5 طرق ناجحة لتشويه تراثنا السينمائي!

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 أحمد عبد الرحيم

منذ فترة، كتبت على صفحات مجلة “أبيض وأسود” السينمائية المصرية مقالًا بعنوان “من يعبث بتراثنا السينمائي على شاشة التلفزيون؟!” استنكرت فيه ما تعانيه أفلامنا على الشاشات التلفزيونية، المصرية والعربية، ليس من تمزيق رقابي وفق أچندات مختلفة كما كانت المشكلة قديمًا وحسب، وإنما من لعب غريب، غير مفهوم، بترتيب مشاهد الأفلام، وصورتها، بل أسلوب إخراجها!

ورصدت من ضمن ما رصدت، التعرض لتقنية الأفلام القديمة ببرامج كومبيوتر متطورة تضيف zoom out  أو ابتعاد تدريجى فى فيلم مثل (أحب الغلط – 1942) للمخرج حسين فوزى، وإجبار close up، أو إطار مقرَّب، فى لقطة مشهدية طويلة ورائعة من فيلم (بين القصرين – 1964) للمخرج حسن الإمام؛ مما يشوِّه التقنية، ويفسد المتعة، ويحرَّف التاريخ. وأخذت أتساءل فى غضب ومرارة: من يفعل ذلك، وبأى حق يتدخل فى رؤية المخرج، وكيف يُعبَث بتراثنا بهذه الحرية؟!

لكن من الواضح أن ذلك المتلاعب المخبول قرّر الانطلاق فى غيّه أكثر وأكثر. فمن خلال متابعتي للقنوات التلفزيونية مؤخرًا، اكتشفت أن الألعاب زادت، وتنوّعت، ووصلت إلى أفلام لم تمسسها من قبل، وفى ظل مناخ لا رقيب فيه ولا حسيب، تمتَّع ذلك المجرم المجهول بحرّيَّة جعلته يبدع إبداعًا؛ لهذا، جمعت لكم أحدث 5 طرق شاعت فى قنواتنا لتشويه تراثنا السينمائي، وتأكّد عزيزي القارئ؛ هذه الطرق مبتكرة، وناجحة!

1) الإسكوب المزيف!

عند عرض الفيلم المصرى (النائب العام – 1946) للمخرج أحمد كامل مرسى فى قناة “روتانا كلاسيك” ستواجه خطين عريضين، لونهما أسود، أعلى وأسفل الشاشة؛ فى تأكيد أن هذا الفيلم صُوِّر بتقنية CinemaScope أي الشاشة العريضة. الحق أن أول فيلم مصرى صُوِّر بهذه التقنية كان (فى سبيل الحب – 1955) للمخرج عيسى كرامة، وأول فيلم من هذه النوعية، فى تاريخ السينما قاطبة، هو الفيلم الأمريكى (The Robe أو الرداء – 1953) للمخرج هنرى كوستر. فهل سبق (النائب العام) فيلم (فى سبيل الحب)، وهوليوود، مُكتشفًا هذه التقنية قبل ظهورها فى العالم بـ7 سنوات؟! بالقطع لا، وإنما هذان خطان زائفان يوهماك بذلك؛ إذ إنه عند مشاهدتك للفيلم على قناة “الأوربت سينما 2” لن تجد أى خطوط سوداء، بل بمقارنة بسيطة بين نسخة “روتانا كلاسيك” ذات الخطين العجيبين، ونسخة “الأوربت سينما 2” الخالية من الخطوط، ستكتشف أن هذين الخطين يغطيان تفاصيل بأعلى وأسفل صورة الفيلم، تمثِّل جزءًا من رؤيته الفنية، أو تخدم هدفًا فى أحداثه.  فهل أراد شخص ما فى القناة أن يزوِّر فى تاريخ السينما، وينسب إلينا فضلًا لم نقم به؟! أم رأى سيادته أن الفيلم يبدو أكثر أناقة بهما؟! فى الحالتين هذا اعتداء صريح على الهوية التاريخية والفنية للفيلم!

يحدث الأمر نفسه، فى القناة ذاتها، مع أفلام مصرية أخرى لم تُصوَّر بهذه التقنية، لتُفرَض عليها مع سبق الإصرار والترصد، مثل فيلم (قلبي على ولدى – 1953) للمخرج هنرى بركات، وفيلم (عائلة زيزي – 1963) للمخرج فطين عبد الوهاب، وفيلم (أقوى الرجال – 1993) للمخرج أحمد السبعاوي. أغلب الظن أن قناة روتانا كلاسيك تجنِّد نفسها لإيهام الملايين أن كل أفلامنا، الأبيض والأسود، والملونة، كانت مُصوَّرة بالسينما سكوب!

يتكرّر الإسكوب المزيف مع فيلم (غرام الأسياد – 1961) للمخرج رمسيس نجيب فى قناة “الحياة 2″، وإن كان بأسلوب آخر يضغط صورة الفيلم من أعلى وأسفل، ليغصبا خطين أسودين كالسينما سكوب، يشوِّها صورة الفيلم، ويجعلا من أبطاله طويلي القامة، رشيقي القوام، أمثال أحمد مظهر وعمر الشريف، أناسا قصيرين بدناء! تقريبًا، سبب الضغط هو إتاحة مساحة فارغة لشريط الشاشة التحتي، الذى ينوِّه لبرامج القناة، وذلك على نحو رغم عدم تغطيته لأى من تفاصيل الفيلم، فإنه يمسخ صورته وأبطاله. الأغرب أن هذا يحدث عند عرض فيلم (الراقصة والسياسي – 1990) للمخرج سمير سيف فى قناة “كايرو سينما”، لكن بدون عرض أي شريط تحتي أو علوى، أي أنه تشويه خالص من أجل التشويه!

..ستواجه هذه المشكلة عند بث فيلم (الأيدي الناعمة – 1963) للمخرج محمود ذو الفقار فى قناة “القاهرة والناس 2″، لكن مع عرض إضافي يُصرف مجانًا مع الضغط والمسخ، عبارة عن لوحة زرقاء براقة أعلى اليسار تحمل عنوان الفيلم، وشريط سفلى يقدم مواعيد برامج القناة وآخر الأخبار، بلون أحمر لا يقل بريقًا؛ لتنقلب فاتنات الفيلم أمثال صباح، ومريم فخر الدين، وليلى طاهر إلى قطيع من الدببة السمان، ويتحوّل بقية طاقم التمثيل إلى أقزام مربعى الوجوه، وينسحق الإبهار اللونى المميَّز لصورة الفيلم بين شقىّ رحى أزرق × أحمر يعمى عينيك!

2) الزووم الإجرامي!

عند عرض قناة “القاهرة والناس 2” لفيلم (شارع الحب – 1958) للمخرج عز الدين ذو الفقار، المفروض أن ينتهى مشهد حوارى بين عبد السلام النابلسي وصباح بإهدائها كارته الخاص، الذى يحمل تليفون البقال المجاور له. وبالفعل، فى نسخة “القاهرة والناس 2″ ينتهى المشهد هكذا، لكن ليس قبل إضافة zoom in أو اقتراب تدريجى، سريع وقبيح، على وجه النابلسى! التفسيرات المحتملة لهذا اللغز: إما أن هناك شخصا فى القناة يرى أنه أكثر موهبة من المخرج عز الدين ذو الفقار، ويبيح لنفسه التعديل عليه، وإما أن القناة تحاول – مشكورة– اختراع شيء جديد، وإن كان الاختراع هنا لـ”جريمة” جديدة!

3) تعديل نهاية!

وإذا ما كنا قد تعوَّدنا على حذوفات رقابية متنوّعة الأسباب، فإننا لم نقابل سابقًا حذف غامض يُعدِّل نهاية فيلم. فعند عرض فيلم (الحياة حلوة – 1966) للمخرج حلمي حليم فى قناة “القاهرة والناس” تُختَصر الدقيقتان الأخيرتان بفجاجة؛ لتُحذّف جملة لشفيق نور الدين فى مشهد، ثم تهبط كلمة نهاية مفاجئة على لقطة ثُبِّتت من بداية المشهد التالي، تجمع بين حسن يوسف ونادية لطفى، وهى اللقطة السابقة للنهاية الحقيقية / بقية المشهد التى تحوى حوارًا ضاحكًا بين الضيف أحمد ويوسف فخر الدين وعبد المنعم إبراهيم، وموسيقى للختام من تأليف فؤاد الظاهرى، حُذِفا كاملين لأسباب غير معلومة!

4) أعوذ بالله من الشريط الرجيم!

وعن التلفزيون المصرى الحكومي فحدِّث ولا حرج. إن لديه قناة متخصصة فى عرض الأفلام السينمائية اسمها “نايل سينما” (والمقصود سينما النيل، لكنك لن تدرى لماذا تفرنج الاسم، والقناة غير ناطقة باللغة الإنجليزية، أو مُترجَمة إليها!). هذه القناة رغم إنتاجها لبرامج على درجة عالية من الجودة، فإنها تبارك كل فيلم بتغطية أسفل صورته عبر شريط دائم الحركة، يعيد ويزيد كل 10 ثوان جميع مواعيد عرض أفلام القناة، بخط ميكروسكوبى لا يُقرَأ، ولون أحمر ثقيل يمثِّل – خاصة مع أفلام الأبيض والأسود – مفارقة شديدة القبح. أيها العقلاء، إن أمر الشريط التحتى المتحرك ابتكرته – أساسًا – القنوات الإخبارية الأوروبية والأمريكية لعرض أحدث الأنباء، وأسعار العملات المتغيّرة، ولم يُبتكَر من أجل قنوات عرض الأفلام أو يناسبها، أو توجد قناة أفلام أجنبية واحدة محترمة تستعمله، ثم إن الـ “نايل سينما” يمكنها أن ترحم صورة الأفلام، وترحمنا، وتستبدل هذا الشريط المزعج بلوحة مستقلة أنيقة تحوى هذه المواعيد، ومكتوبة بخط مرئي يمكن قراءته، لتُوضع فى الفواصل الإعلانية، دون أن يعترض نصها المكتوب النص السينمائى المعروض على امتداد 24 ساعة فى اليوم، كل يوم. لكنك لو عرفت أن هذه اللوحات موجودة ومعمول بها، بل إن القناة تقطع أفلامها حوالى 4 مرات فى الساعة كى تذيع إعلانات مطوّلة عن موادها الأخرى، إلى جانب اللوحات والشريط—فهذا يؤكد أن ثمة أحدًا مصابًا بمرض الوسواس القهرى، وهوس التكرار، وهذا الأحد ليس أنت أو أنا!

يُضاف لذلك الشريط ساعة ذات أرقام إنجليزية، موضوعة بأقصى يسار الشاشة، فى خدمة لم يطلبها أحد، ولا يستفيد منها أحد، لحجمها الميكروسكوبى أيضًا، ولإلقائها فى ركن لا يُظهِرها كاملة، فضلًا عن إعطائها لتوقيت القاهرة فقط. ناهيك عن اهتراء نسخ الأفلام التى يعرضها التلفزيون الحكومي، وضآلة عددها حتى وصلت إلى حفنة يسيرة يستطيع أي متابع أن يحصرها لك بسهولة على أصابع يديه، وطبعًا مع تكرارها أسبوعيًا يبدو الأمر كابوسيًا، وكأننا نعيش نسخة واقعية مرعبة من الفيلم الأمريكي (Groundhog Day أو يوم الجراوندهوج – 1993)!

ما يستفزك إلى حد أكبر أن ما يحدث فى قناة “نايل سينما” يحدث ثانية، بحذافيره، عند عرض أفلام فى قناة “نايل كوميدى” (الترجمة بالعربية: كوميديا النيل!) لكن باختلاف واحد أن لون الشريط بمبى لامع، ثم يحدث، ثالثًا، عند عرض أفلام فى قناة “النيل للعائلة”، لكن بمعلومية أن الشريط هذه المرة لونه فيروزى فاقع، وأن نصه يحوى إلى جانب مواعيد برامج القناة معلومات عامة كفوائد الخس، والكمون، وأهمية اليانسون فى إراحة الأعصاب.. لاسيما المتهيّجة!  

لا تنجو القنوات الخاصة من آفة الشريط التحتى، لكن تتفرّد قناة “الحياة” وسط بقية القنوات حينما تستخدمه على نحو ممرض فعلًا. فعند عرض القناة لأى فيلم، تضع شريطًا أبيض عريضًا، لا يحوى إلا جملة واحدة تقول أنه “عقب عرض هذا الفيلم الفلانى، تلتقون والبرنامج العلانى..” تتحرك متتالية، مرارًا وتكرارًا، طوااااااال الوقت، وبدون أى رحمة. يستغرق مرور هذه الجملة على الشاشة 6 ثوان، أى 10 مرات فى الدقيقة الواحدة؛ مما يعنى أنه عند إذاعة فيلم مثل (فجر الإسلام – 1971) للمخرج صلاح أبو سيف، تبلغ مدته 136 دقيقة، ستبلغك القناة باسم الفيلم وما سيُعرَض بعده 1360 مرة، وذلك فى تجسيد عملى لمقولة المؤلف الأمريكى ستيڤن كينج: “التكرار هو الجحيم”! 

5) إخراس فيلم!

إليكم هذا الحادث، فى صباح 2 مارس 2016، جلست – ويا ليتنى ما فعلت – أمام قناة “النايل سينما” كي أشاهد الفيلم التلفزيوني (خريف آدم – 2002) للمخرج محمد كامل القليوبي، ففاجأني أن الفيلم بلا صوت لمدة 45 دقيقة. لا.. إنه ليس فيلمًا تجريبيًا يعرض تترات بدايته، وأحداثه، بدون موسيقى أو حوار أو حتى مؤثرات صوتية، وإنما القناة الرائعة عرضته على هذا النحو. ثم فجأة، أفرجت عن شريطه الصوتي لنتابع النصف الثانى بحواره، وموسيقاه، ومؤثراته. ما يقتلك بحق أن أحدًا لم يسرع فى الإنتباه للموقف طيلة ساعة إلا ربع، أو يوقف عرض العمل احترامًا له، أو يعتذر لنا بأي وسيلة بعد الإصلاح، أو يعتذر للفيلم بإعادة عرضه من البداية، وذلك بعد أن حوّلوا نصفه الأول إلى عمل “أخرس”، ثم طالبوك – ببرود – أن تتابع نصفه الثاني “المتكلم” وكأن شيئًا لم يكن!

هل هناك أمل؟

فى المقال الأول، كنت قد رصدت كيف تذيع قنوات التلفزيون المصرى القومي كلًا من الفيلم السينمائي (عريس مراتي– 1959) للمخرج عباس كامل، والفيلم التلفزيوني (أيوب– 1984) للمخرج هانى لاشين، غير مرتبين الفصول، لمرات ومرات، دون انتباه أو تصحيح. ما حدث بعدها أن بقى الحال على ما هو عليه بالنسبة للفيلم الأول، بينما عُرضَت، ولله الحمد، نسخة مضبوطة ومُرتَّبة من الفيلم الثاني، أي هناك أمل، صحيح ضعيف، ووسط محيط من الفوضى المُحبِطة، لكن هناك أمل.

..يبقى الأمل الأكبر فى منع هذه الظواهر الشاذة، وإيقاف ذلك المجرم المجهول، قبل أن يبتكر مزيدًا من طرق التشويه، فما يحدث ليس مجرد سوء عرض لعمل فنى، وإنما تخريب للفن، وتزييف للتاريخ، وعبث ما بعده عبث!  

…………………..

*نُشرت فى موقع عرب لايت ـ 11 أكتوبر 2018.

 

 

مقالات من نفس القسم