يا عيني عالسكر لما تبهدله الأيام

صفاء النجار 2
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

كم نحتاج من العمر حتى ندرك أن الأشياء تتغير وأنه لا معايير ثابتة؟

احتاجت جدتها أن تعيش سبعين عاما كي تصيغ عباراتها الدالة

- طعم السمك اتغير.

ولكن الأيام المتسارعة الوتيرة جعلتها هي الأخرى تقف على العتبات، محاولة إعادة ترتيب عالمها ، وتأطير حكايات يمكن أن ترويها ابنتها، فتنكرها حفيدة وتتماهى معها أخرى، بينما ثالثة تمط شفتيها باستهانة ومراوغة. 

لم تكن تنقصها يوما شجاعة أن تصرح بأنها لا تشرب الشاي ولا تستسيغ طعمه، ورغم الدهشة والاستنكار لم تغير موقفها، وأحيانا كانت تجد من يؤيدها ويتماهى معها “دا حتى الشاي بيحرق الدم” لكن الأيام الحبلى دائما بما لا نحلم جعلتها الآن من المروجين للشاى الأخضر والمسبحين بفوائده العديدة كمضاد للأكسدة و والسمنة و الشيخوخة.

هذه التلقائية والمرونة تجعلها لن تتردد في أن تصك عبارتها :

– طعم السكر.. لم يعد يحلو لي.

فطعم السكر زاعق، يخفي مرارة الفانيليا وحموضة الليمون، طعم السكر صارخ .. صاخب مثل ضجيج القاهرة وازدحام شوارعها ، طعم السكر مخادع ، تحتاج إلى عمر كي تكتشف كم هو خادع ومناور، يملك مهارة المهرجين دون خفة دمهم.

السكر يجعل الأشياء متسقة ، آلية ، يساوي البدايات بالنهايات ، فكل المفاجآت مغطاة بمهارة من يغلفون هدايا عيد الحب، لا تعرف الحقيقة إذا أحببت السكر وأدمنته، هو قادر على إفساد حلمات التذوق في لسانك فلا تعرف طعم الأشياء وتنوعها بين المر والحلو والحامض ، فتعيش العمر مخدوعا وتكتشف أنك لم تعرف من الحياة غير قشرتها ، ولم تنفذ إلى لب الأشياء .

من هو الرجل المزيف الذي اخترع عجينة السكر التي يغطون بها التورتة .. ألم يسمع بالمثل الهولندي “على الوجه المحروق من الكعكة يوضع الكثير من السكر” ،إنه رجل المظاهر الخادعة و البريق الفالصو، حيث يخرج الساحر من قبعته حماما ومناديل لا أستطيع الاحتفاظ بها . يبهر صانع التورتة المغطاة بعجينة السكر الصغار بألوانها الزاهية ، وأشكالها ، لكن أي عاقل لا يزيح هذه الطبقة اللدنة ويحرم نفسه من الاستمتاع بونس الكيك الحلو باعتدال، و حميمية الكريمة الغنية بخفة، و ونس قرمشة المكسرات .

طعم السكر غطاء والأغطية بلا قيمة أو معنى كطبقة مكياج ثقيلة على وجه ممثلة ، جمد البوتكس تعبيرات وجهها فيختلط عليك ابتهاجها و حزنها ، وهذا ليس مجاز بل حقيقة علمية فالسكّر يثبط العديد من الهورمونات التي تفيد الجسد ويعجل بالشيخوخة.

السكر منسجم.. منمق .. مفتعل .. الذين يحبون السكر ليسوا مغامرين بطبعهم بل هم قوم لا يخاطرون، ويستكينون للدعة والراحة ، لا يتشقلبون في أدغال الحياة، ولا يتمردون على الياقات البيضاء، وأربطة العنق تقلل من وصول الدم لأدمغتهم وهؤلاء الأشخاص الذين يهيمون شغفا بالسكر هم أقرب ما يكونوا للمدمنين فالسكر يغذي كل خلية في المخ ، والمواد الكيميائية به والإفراط في تناول الحلويات قد يغير من استقبالات المخ ، كما أن السكر هو كربوهيدرات سريعة الحرق وبالتالي مهما تناولت من الحلويات لن يمر وقت طويل حتى تشعر بالحاجة إلى تناول المزيد وقد تشعر بالتعب و البطء في التركيز ، فالسكر الزائد يعمل كمخدر للمخ, وهو ما أثبتته الأبحاث العلمية الحديثة.. والذين يقلعون عن الكحوليات يلجؤون لتناول السكر تعويضا لهذا الإدمان الذى تزيد درجته مع إضافة الدهون والملح, حيث يعتبر المخ السكر في هذه الحالة مكافأة فيتولد لدى المرء الشعور بالسرور والمتعة والسعادة والانتباه، ومع تناوله بصورة منتظمة ومتكررة يعود المخ عليه, مما يجعل الشخص مضطرا لتناول كمية أعلى من السكر لإنتاج مزيد من الشعور بالسعادة حيث لا يستطيع بعض المستهلكين له العمل بدونه حيث أن غياب السكر لديهم أو صعوبة الحصول عليه يسبب صداعا, وقلقا, وتعبا.

ويبدو أن الحكومات في بلادنا قد أدركت هذه السمة المخدرة للسكر فجعلوه من أوائل المواد الغذائية المدعمة وجعلوا لكل فرد حصة معلومة وقد حدث في عهد الرئيس السادات أن قل معروض السكر في جميع أنحاء البلاد بعدما شاع أن سعر السكر سيرتفع .. فقام التجار بتخزين كميات كبيرة من السكر و أدى ذلك إلى حدوث أزمة، فما كان من الرئيس السادات – الذي يمتلك دهاء الفلاحين ويعرف الملاعق الخمسة المذابة في كوب الشاي التي لا ينضبط المزاج الصعيدي بدونها – إلا أن أمر رؤساء الصحف القومية بكتابة خبر على الصفحات الأولى محتواه ( ثلاثة سفن محملة بملايين الأطنان من السكر تصل مصر الأسبوع القادم )، عندما علم التجار بذلك الخبر قاموا بإغراق السوق بكميات السكر المخزن خوفاً من انخفاض سعره بعد وصول السفن.. وانفرجت الأزمة.

والسكر الذي يعني باللغة السنكريتية Sarkaural الحصى، ثم نقلت إلى الفارسية لتكون سكر، ثم إلى اللغات الأوروبية كالإنجليزية Sugar والفرنسية sucre، ظل لقرون طويلة منتجا ثمينا، غير متاح للجميع كما هو الآن، واسمه السنكريتي يعود إلى أصل نشأة نبات قصب السكر منذ الألف الثامن قبل الميلاد على ضفاف خليج البنغال و عندما احتل الإسكندر المقدوني الهند أشرف جنوده على مزارع قصب السكر في الهند واستفادوا من خبرة السكان المحليين في عصر نبات القصب وتكثيف العصير وبلورته و لكنه كان يستعمل على أنه نوع من أنواع العلاج و ليس طعاماً.

و قد عرف العرب و المسلمون السكر – كمعجون لزج شبه بلوّري ذو فوائد طبية- كان النبي يفطر على التمر وكان إذا وجد السكر أفطر عليه .وكان يقول: “إنه يبقي الكبد والمعدة ، ويطيب النكهة والفم، ويقوي الاضراس والحدق، ويحد الناظر، ويغسل الذنوب غسلا ، ويسكن العروق الهائجة والمرة الغالبة، ويقطع البلغم، ويطفئ الحرارة عن المعدة ويذهب بالصداع”.

ويمكننا أن نصدق هذه السمات المحببة للسكر لدي النبي في اطار الاستهلاك المعتدل أو القليل بما كان متاح أيام النبي (ص) وكان الامام على يقول : من أخذ سكرتين عند النوم كانت له شفاء من كل داء إلا السام، لو أن رجلا عنده ألف درهم فاشترى بها سكر لم يكن مسرفا وكان عمر بن الخطاب ..كثيرا ما يتصدق بالسكر فيسأله الناس ولما السكر ؟ فيقول لأنى أحبه جدا فأحببت ان أنفق مما أحب لله، ألم تسمعوا قول الله تعالى:((لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)).

وبمرور الأيام وتطور الحضارة الاسلامية توسع المسلمون في زراعة قصب السكر على امتداد الدولة الإسلامية وقام العلماء العرب بتطوير الأدوية التي استخدم فيها السكر كمادة حافظة، حيث أن حبيبات السكر ليست عرضة للتلف أو التعفن لأن السكر لديه محتوى منخفض للغاية من الرطوبة يبلغ حوالي 0.02 في المائة لذلك فإنه يجفف كل الكائنات الدقيقة التي قد تسبب العفن.

و قد عرفت أوروبا السكر من الاحتكاك بالحضارة الإسلامية في صقلية و قبرص و الأندلس وكان الفرسان الصليبيون يعودوا لبلادهم و معهم ما أطلقوا عليه “الملح الحلو” واصفين إياه بأنه “أكثر البضائع قيمة و أهمية لاستخدام الإنسان و صحته”.

فالسكر قبل مائة وخمسين عاما كان عزيزا غاليا غير متاح أو متوفراً في المحلات التجارية كما هو عليه الأمر الآن، وفي أوربا كان يتحتم على من يريد أن يحصل على قطعة من السكر أن يشتريه من الصيدلية بمبالغ طائلة، فقد كان يباع كحبوب لعلاج الإسهال والصداع، وكانت طبقة الأمراء والملوك هي الطبقة التي يتاح لهم تناول كميات محدودة من السكر كنوع من أنواع الأدوية.

وبمرور الأيام ونتيجة التقدم الصناعي زاد إنتاج السكر العالمي وأصبح السكر سلعة متاحة للجميه وتعددت أنواعه ومصادره: سكر القصب، سكر الفاكهة ، سكر الشعير، سكر البنجر، سكر الخروع، سكر البلح. وأصبح السكر ككل الأشياء التي يساء استخدامها شعبي ، ومبتذل أوقد استهلاك السكر تضاعف ثلاث مرات خلال الخمسين عاما الماضية، ووصل استهلاك الفرد إلى 33 كيلو جراما سنويا, ويبرر البعض هذا الشره في استهلاك السكر بما يؤكده بعض العلماء من أن الإنسان يمتلك جاذبية طبيعية وقوية للطعم الحلو.

حتى عند الحديث عن فترة ما قبل الولادة، حيث يقوم الاطباء بحقن مادة حلوة المذاق الى داخل الرحم في فرط السائل الأمنيوسي، لجعل الجنين يبتلع المزيد من السائل، فهذا يعني أن الانسان يمتلك جاذبية نحو الطعم الحلو في الفم، حتى قبل ولادته.

لكن هذه الجاذبية لا تعني أن نتحول إلى مدمنين للسكر أو مرضى بالسمنة أو السكر، كما أن استهلاك السكر دليلا على الرقي أو الرفاهية بل هو دليل على غياب الثقافة الغذائية الصحية التي تعتمد على البروتينات والحبوب الكاملة والخضروات والفاكهة.

والآن يمكن لها أن تقول :

– طعم السكر .. لم يعد يحلو لي.

و أستطيع أن أقول

– طعم السكر حجاب، والحجاب غفلة، والغفلة ذنب.

هل ستجرح هاتان العبارتان ملايين من المصريين الذين ينتظرون أكياس السكر التي تسلمها الحكومة لهم على بطاقات التموين وتقل مزاجهم ؟ لا أظن لأنها تعرف عدد قراء مقالها وكلهم ليس لديهم بطاقة تموين.

هل ستجعل المرشحين في انتخابات مجلس الشعب يعيدون حساباتهم في نوعية الرشوة العينية التي يقدمونها للناخبين ؟ لا أظن فالمرشحون والناخبون في بلادنا لا يثقون في الآراء الصادرة عن سيدة تمتلك هذه الطلة وتلك الابتسامة ويكتفون بالفرجة على صورتها.

أقصى ما أتمناه وكمزيد من تزجية الوقت وتمضية الأيام ، أن تجد ردا على عبارتها ” طعم السكر لم يعد يحلو لي ” بهشتاج مصري ساخر # ياعيني عالسكر لما تبهدله الأيام ، و# اللي ما يحلاش له السكر كفاية عليه الجاتوه.

 

مقالات من نفس القسم