أجمل كتاب في العالم

محمد ممدوح
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد ممدوح

أثارَ الكتابُ دوّامات غبارٍ امتدّتْ لشوارع جانبية عند هبوطه بميدانٍ صغير فاقداً وعيه.

كان يئن من الألم لارتطامه بأشياء في طريقه، ولطيره مسافاتٍ طويلة دون توقّف. أحياناً ينتقل علي طرقٍ وعرة، فيتعرّض لاقتطاع صفحة وسرقة ممتلكات حكاية وترك معانيها. قد يفقد موسيقي، أنهاراً، جبالاً، وبشراً، ليعوّضهم في اليوم التالي طوال تجواله.

أحزنه أنه بلا قدمين وذراعين كالبشر، لكن عالمه الداخلي كان يدفعه للطيران والسفر. يتوقف لالتقاط الأنفاس، فيخرج منه العالم للتريّض ويعود عليه بلغاتٍ ومشاهد جديدة. تمنّي أن يستريحَ فوق رف مكتبة، لكن ضخامته حالتْ دون ذلك، مع أنه رأي نفسه بحلم نائماً في حقيبة مغلقة.

عندما تختفي أحلامه، يمنحه عازفٌ بإحدي حكاياته حلمين جديدين يستعيدهما بعد ذلك كبطلٍ في حكاية.   

لكن “أبطال الحكايات” يهربون أحياناً إلي كُتبٍ أخري ليعيشوا عوالمَ مثيرة، ينما يتكّفل الكتاب باختراع آخرين لملء الفراغ مؤقتاً. يعود الهاربون فتنشب معارك علي أماكنهم القديمة التي تركوها خلفهم، وعندما تنفد الحكايات يجلسون بلا عمل بانتظار أخري تتسلّل إليهم من أذهان عابرين. 

لم يعتبر نفسه منافساً لأي كتابٍ آخر، فالجميع يُكملون حكاية العالم بطرقٍ مختلفة.

  

 رفعَ الكتابُ غلافه متثائباً، فعكس علي نوافذ قريبة غابات، أنهاراً، وأطفالاً من ثلج. شَعُرَ بالحزن لسقوطه بميدانٍ مُحاطٍ ببنايات شاهقة لم يعتد عليها، ولجروح جسده الممتدة لبعض الصفحات. وقلِقَ “أبطال الحكايات” علي مصائرهم لأنّهم اعتادوا الخروج لأماكن مفتوحة بلا حواجز.

سدّ شارعاً متفرّعاً من الميدان فأصيبتْ المدينة بالهلع، اتخذوا شارعاً آخر للوصول إلي أعمالهم فأبطأتْ حركة المرور.  

 لم يروا كتاباً بهذه الضخامة من قبل. كُتِبَ عنوانه باللون الأزرق: “أجمل كتاب في العالم”. اضطربتْ الكُتب الصغيرة عند سماعها الخبر، تمنّتْ لو ولِدَتْ كبيرة متجوّلة بأي مكانٍ مفتوح بعيداً عن أرفف المكتبات الضيّقة، التي عجزتْ عن مغادرتها إلي الميدان فاكتفتْ بإرسال الحكايات لاستطلاع الأمر.   

 تغيّر الغلاف الممزّق بآخر أكثر جاذبية وسحراً.

لم يكن للكتاب مؤلّف بعينه، وإنما ظلّ مفتوحاً لحكايات العابرين في العالم. صعد البعض بالآت حادة لرؤية الصفحات من الداخل، فدفعهم “أبطال الحكايات” ليسقطوا قتلي، فقذفهم آخرون بالأحجار لتَسُدّ شرفاتٍ وطرقاتٍ، ولتهرُبَ أشجارٌ وسماوات للتجوّل في شوارع المدينة، قُتِلَ بعضها لحظة نزولها من الكتاب.

حاولوا تحريكه برافعة وإلقاءه في مكب نفايات، لكنّها وقفتْ عاجزة أمام سحر غلاف يتغيّر كل صباح. تراكمتْ فوقه أتربة وخيوط عنكبوت، فتوقّفتْ حكاياتٌ بداخله عن التجدّد، وأحاطته قمامة تثير الغثيان.

عزَفَ ولدٌ بكمانه القديم فابتسمَ الكتاب، وأصعده “أبطال الحكايات” ليكمل عزفه أثناء إزالتهم الأتربة وخيوط العنكبوت عن الغلاف. 

هبطَ بعدها وأزالَ القمامةَ بمفرده.

في اليوم التالي، احتشدوا بالملابس الرسمية أمام شريطٍ ذهبيّ قصّه عجوز وأشار للولد بالعزف، فانفتحَ بابٌ سريٌّ عند كعبه السميك ليغشي ضوءٌ الأعين. دخل البعض للاستماع لموسيقي، رؤية الألوان، العالم، وإكمال حكاياتٍ ناقصة، بينما فضّل غيرهم ملء صفحاتٍ بيضاء بحكاياتهم الخاصة، والتصوير مع الأبطال قبل سيرهم في شارعٍ، أو التنزّه علي شاطئ. اقتطع المولعون بالمقتنيات أجزاءً معيّنة من صفحاتٍ، لتنبُتَ مكانها أجزاءٌ جديدة.

شعُرَ الكتاب بقشعريرةٍ لذيذةٍ لوقع الأقدام بأحشائه.

عزَفَ له الولد، فتحرّك مُخلياً الشارع للمآرة.

…………………………………….

*من مجموعة قصصية بعنوان “العجوز بائع المسافات”، تصدر قريباً.     

 

مقالات من نفس القسم

تشكيل
تراب الحكايات
موقع الكتابة

ثقوب