عبدالله المتقي
إنما يفتضح العاشق في وقت الرحيل
أبو نواس
“تراتيل الملحاء”، هو الاسم الذي رشحته الشاعرة المغربية فتحية البو، لديوانها الصادر مؤخرا عن دار سليكي أخوين في حلة قشيبة وعلى مقاس كتاب الجيب، يقع في 113صفحة، وتزين غلافه لوحة للفنان التشكيلي المغربي خالد الساعي.
وبالمناسبة، لا يسع عشاق الشعر سوى أن يثمنوا هذا الصنيع الشعري لجمعية أصدقاء رفائيل بمدينة العرائش التي ساهمت في إصدار هذه المدونة الشعرية، ومن ثم، خلق شروط الإنضاج للأسماء الواعدة، والشاعرة فتيحة البو لم تدخل بيت الشعر إلا من باب مرجعياتها وموهبتها وانتمائها لأسرة قارئة، ثم انتماؤها النقابي والجمعوي الذي صقل تجربتها أدواتها وأثرى طاقتها الشعرية.
لعل أول ما يثير انتباه المتلقي هو العنوان المركزي للديوان ” تراتيل الملحاء “، ومن المعلوم أن العنوان لا يشرق على النص كالثريا فحسب، كما يقول جاك دريدا، لكنه اللسان المدبر، فهو من يعلن سر النص ونيته و، برمجة جمالية التلقي.
وعليه، تحيل تراتيله على ما نظم من الكلام وحسن تأليفه، أما الملحاء فتحيل على الشجرة التي سقطت أوراقها وبقت عيدانها مخضرة يانعة، مما يجعلنا أامام منافرة دلالية، ذلك أن المسند ” تراتيل”، لا يناسب المسند إليه” الملحاء”، مادامت شجرة جمادا غير قابلة للترتيل كما هو الشأن بالنسبة للإنسان.
بيد أنه خارج هذه البنية اللغوية المسيجة، وبعد قراءتنا وومصافحتنا للنصوص يمكن الوقوف على المكون التحويلي التالي : هذه أشعار لذات شاعرة عنيدة و موغلة في الحياة، ضدا في محوها وتعريتها من أفراحها وأحلامها. وهذا من شأنه إثارة فضول المتلقي للبحث عن الأسباب المتحكمة في هذه التراتيل وهذه التعرية ل” ملحاء” الشاعرة.
أول ما يثير انتباه القارئ لديوان ” تراتيل الملحاء “، حضور الذات الشاعرة المخاطبة لنفسها وللآخر، تساوقا مع تيمة الرحيل التي تهيمن على أكثرية النصوص، ويدل على ذلك مفردات وعبارات تروج لهذا الرحيل ” أرحل، تراحيل، الغياب، نلوح،رحيل، حقيبة سفر، رحالي،وداع،راحلة، صفير القطار..”
وموضوعة الرحيل هاته، موضوعة أساسية تنبني عليها نصوص الديوان، وتخص رحيل الأب الذي كان من نصيبه الإهداء :” إليك أبي، حبيبا يهفو أبدا إليه الجناح “، كما تخص الرحيل في الذات، ثم الرحيل عن الأمكنة وتوديعها.
وعطفا على ما سبق، بغدو رحيل الأب نارا كاوية، وهو ما يوحي به عنوان القصيدة الخامسة في الديوان ” جمر الفراق ” الدال بامتياز على مسماه :
” تطوف بحزني الشوارع
لا دمع يستوعبني
لا تباريح
أودع قلبي رحيلك جمرا
وذكراك التسكنني ريح”
هكذا تغدو اللحظة الشعرية اللاسعة خالقة لطقوس أوجاعها، لتسكعاتها، لأمكنتها، ولفائض قيمة احتراقها الذي تؤججه الريح، وينجح تماسها مع الجمير في الرفع من من مستوى اشتعالات لوعة الرحيل وتوطينها.
ولأن الفراق كاو وغير قابل للمحو، تستحضر الشاعرة بعضا من لحظات غياب الفقيد عن بهجات الحياة، بقصد إحياء وبعث ظلال الألم والغور في طبقاتها :
” زارنا الفرح
هذا المساء
بحث عن عينيك
ثم انزوى
وحيدا “
هكذا تلعب الشاعرة بمكونات الصورة، ضمن مكيدة شعرية، في أفق أنسنة الفرح بانزوائه وحيدا لغياب الأب، ومن ثم، الانتصار للحزن الفائض عن الحاجة.
نفس حضور الأب في غيابه يتكرر، ويلقي بغيماته على الذات، فاسحا المجال لها للتوغل في لوعتها وأحزانها وتأثيثها بكل ما هو جارح، حيث دنو الأب من الموت وماتتركه بشاعته من شقوق في النفس والكلمات :
” وجهك
والسرير الأبيض في حلقي
نصل بارد يعبرني
والكلمات “
وعلى هذا النحو من تمضي الشاعرة في استحضار الفقيد، لكنها في القصيدة الأخيرة من الديوان ” حين نلتقي ” تستبق لقاء الراحل كي تحكي له ما يحدث من تحول مسخ :
سأخبرك يا أبي
حبن نلتقي
أن المنديل لم يعد حمامة
وأن الفتاة لم تعد تختفي
من الصندوق
فقط رأسي على الصخرة
يقيس صهارة البركان “
يقوم المطع أعلاه على ثنائيتين ضديتين، الأولى يؤطرها الماضي وتشير إلى نفي كل محلول ولعب سحري كما كان، والثانية يؤطرها الحاضر وبشير إلى حرقة الذات، و يدل على ذلك :” البركان “، حيث أفرغت الحياة من معناها وعمقها وطفولتها.
هكذا تمضي الذات في طيات هذا الرحيل وتبتكر تفاؤلها، فتجد في السماء والابتسامة تنفيذا لوصية الفقيد، وكأنها بذلك تستبق الزمن وتجسد شوقها للقياه :
” سأخبرك
حين نلتقي
حول باقة ريحان
أن الزمن عبر بي الجسر حافيا
وأنني ابتسمت للسما
كما أوصيتن “
ويحدث أن تقوم الذات برحلة استطلاعية في ذاتيتها، وكما لو أن الأمر يتعلق بالبحث عن بديل من شأنه التخفيف من فورة رحيل الأب :
” أسدلني علي “
بيد أن هذا الرحيل اليوهم بالمنقذ من لوعة الأب، ريثما يزيح النقاب عن نفس التراحيل الموجعة الكامنة في أعماق الذات الشاعرة.
أمام هذه التراحيل الموغلة في حرقتها، كان من الطبيعي أن تعمد هذه الذات إلى إعلان ارتباطها عاطفيا وإنسانيا بالمكان، والمكان الذي نقصده هنا هو حيز جغرافي له حدود واضحة وسمات جغرافية وعمرانية تميزه:
” أناسل تولد على كف الوداع زنبقة
وعلى كفي أنا أوراق زيتون،
براءة الطفولة
وعلى كفي رحيل
يخط لي وجها
وبيوتات أخرى معلقة “
‘غير أنّ المكان _ أناسل، لاتراه الذات مجرد تضاريس وبيوتا وجغرافيا نهجرها، إنّه شيء أشبه بالكائن الذي تدخله الذات دوائر رحلاتها المتعددة، من أجل اكتشاف قصة الوداع،وبذلك يكون الرحيل عن المكان – أناسل، هو نفسه رحيل الحبيب.
وعموما فإن ديوان ” تراتيل الملحاء ” للشاعرة فتحية البو إضافة نوعية لديوان الشعر المغربي بصيغة المؤنث، وتراحيل بوجوه متعددة، وهذا ما يجعل من هذه الباكورة الشعرية ضاربة في جماليتها وإنسانيتها.