا وإسفافا من كتاب السيناريو- مثل الزعيم الأكبر “محمد سعد، محمد هنيدي، عبلة كامل، سعد الصغير” الذي انضم إليهم مؤخرا؟
ربما كانت الإجابة على مثل هذه التساؤلات الهامة في حاجة إلى تأمل ما حدث في السينما المصرية حتى تشكّل فيها ومن ثم استقر تيار أفلام التفاهة والسطحية الممثلة لأفلام “محمد هنيدي” منذ عام1998 وفيلمه “صعيد في الجامعة الأمريكية” حتى اليوم و الفيلم الأكثر استفزازا “عليا الطرب بالـ3” لمخرجه “أحمد البدري”2007 .
نستطيع دائما التأكيد أن أي تيار في أي مجال لا يتم التكريس له ومن ثم استقراره إلا من خلال التراكم، هذا التراكم الذي يؤدي يوما بعد آخر إلى وضوح الرؤية ومميزات هذا الاتجاه وأيضا سلبياته، وبالتالي يكون الكم هو المحرك الأساس لهذا الاتجاه الذي يرسخ كشئ جديد استطاع أن يصنع لنفسه كيانا ووجودا معترفا به من الجميع- سواء كنا نتفق أو نختلف مع هذا الكيان الجديد الذي تم تشكيله- ولعل هذا ما حدث تماما مع موجة أفلام المضحكين الجدد، فبدأ الأمر بفيلم “صعيد في الجامعة الأمريكية” للمخرج “سعيد حامد”1998 الذي استطاع كسر حاجز الإيرادات لأول مرة في تاريخ السينما المصرية ووصل بها إلى27 مليونا من الجنيهات، وبالرغم من أننا تلقينا الفيلم كشئ غريب- نتوء/ظاهرة- مرت مرور الكرام في السينما المصرية، وبالرغم من أن الفيلم أثار غضب الكثير من النقاد الجادين على مخرج متميز كنا نأمل منه الكثير، إلا أن الطفرة النوعية في الإيرادات التي حققها الفيلم جعلت البعض من صنّاع السينما المصرية- منتجين و كتّاب سيناريو ومخرجين- يحاولون تكرار التجربة مرة أخرى علّها تنجح وتحقق لهم المزيد من المكاسب المادية، وبالتالي وقع في هذا الشرك العديد من المخرجين الجادين مثل “شريف عرفة”، “محمد النجار” وكأن التيار الهادر للسطحية قد جرف أمامه بعض هؤلاء الذين كنا نعلق عليهم الكثير من الآمال لجديتهم، إلا أنهم لضعفهم أمام هذا التيار انساقوا خلفه، ثم لم يلبث أن ظهر لنا “علاء ولي الدين” بأفلامه التي قدمها وغيره من النجوم الجدد الذين أرادوا حذو ذات الطريق الذي سار فيه “محمد هنيدي” فكان “محمد سعد”، “عبلة كامل”، “أحمد حلمي”- في بعض أفلامه مثل 55 إسعاف- بل و”عادل إمام” الذي كان أكثرهم سطحية وتهافتا في أفلامه الأخيرة- وكأنه يخشى أن يسحب هؤلاء الشباب البساط من تحت قدميه- حتى وصلنا إلى الكارثة الكبرى “سعد الصغير” في “عليا الطرب بالـ3” 2007 .
ولعلنا إذا ما تأملنا بهدوء مثل هذا التراكم الكبير الذي حدث على مدار تسع سنوات لتأكدنا من صدق ما سبق أن ذهبنا إليه، وهو أن ظهور أحد الأفلام الذي يجذب الأنظار يجعل البعض يحاول تكرار التجربة مرة ثانية وثالثة، ومن ثم أدى ذلك إلى تراكم الكثير من الأفلام التي شكلت هذا الاتجاه الذي، أصبح فيما بعد اتجاها قويا داخل السينما المصرية- بالرغم من سطحيته وابتذاله- إلا انه نجح ببراعة في حفر مجرى عميق له ليكرس لنفسه ومن ثم تتضح خصائصه.
ولهذا إذا ما تأملنا ما يدور الآن مع أفلام الإثارة والغموض والتشويق التي بدأت في التراكم داخل السينما المصرية لوجدنا أنها تكاد تشكل لنفسها تيارا واتجاها يحاول التكريس لنفسه بهذا التراكم، ولكن هل سيستمر هذا الاتجاه؟ وهل سيصبح اتجاها قويا داخل السينما المصرية؟
علّ الوقت وحده هو الذي يستطيع الإجابة على مثل هذا التساؤل بما سيتم تقديمه من أفلام أخرى تتفق أو تختلف مع هذا الاتجاه.
وربما لذلك تأملنا فيلم المخرج “أحمد يسري” “45 يوم” في تجربته الإخراجية الأولى للسينما الروائية الطويلة لنلاحظ تقديمه أسرة نموذجية مكونة من الأب “عز”(عزت أبو عوف)، والأم “سوزي”(غادة عبد الرازق)، والابن “أحمد”(أحمد الفيشاوي)، والابنة “نهال”(ماريانا) لنعرف أن الأب يعمل طيارا مدنيا، وقد بدأ الفيلم بجريمة قتل بشعة يقتل فيها الأب والأم معا ومن ثم يتم اتهام الابن بقتل والديه ليحيرنا الفيلم منذ بدايته حول الدافع القوي الذي يجعل ابنا من أسرة مرفهة ومثقفة بالإضافة لكونه طالبا في الجامعة الأمريكية يقدم على مثل هذه الجريمة البشعة، وبذلك يتعمد السيناريست “محمد حفظي” متعاونا مع المخرج “أحمد يسري” في جذب انتباه المشاهد منذ المشهد الأول ويجعله في حالة تحفز وتساؤل وقلق دائم حتى نهاية الفيلم.
ولعل السيناريست “محمد حفظي” قد برع في جعل أحداث الفيلم تسير أيضا كما تمت في الواقع بمعنى عدم استباق الحدث، ومن ثم كنا دائما كمشاهدين غير قادرين على معرفة الحقيقة إلا من خلال ما يقدمه لنا السيناريو الذي تم عرضه من خلال الفلاش باك flash back ، ومن ثم كان هذا التكنيك في بناء السيناريو مانعا للمشاهد في القدرة على التخمين أو استباق الحدث، حتى ولو قمنا بمحاولة التخمين سيقوم السيناريو فيما بعد بتكذيب كل ما توصلنا إليه وبالتالي تصير جميع تخميناتنا لا علاقة لها بالحقيقة.
فرأينا الابن “أحمد”(أحمد الفيشاوي) يلتزم الصمت التام والهدوء القاتل أثناء محاكمته، بل و يصر على عدم التصريح بأي شئ أو حتى محاولة الدفاع عن نفسه بإنكار التهمة الموجهة إليه مما يجعل هيئة المحلفين بالحكم عليه بالإعدام بعد إيداعه مصحة نفسية لمدة “45 يوم” للتأكد من سلامة قواه العقلية.
وهنا يقدم لنا السيناريست “محمد حفظي” خطا دراميا آخر موازي يتمثل في الدكتور “راهب”(هشام سليم) الذي سيتولى متابعة الحالة العقلية “لأحمد”(أحمد الفيشاوي)، والذي سيتم تأجيل أجازته “45 يوم” من أجل متابعة الحالة ووضع تقريره مما يؤدي إلى المساهمة في زيادة الصدع/الخلاف بينه و بين زوجته “سلمى”(شيرين الطحان) التي وعدها أكثر من مرة بالذهاب في أجازة إلى اليونان، إلا أن كل مرة يتم تأجيل أجازته نظرا لظروف عمله؛ ولذلك نراها تقول بسخرية( الأجازة تأجلت وبقالك خمس سنين بتقول حنروح اليونان) ومن ثم نعرف فيما بعد أنهما يعيشان في بيت واحد وكأنهما ضيفان أو شخصان يقيمان في أحد الفنادق وبالتالي يلتقيان دائما بالمصادفة لعدة دقائق ثم لا يلبثا أن يفترقا كل إلى عمله وعالمه الخاص، بل نراه في إحدى هذه اللقاءات يسألها عن طعام أعدته بدلا من الطعام الجاهز الذي يتناوله دائما فترد عليه مستنكرة( طبيخ؟ انت اتجننت؟) مما يؤدي به إلى الشعور بالوحدة الدائمة التي يتغلب عليها بالذهاب إلى البارات واحتساء الكثير من الخمور، ربما لمحاولة الخروج من حالة الوحدة القاسية التي يشعر بها.
إلا أننا نلاحظ اهتمام الدكتور “راهب”(هشام سليم) بعمله، ربما لأنه السبيل الوحيد أمامه للبقاء حيا والشعور بأهميته في حياته الوحيدة القاسية؛ فنراه يحاول دائما اكتساب ثقة “أحمد”(أحمد الفيشاوي) الذي يصر على التزام الصمت وعدم التصريح بأي شئ عن حياته أو الجريمة التي تمت، إلا انه بمرور الوقت يستطيع اكتساب ثقته ومن ثم يبدأ “أحمد” الحديث معه عن نفسه وعن أسرته منذ صغره و كيف كانت معاملة أبيه “عز”(عزت أبو عوف) الذي نراه يتعامل معه بقسوة وصرامة غير معهودة أو مبررة، مما يجعلنا نتساءل طوال الفيلم حتى المشاهد الأخيرة( لم يتعامل الأب مع ابنه بمثل هذه القسوة في حين انه يتعامل مع الابنة بمنتهى الرقة والحنان؟)، فنراه في أحد المشاهد بينما الأم أعدت الطفلين للذهاب إلى مدرستيهما تسرع الابنة إلى أبيها لتقبله خارجة إلى مدرستها وحينما يحاول الابن تقبيل والده وتوديعه نرى الأب يسرع بوضع يده أمامه كحائط صد ليقول بقسوة وجهامة( قلت لك مليون مرة قبل كدا الرجالة مابيبوسوش بعض) مما يجعل الابن يرتد في حالة خزي بينما تقف الأم متأملة الموقف بحسرة صامتة لا حول لها ولا قوة.
وتارة أخرى حينما يرى الابن أحد الضيوف في إحدى الحفلات يضع يده على ظهر أمه نرى “أحمد”(أحمد الفيشاوي) يقترب من الضيف وقد تملكته الغيرة ليبول على قدم هذا الضيف وكأنه الدفاع الوحيد عن أمه مما يؤدي بالأب إلى جلد الطفل بحزامه الجلدي بقسوة لم نرها من قبل ولا نتخيلها من أب مع ولده، كذلك نرى الأب دائما وقد تملكته حالة من الصرامة والقسوة وتقطيب الحاجبين، بل والصمت التام داخل المنزل مما يجعل المنزل دائما في حالة سكون عميق وكأنه لا يسكنه أحد من الأحياء، إلا أن الصوت الوحيد الذي كان مسموحا له بالسماع داخل هذا المكان هو صوت البيانو الذي تعزفه الابنة المدللة من أبيها- “نهال”(ماريانا)-.
وربما نتيجة لهذه الحالة من القسوة الشديدة يشعر الابن دائما بالوحدة نظرا لأنه لا يستطيع الانفراد بأمه والحديث معها لدقائق لأن الأب دائما ما يدخل عليهما فجأة بصرامته المعهودة التي تجعلهما يخشيان الحديث في حضرته، كذلك خشيته من الانفراد بأخته التي يكن لها الكثير من الحب العميق نتيجة لأن والده كثيرا ما جلده بالحزام لأنها ركبت خلفه الدراجة البخارية ولأن الأب يرى أن الابن سيفسد أخلاقها، نقول نظرا لتلك الوحدة المفروضة عليه نراه يتجاذب أطراف الحديث مع صديقه الوحيد بالمدرسة- والذي جعله السيناريست خطا دراميا ثالثا وفرعيا داخل السيناريو- الذي يعرف منه- أحمد- حينما يسأله لماذا لا توجد معه نقود طوال الوقت، فيخبره أن والده قد توفي وهو الذي كان يغدق عليه بالمصروف إلا أن والدته بعد وفاة الأب منعت عنه المصروف تماما ثم يخبره الطفل أنه يعتقد بأن والدته ستتزوج قريبا لأن هناك صديقا لها يأتي دائما للمنزل وحينما يحضر فإنها تحرص على عدم وجود الابن معهما، فيؤكد له “أحمد”(أحمد الفيشاوي) أن هذا المال من حقه هو لأنه مال أبيه ولابد من استرداده وعدم ترك والدته وصديقها يستمتعان به؛ ومن ثم يخططان للاستيلاء على هذا المال؛ فيصعد “أحمد”(أحمد الفيشاوي) في إحدى الليالي الممطرة إلى شقة صديقه فيأخذ المال من الدولاب ويجد سوتيانا فيضعه أيضا في جيبه، إلا أن رغبته في معرفة ما يدور أثناء غياب صديقه تجعله يتلصص على والدة الصديق التي يراها تمارس الجنس مع صديقها فيهبط مسرعا ليعطي صديقه النقود ويهرب.
إلا أن الأم “سوزي”(غادة عبد الرازق) تجد السوتيان أثناء ترتيبها لحجرة طفلها ولكنها لم تكد تمسكه إلا ويدخل عليها الزوج ليسألها هل هو سوتيانها؟ ولأنها تخشى الكذب عليه تشير برأسها علامة النفي وهنا نرى مشهدا من أجمل المشاهد التي قدمها المخرج “أحمد يسري” حينما نرى الأب وقد اقتربت الكاميرا من وجهه المتجهم الصارم في “كلوز آب”close up لينطلق صوته بقوة كالرعد بينما نسمع في الخلفية السمعية من خلال مؤثرات الصوت صدى نداءه على طفله، إلا أن الأم تتوسل إليه ألا يضربه وقد انسكبت دموعها فنراه يدفعها بيده خارج الحجرة ليغلقها عليه وعلى الطفل المنكمش رعبا فيصرخ في وجهه( جبت البتاع دا منين؟) إلا أنه لا ينتظر ثانية واحدة كي يجيبه الابن ومن ثم يبدأ في جلده بقسوة مستخدما حزامه.
كذلك نرى الأب في مشهد أكثر قسوة يرفض الذهاب إلى ولده أو محاولة توكيل محام له حينما يتم الإبلاغ عن السرقة ومن ثم يتم إيداعه الأحداث أربعة شهور وثلاثة أيام، مبررا إحجامه عن ذلك أنه لابد أن يتربى، بل ويمنع الأم من الذهاب إلى ولدها مؤكدا لها أنها إذا ما خرجت من البيت لرؤية ابنها فإنها لن تعود للبيت مرة أخرى، بل ولن ترى ولدها أيضا.
ولعل الطامة الكبرى والقشة التي قصمت ظهر البعير حينما كبر الابن “أحمد”(أحمد الفيشاوي) وقدم أوراق التحاقه لأكاديمية الطيران وتم قبوله؛ فيسرع إلى والده كي يخبره( أنا قبلت في أكاديمية الطيران في فلوريدا.. فاضل لي بس ألف دولار عشان أحجز مكان) فنرى الأب الجالس لاحتساء الخمر يرد عليه ببرود وقسوة( انت فاكر نفسك ممكن تبقى طيار بجد؟ انت متنفعش تبقى طيار.. عشان تبقى طيار لازم تبقى راجل حقيقي) ومن ثم نراه يتناول أوراق الموافقة على طلب الابن ليمزقها أمامه، ولعل هذا المشهد كان بارعا حينما اقتربت الكاميرا “كلوز آب”close up على يد الأب لتملأ الشاشة بينما نراها تتحرك في عرض بطئslow motion مقطعة لأوراق التحاقه الممثلة للابن مستقبله مما حدا به إلى الخروج لإحدى الملاهي الليلية (نايت كلاب) فيحتسي الكثير من الخمر ويعود إلى البيت في حالة يرثى لها، إلا أن الأب يفاجئه منتظرا إياه ليقول بقسوة( كبرنا و بقينا نسكر وبندهول وراجع لي البيت الساعة أربعة وسكران) بينما نرى يده في قطع مونتاجيcross cutting على زجاجة الخمر التي يصب منها في الكأس، في الوقت الذي تتابعه عينيّ ابنه، وهنا نرى الأب يدخل في مباراة غير معقولة بها الكثير من التحدي والكره والمقت مع ولده على شرب الخمر حتى يكاد الابن يفقد وعيه فنسمع الأب يقول ساخرا( بذمتك انت فاكر نفسك راجل؟ دا انت حتى مش عارف تبقى فاشل).
كل هذه الظروف وهذه القسوة غير المبررة واللامعقولة، وقلة حيلة الأم أمام زوجها الصارم والثائر دائما دفعا الابن إلى ترك البيت قائلا( مستنيتش لحد ما يطردني من البيت) وبالتالي يذهب إلى الإسكندرية في أحد الشاليهات بالعجمي مع بعض أصدقائه ليقيم هناك وحده حينما يتركونه ويعودون إلى القاهرة، فيتقابل هناك مع “نرمين”(لانا سعيد) التي تقيم هناك وحدها لأنها ستسافر إلى لندن لدراسة الـart ومن ثم فهي في حاجة إلى الوحدة لاتخاذ القرار نظرا لأنها لا تريد ترك والدتها وحدها هنا، إلا أن هذه العلاقة الرومانسية الجميلة التي ارتبطا بها معا والتي كانت بالنسبة له طوال الفيلم بمثابة الشئ الوحيد الجميل والنادر الذي حدث له سرعان ما ينتهي متلاشيا حينما يخبرها أنه سيعود إلى القاهرة ليحتفل بعيد ميلاد شقيقته وسيعود إليها قبل أن تتم الساعة دورتها مرة أخرى؛ إلا أن وقوع حادث لشقيقته حينما تركب خلفه الدراجة البخارية يجعله يقضي عدة أيام ومن ثم حينما يعود يجد “نرمين”(لانا سعيد) قد غادرت المكان إلى غير رجعة.
ولأن والده “عز”(عزت أبو عوف) يرفض زواج الابنة “نهال”(ماريانا) من الشاب الذي يحبها وتحبه يذهب خطيب الابنة إلى “أحمد” حيث يقيم في العجمي الذي يطمئنه قائلا أن كل شئ سيكون على ما يرام قريبا لأنه سيعود ويحل كل هذه الأمور.
وهنا نتأكد كمشاهدين أن “أحمد”(أحمد الفيشاوي) قد اتخذ قراره في العودة لقتل الأب الشديد القسوة في التعامل معه ومع أمه والذي حطم قلب شقيقته برفضه زواجها، كذلك نرى الأب الدائم الشك في سلوك زوجته والذي يتصنت على مكالماتها التليفونية دائما مما يجعله يستمع إليها ذات مرة تحدث أحد الأشخاص الذي يعطيها موعدا في إحدى الشقق ذاكرا لها العنوان ومن ثم يتأكد له خيانة الزوجة، وهنت تحدث بينهما مشادة كلامية نستمع فيها إلى “سوزي”(غادة عبد الرازق) تقول (انت إيه يا أخي؟ بتشك حتى في الهوا اللي حواليك؟) بل نعرف أنه دائم الخيانة لها حينما تقول( أوعى تكون مفكر إن كل مرة كنت بتخوني فيها ماكنتش بعرف.. كنت بعرف وأستحمل عشان ولادي) وهنا ومن خلال الحوار الذي دار بينهما يتكشف لنا لأول مرة سبب تلك القسوة الشديدة التي يتعامل بها الأب مع ابنه؛ حيث يشك دائما أنه ليس من صلبه نظرا لأنه ولد بعد سبعة أشهر من الزواج، ولأن الأب متيم بحب “سوزي”(غادة عبد الرازق) ويشعر بالغيرة الدائمة والشك في سلوكها نتيجة لهذا الحب الجامح/المرضي؛ فهو يعاملها أيضا بمثل هذه القسوة التي يعامل بها صغيرهما.
ولذلك حينما يعود “أحمد” لمواجهة الأب ونقاشه في سبب رفض زواج “نهال” نرى الأب بينما هو في حالة سكر شديد يحاول تشكيكه في سلوك أمه قائلا( تكونش فاكر أمك أشرف ست في الدنيا؟ انت عارف أمك دي إيه؟) ثم يعطيه العنوان الذي سمعه في الهاتف أثناء التصنت عليها، وحينما يذهب الابن يراها من خلال شباك الشقة الواقفة فيها وهناك شخص ما خلف الستارة يشعل لها سيجارتها مما يجعله يتيقن من سوء سلوك الأم.
إلا أنه حينما تعود الأم يكون الزوج “عز”(عزت أبو عوف) قد بات في حالة سكر تام وقد ارتدى ملابسه الكاملة كطيار ومن ثم نراه يقتلها ببرود دون أية كلمة منه، وحينما يسمع “أحمد” صوت الطلق الناري يهرع إلى الحجرة ليجد أمه مدرجة في دمائها بينما الأب واقفا متأملا إياها ممسكا مسدسه الذي يصوبه باتجاه ابنه حينما يراه مما يجعلنا نظن أنه سيقتله أيضا ولكنه سرعان ما يصوبه تجاه نفسه لينتحر.
وهنا نستمع إلى صوت “أحمد”(أحمد الفيشاوي) قائلا من خلال الأحداث الآنية بعد انتهاء الفلاش باك الطويل( حسيت إني لازم أشيل مسئولية كل اللي حصل.. كان لازم ألتزم الصمت عشان تفضل صورتهم حلوة) ومن ثم يتم خروجه من المصحة لتنفيذ حكم الإعدام، إلا أن المشهد البليغ الذي قدمه المخرج “أحمد يسري” كان أثناء تنفيذ حكم الإعدام بينما يتم الانتقال بنا من خلال القطع المونتاجيcross cutting إلى سيارة مجهولة تتوقف أمام بيته ليخرج منها أحد الأشخاص( فاروق الفيشاوي) الذي يخبر جدة الابن بأن أمه “سوزي”(غادة عبد الرازق) كانت قد ذهبت إليه قبيل وفاتها لاستئجار إحدى الشقق- حيث كانت ترغب في ترك البيت لزوجها كي ترغمه على التعامل معهم برقة وبشكل أكثر إنسانية- وهنا يتبين لنا- من خلال المشهد الأخير- أن “سوزي” لم تكن خائنة لزوجها، وأن الابن الذي فضل الإعدام على قول الحقيقة المشوهة التي يعرفها، ومن ثم فضح وتشويه صورة أمه و أبيه قد مات من أجل وهم لا وجود له.
ربما كنا قد أطلنا كثيرا بشكل متعمد في سرد الكثير من تفاصيل الفيلم ولكنا رأينا أنه لابد من ذلك للتدليل على الكثير من الأمور التي رغبنا في سوقها أثناء حديثنا، كذلك الحديث عن الكثير من المشاهد الهامة التي توضح أزمة الابن وغيرها من المشاهد التي برع فيها المخرج والمصور.
إلا انه بالرغم من تماسك الفيلم وحبكته، ومن ثم براعة السيناريو الذي كتبه السيناريست “محمد حفظي” وأخرجه مخرج بارع نجح في تقديم أوراق اعتماده من خلال عمله الأول- أحمد يسري- لاحظنا أن القصة الفرعية التي حاول المخرج والسيناريست زجها داخل أحداث السيناريو-حينما قابل “أحمد” “نرمين”(لانا سعيد) في العجمي- لم يكن لها من داع على الإطلاق داخل السيناريو؛ لأن عدم وجود هذه القصة داخل السيناريو لم يكن سيؤثر عليه أو ينقص منه شيئا، وبالتالي فهي لم تضف إليه شيئا كذلك، ومن هنا ظهر لنا الأمر من قبيل التزيد والثرثرة والحشو الذي لا داع له، كذلك تساءلنا كثيرا طوال مدة مشاهدتنا للفيلم حتى خرجنا منه (ما هو الداعي لعرض علاقة الطبيب “راهب”(هشام سليم) مع زوجته “سلمى”(شيرين الطحان) بمثل هذا التفكك والانهيار وكأنهما ضيفان في فندق بدلا من أن يكونا زوجين حقيقيين؟ ولماذا كل هذا الصدع العميق بينهما؟) فالسيناريست “محمد حفظي” ومعه المخرج “أحمد يسري” لم يهتما طوال الفيلم بتقديم أية مبررات أو أسباب لتداعي ومن ثم تحطم تلك العلاقة التي تكاد تكون منتهية تماما- اللهم إلا إذا كانا يظنان أننا لابد سوف نفتح المندل لمعرفة السبب في ذلك- ولعلنا جميعا نعرف أن جذب انتباه المشاهد منذ المشهد الأول وجعله في حالة تساؤل دائم طوال الفيلم من أهم المميزات التي تجعل السيناريو ناجحا؛ ومن ثم لابد من تقديم الإجابة له في نهاية الأمر، أما تركه معلقا في الهواء دون تقديم إجابة شافية وواضحة لتساؤله، فهذا يعد عيبا خطيرا يكاد يهدم السيناريو تماما، ولذلك لم نقتنع إطلاقا بالمبرر الواهي الذي تم تقديمه لهذا الخلاف العميق بأنها سبق أن فقدت طفلها أثناء حملها وأن كل منهما منشغل في عمله وعالمه الخاص به.
كذلك مشهد المواجهة بين الأب “عز”، وابنه “أحمد” الذي نستمع فيه إلى الأب مبررا سبب قسوته اللامتناهية لابنه بأنه كان يريد أن يجعل منه رجلا حقيقيا، وأن حبه الشديد له وخوفه عليه وحرصه على تنشئته رجلا كان هو السبب الأساس في تلك القسوة، نقول أن مشهد المواجهة افتقد للكثير من المنطقية والعقل، بالإضافة إلى ظهوره متضاربا مع أحداث الفيلم الذي عرفنا منه أن الشك الدائم في الزوجة والغيرة عليها، كذلك شكه في عدم انتساب ابنه إليه، كل هذه الأمور كانت هي السبب في تلك القسوة فلماذا يعود السيناريست “محمد حفظي” لينفي كل ذلك في مشهد واحد وكأنه ينفي الفيلم؟ كما أن مبررات الأب في الاعتراف لابنه غير منطقية لأنه لا يعقل أن يتعامل أب مع ابنه بمثل هذه القسوة لمجرد أنه يرغب أن ينشئه رجلا.
كل هذه المآخذ بالإضافة إلى إسراف المخرج “أحمد يسري” الشديد في استخدام تقنية العرض البطئslow motion كانت من الأمور التي كثيرا ما أقلقتنا أثناء مشاهدتنا لهذا الفيلم البديع؛ فنحن لا ننكر أن الفيلم في الكثير من مشاهده كان في حاجة حقيقية إلى العرض البطئslow motion ولكن يبدو أن الأمر استهوى المخرج “أحمد يسري” ومعه مدير التصوير “جلال الذكي”- وكأنهما يرغبان استعراض إمكانياتهما كمخرج ومصور يقدمان أوراق اعتمادهما لأول مرة في عالم السينما- فبدا لنا الفيلم وكأنه slow motion طويل لا يكاد أن ينتهي.
إلا انه لابد من تحية مدير التصوير البديع “جلال الذكي” لذكائه في استخدام الكاميرا لاسيما لقطات الكلوز آبclose up الموفقة تماما، وبعض المشاهد التي استخدم فيها تقنية العرض البطئ slow motion ، كذلك المشاهد ذات الألوان القاتمة الموحية المناسبة لجو الفيلم القاتم، كذلك المونتير “أحمد حافظ” الذي نجح في توليف فيلم لابد سيحسب له في تاريخه السينمائي، إلا أن التحية الحقيقية لابد أن توجه للمخرج “أحمد يسري” صاحب اللغة السينمائية الراقية، والذي يثبت لنا في أولى تجاربه السينمائية أن السينما المصرية قادرة على تقديم العديد من المخرجين المميزين والجادين في مقابل تيار اللامعنى والسطحية الذي يحاول السيطرة عليها.
وربما لذلك نجح المخرج في تقديم “أحمد الفيشاوي” في دور رئيسي لم نكن نتوقعه من قبل؛ نتيجة لأننا لم ننظر له كممثل دور أول سابقا، إلا انه خاض التجربة بنجاح يحسب له، كذلك الراقية البديعة “غادة عبد الرازق” في أفضل أدوارها السينمائية والتي تثبت لنا يوما بعد آخر نضوجها الفني ومن ثم قدرتها على تقديم أدوار صعبة تؤديها باقتدار، أيضا الفنان “عزت أبو عوف” الذي يدهشنا كثيرا نتيجة لخياراته الفنية في الآونة الأخيرة؛ نظرا لتمكنه وقدرته على أداء الأدوار الصعبة والتي تحتاج إلى ممثل حقيقي وموهوب، إلا أنه صار كثيرا ما ينحى باتجاه الهزل والسطحية والتفاهة في أفلامه الأخيرة مما أدى إلى نقصان الكثير من رصيده الفني لدينا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائي وناقد سينمائي مصري