يومٌ من تلك الأيـام .. قصة لـ ماركيز

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام
جابرييل جارسيا ماركيز ترجمة: ضي رحمي. أشرق نهار الاثنين دافئًا دون مطر. فتح طبيب الأسنان أوريليو سكوبار المعروف عنه الاستيقاظ مبكرًا، والذي يزوال المهنة بلا شهادة جامعية، أبواب عيادته في تمام السادسة صباحًا. وسرعان ما انهمك في إخراج بعض الأسنان الصناعية، التي لا تزال في قوالب التشكيل، من صندوق زجاجي ووضعهم على منضدة مجهزة بمجموعة من الأدوات رتبهم وفقًا للحجم، كما لو كان يعدهم للعرض. كان أوريليو يرتدي قميصًا مخططًا بدون ياقة، مغلقًا عند الرقبة بزرٍ ذهبي، وسروالاً أحكمه على جسده بحمالات. كان طويلاً ونحيفًا، ذو مظهر قلما انسجم مع الموقف، مظهر أشبه بمن يعانون من الصمم. بعدما جهّز كل شيء على المنضدة، سحب المثقاب اليدويّ باتجاه الكرسيّ الخاص بمعالجة الأسنان، وجلس ليشذب الأسنان الصناعية. كان يبدو شاردًا، لكنه كان يعمل بوتيرة ثابتة، يواصل الضغط على دواسة المثقاب بقدميه، حتى ولم تكن هناك حاجة لذلك. بحلول الثامنة، توقف لبرهة، وألقى نظرة على السماء عبر النافذة، رأى اثنين من طيور الحدأة يجففان ريشهما تحت أشعة الشمس على سقيفة المنزل المجاور. عاود العمل وهو متيقن من أنها ستمطر ثانية قبل حلول موعد الغداء. وبينما هو منهمك، شتت تركيزه صياح ابنه ذو الأحد عشر عامًا: "بابا" "نعم"                                                 "يريد العمدة أن يعرف إذا كنت ستخلع سنه؟"  "اخبره أنني لست هنا" كان يشذب سنًا ذهبيًا، أمسكه على بعد ذراعه، وتفحصه بعين نصف مفتوحة. لكن، تعالى صياح ابنه مجددًا من غرفة الانتظار الصغيرة: "يقول أنك هنا، لأنه يسمعك." استمر أوريليو في صقل السن، وفقط عندما انتهى من العمل بها ووضعها على الطاولة، قال: "ذلك أفضل كثيرًا" أعاد تشغيل المثقاب مرة أخرى. أخرج عدة قطع من الأسنان الصناعية من صندوق مصنوع من الورق المقوى، اعتاد أن يحتفظ فيه بالأسنان التي لايزال يتعين عليه العمل بها، وبدأ في تهذيب واحدة ذهبية الصنع. "بابا"  "نعم"، أجابه مستخدمًا نفس التعبير. "يقول العمدة: إذا لم تخلع له السن الآن، سيقتلك". بلا تعجل، وبحركة هادئة للغاية، توقف أوريليو عن ضخ المثقاب، ودفعه بعيدًا عن الكرسيّ، جاذبًا الدرج السفلي للمنضدة بالكامل للخارج. حيث كان هناك مسدسًا. وقال: "حسنًا، دعه يأتي ليقتلني". دفع بالكرسيّ في مواجهة باب الغرفة، بينما ظلت يده مستقرة على حافة الدرج. ظهر العمدة عند الباب، حالقًا جانب وجهه الأيسر، بينما الجانب الآخر المتورم المتألم، تنبت منه لحية عمرها  أيام. رأى أوريليو الكثير من ليالي الألم في عينيّ العمدة الباهتتين. "تفضل بالجلوس". "صباح الخير" قالها العمدة. "صباح الخير" رد أوريليو وأثناء تعقيمه للأدوات، أسند العمدة رأسه على مسند الكرسيّ شاعرًا بتحسن، رغم برودة أنفاسه. كانت عيادة فقيرة: الكرسيُّ الخشبي القديم، المثقاب ذي الدواسة، الصندوق الزجاجي، والقوارير المصنوعة من الخزف. وفي مقابل الكرسي كانت هناك نافذة تغطيها ستارة على ارتفاع الكتف. وعندما شعر باقتراب الطبيب، ثبّت العمدة عقبيه وفتح فمه. أدار أوريليو سكوبار رأس العمدة في اتجاة الضوء. وبعد الكشف على السن المصابة، أغلق فك العمدة بضغطة حذرة من أصابعه. "لابد أن يخلع دون تخدير" قال أوريليو. "لماذا؟" "لأنك تعاني من خُراج." نظر العمدة في عينيه، وقال: "حسنًا"، محاولاً أن يبتسم، إلا أنّ الطبيب لم يرد الإبتسامة. أحضر أوريليو حوض الأدوات المعقمة ووضعه على طاولة العمل، وباستخدام زوج من الملاقيط الباردة، أخرج الأدوات من المياه الساخنة، كان لا يزال يعمل بتأنٍ دون عجالة، ثم دفع المبصقة بطرف حذائه، وذهب ليغسل يده في حوض الغسيل. فعل كل هذا دون أن ينظر للعمدة، بينما كان العمدة يتابعه ولم يحول عينيه عنه إطلاقًا. كان ضرس العقل السفلي هو السن المتضرر. باعد طبيب الأسنان قدميه وأمسك السن بالكلّاب الساخن. تشبث العمدة بذراعي الكرسي، وثبت قدميه بكل قوته، شاعرًا بفجوة باردة في كليتيه، لكنه لم يصدر أي صوت. حرك الطبيب رسغه فقط، وقال دون ضغينة، بل بالأحرى برقة ساخرة:    "الآن ستضحي من أجل بقية الأسنان" شعر العمدة بانسحاق العظام في فكه، وامتلأت عيناه بالدموع، لكنه حبس أنفاسه حتى شعر بخروج السن، ورآه من خلال دموعه. والغريب في الأمر أنه، رغم ألمه، لم يستوعب العذاب الذي تعرض له طيلة الليالي الخمس الماضية. انحنى العمدة على المبصقة، لاهثًا، غارقًا في العرق، ثم فك أزرار سترته، ليأتي بالمنديل من جيب بنطاله. قدّم له الطبيب قطعة قماش نظيفة. قائلًا: "جفف دموعك." جفف العمدة دموعه وهو يرتجف. وبينما كان طبيب الأسنان يغسل يده، تطلع إلى السقف المتهاوي ورأى شبكة عنكبوت مغبرة تحتوي على بيض وحشرات ميتة. عاد الطبيب وهو يجفف يداه، قائلًا: "اذهب للفراش"، "وتغرغر بماءٍ وملح". وقف العمدة وقال، وداعًا مؤديًا التحية العسكرية المعتادة، ومشى نحو الباب، مادًا ساقيه، دون أن يزرر سترته. قال العمدة: "أإرسل الفاتورة." رد أوريليو: "لك، أم لمقر البلدية؟" لم ينظر العمدة نحوه، وأغلق الباب ثم قال عبر شراعته الزجاجية: "وهل هناك فرق؟"

مقالات من نفس القسم