حمام نسل الحاج إبراهيم

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

شكري سلامة شكري 

حاول محمد محمد إبراهيم ضبط نفسه المتسارع، بينما ينهشه القلق. كان يعلم بغريزة الابن المطيع أن الحدث لن يمر هباء.

بدأ تشغيل الكاميرا، أظهر بعض الأسى المصطنع وهو يوجهها  نحو وجهه. بان من خلفه سرير ضخم يفترشه جسد ضئيل أكلته الحسرة حتى نحل… أظهر دموع تماسيحه وهو يفكر في طريقة يستطيع من خلالها جذب أكبر عدد من المشاهدين.

تلك اللايفات لا تخلوا من مفاجأة دوما، هذا ما كان في ذهن أول مشاهد انضم إلى اللايف بينما غرق رأس محمد محمد إبراهيم في تفاصيل الحلم :مشاهدات بالأكوام مشاركات متلتلة، شهرة ومال وإعلانات.

وأخيرا قال:”ماتت أمي … تعالوا نشوف فعل سناء حين تدخل لتتأكد من الخبر… “

دخلت سناء بقميص نوم أبيض كشف لحمها، لحم رخيص لكنه حر يترجر، وتلك كانت ردة فعلها، أعولت عند الباب، وارتمت على الفراش حين اقتربت منه وأخذت تنتحب على السرير.

حاول محمد محمد ضبط الكاميرا على المشهد. وضع زوجته وأمه في إطار واحد، فبدت صورة لعالم يتآكل وينهار. كذلك بدى صوت نحيب زوجته مصطنعا، حتى الأم بدت كأنها تتصنع في موتها، وأخذت  المسافة الفاصلة بين الحقيقة والزيف تتضاءل  حتى تكاد تصبح منعدمة. ربما حين أطعمته في طفولته لم يكن يتصور أيا منهما أنه سيضطر لعمل ذلك. وهو لا يصدق بينه وبين نفسه  أنه يصور جثة أمه من أجل حفنة مشاهدات. وإنما يقتنع تماما بأن الأمر ليس كذلك. فهذه ليست أمه بل مشهد أو حالة. الموت بهيبته تحول بغير وعي إلى اسكتش يمثلونه كما كل شيء، كما الحياة الزوجية وبين المرأة التي تداري وجهها في النقاب ، ولا يختلف الموقف أبدا عن موقفه من ابنه الذي بات يدرك الآن حقيقة أبواه… أنهما مجرد مزحة سخيفة لا يمكنه أخذها على محمل الجد.

 محمد محمد إبراهيم يقف هناك ممسكًا بالكاميرا محاولا عمل “كلوزات” على جسد زوجته، لأن أدرك من خبرة السنين أن التضاد بين اللحم الحي الوافر والجسد المتيبس سيضخم المعنى المراد في ذهن المشاهدين وسيضخم كذلك أعدادهم. وحاول وهو يرد على مشاهديه أن يقطع لهم الشك بقين ثابت حول أنهم لا يمثلون هذه المرة كما العادة، هذه المرة فقط كل شيء حقيقي، الموت حقيقي، جثة أمه حقيقة لكن هو محمد محمد إبراهيم في قرارة نفسه يعلم أنه مزحة أو لا شيء.

نحى الملاءة من فوق وجه أمه، والذي لم يتأكد بالفعل ماتت أم لا. كل ما في الأمر أنه وجدها هامدة هذا الصباح ونادى على سناء بعدما لمعت في رأسهم فكرة فيديو جديد بعد فترة طويلة من التكرار الممل لفيديوهات مراجعات وتقييم الطعام، ولما استقرا على الفكرة، اتفقا على تغطيتها بملاءة بيضاء طاهرة منذ زمن ثم بدأ هو التصوير.

حين لمح الجسد القرمزي لمعت الفكرة العبقرية، لكن لم تلمع في ذهنه ذكريات ولم يمر شريط عمرها البائس أمامه، وانشغل كليًا بكيفية تقديم حدث كهذا بما يليق، كي يجني ما يستحق.

وهو لا يفكر الآن في شيء، غير إمكانية أن يصبح الموت، كيتشا، نسخة رديئة عن الموت الذي نعرفه، فحتى المغسلون لن يستطيعوا غسل الجسد من الزيف الذي أحاطه، حتى السائرون في جنازتها في نفس المساء لن يستطيعوا نزع الزيف من فوق المحفة، وأن الذي أخذ عليه محمد محمد إبراهيم العزاء وهو في كامل مجد إحباطه وفشله ليس سوى المزحة التي أودت بأمه.
  ففي تلك اللحظة رفع الملاءة عن وجهها فبدت الجثة كأن الموت طواها منذ سنين، ونادى على سناء لتجلب لوح زجاج ليثبت للمشاهدين- وهو يحلف أغلظ الأيمان- أنها ماتت.

ذهبت سناء في نقابها وجسدها العاري يهتز في إطار الكاميرا التي تتابع حركتها، وحين جاء لوح الزجاج وضعه فوق أنفها، وأفزعه خاطر داهمه فجأ” أنها لم تمت”، دار في رأسه أنها ستفسد كل شيء الآن، الناس يشاهدون، ماذا يقول لهم؟

سيصبح الفيديو والتصوير وكل ذلك المجهود بلا قيمة. سيودع كل أحلامها وطموحاته، ورجا من كل قلبه أن تكون قد ماتت وشبعت موت. وإن لم تكن ماتت فلتمت. وإن تكن قد ماتت وعادت من موتها فلتمت للأبد. ولم يخذله الرجاء، أو لعلها في رقدتها، فهمت دناءته ، وابتذال ما عاشت من أجله، فتمنت موتها فلم يخزلها الرجاء. وشعر محمد محمد إبراهيم بأن القدر في صفه وأن الدنيا مواتية لهواه، ولم تظهر آثار التنفس على الزجاج وزال قلقه وتحول إلى انتصار بلا معنى، حتى إن سناء لاحظت انبساطه وتساءلت عن مقدار جنونه.

سناء التي تملك قناة طبخ، رغم أنها لم تطهو لابنها طعاما منذ سنين، لأنها تنشغل عنه بمشاهديها الذين يعدون بالآلاف، وذلك بالرغم من أنهم لم يروا وجهها، لاتخاذها نقابها الأسود سرا لجمالها وعفتها. بينما جسدها الوافر ينتقل من مكان لآخر في المطبخ ، ووحدهم المتابعون الجيدون لقناتها سيدركون أن سناء في هذا الفيديو هي صاحبة قناة “أطبق المدام سين”

ولم تكن فكرة القناة جديدة عليها أو على المنطقة، بل كانت تقليدا لجارتها أم ابتهال، وكذلك أم رجب، وحتى تقليدا سيئا للفتاة السوسة مريم التي ظهر عليها الغنى فجأة كأول بلوجر في المنطقة بعد فيديوهات التيك توك. وكان أبو مريم يقابل العيون الفجة التي تقتحمه على القهوة بلسان سليط:” سموها دعارة سموها نجاسة سموها ما شئتم… مفيش دكر في المنطقة يقدر يجيب فلوس قد بنتي”

ويقعد بعدها ليستريح مع محمد محمد إبراهيم ويلعبا الطاولة وسط سخط جمهور القهوة ، الذي سيصبح فيما بعد كتيبة انفلونسرز اليوتيوب بقنوات عن يوميات عائلات محترمات وعائلات رمم وأولاد حرام مصفي.

ومحمد محمد يعلم في قرارة نفسه السبب وراء إنشائه قناة “يوميات عائلة الأسطى محمد محمد “

لأنه انساق وراء الأحداث، ورأى أن ما تجنيه امرأته من مال يفوق ما يجنيه من الورشة مئات المرات، فأراد أن يكون بطل قصته على عكس أبوه الذي عاش ومات خدام الست “اللي بتشتغل وتصرف”. أغلق الورشة واشترى في البداية هاتفا بكاميرا عالية الجودة،

وبعدما ذاع صيت العائلة بفضل جسد سناء الذي يعمل ليل نهار بين يوميات زوجها ومطبخها، اشترى كاميرا بالشيء الفلاني ليعطي مشاهديه تجربة أفضل في المشاهدة، لكن سناء كانت تكيده أحيانا وتخبره صراحة أن كل ما فيه من نعيم بسبب جسدها الذي هو

جسد قحبة جيدة. كانت تسحب دور البطولة الذي يكافح من أجله من بين يديه، لذلك رأى في حدث اليوم فرصة، “والفرصة لا تعوض يا محمد”

فاليوم بطل قصته لن تكون سناء وحدها لكنها أمه التي هي امتداد له وهي الحاجة فتحية التي عاشت بطلة قصتها بعدما كافحت وربت وعلمت وحيدها من عرق جبينها بعدما انقطع أبوه عن العمل وجلس في البيت حسب قولها” زي النسوان” فكان على النسوان الاسترجال، وضرب آيات سفر التكوين بعرض الحائط فلا أحد يعلم الآن من خلق من ضلع من.

ومحمد محمد لم يستطع أن يكون بطلا لقصته، في مدينة يتعرض فيها الرجال يوميا للإخصاء عنوة والرضوخ كل يوم لقرارات وسياسات مقيته.  محمد محمد الذي لم يقف قضيبه منذ أن علم بوجوده إلا صدفة، لأنه ورث ضعف الانتصاب من والده الذي شعر بخدر في خصيته بعد قرار السادات بالانفتاح وذلك قبل أن يقرر بلحظات أنه بلا فائدة على الإطلاق، ففضل القعود وشرب الشاي وتربية بعض الحمام.

لم يستطع أيا منهما طيلة حياته أن يبني قصة حقيقة له، بينما تمتعت زوجاتهم بدور البطولة مع اختلاف الطرق، لكن محمد محمد الذي يغرق في أفكاره الآن وهو يمسك الكاميرا ويصوبها على جسد أمه وزوجته، يفكر في أنه أنجب رجلا سيمتعه بالمال الوافر الذي سيمتلكه جراء كل هذا. ولهذا فقط سيصبح رجلا وبطلا في قصته دون أن يعاني الإخصاء عنوة، لأنه لن يكون مضطرا أن يكد وكدح في طبقة المخصيين. لكن علي محمد محمد والذي كان في التاسعة من عمره اقتحم عليهم الغرفة فجأة خالعًا بنطاله يبكي صارخا لأن العيال أهانوه بكشف حمامة في منتصف الحارة، حينها وجدوا طائرا صغيرا قد طار مبتعدا، وحين لم يجدوا أي شيء غير ثقب صغير، أعادوه زفًا إلى البيت، ولما وصل للحمام فتش جيدا فلم يجد غير سطح مفرود به ثقب صغير ليكشف للجميع المأساة وليكتشف محمد محمد إبراهيم الساكن في طبقة المخصيين أن حمام نسل إبراهيم قد طار إلى أبد الآبدين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائي وقاص مصري 

مقالات من نفس القسم