يصطاد الحكايات بالحكايات

محمد الفخراني
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد الفخراني

كان “المتشرّد صائد الحكايات” على وشك اصطياد ثلاث حكايات شابات دفعة واحدة، جاءت كلٌّ منهن من مكانٍ بعيد، وتقابَلْن مصادفة في غابة ربما تكون الخامسة أو السادسة لظهور الغابات بالعالم.

 ينتظر “المتشرّد” الحكايات الثلاث لحظة خروجهن من الغابة، ويَعْرفنه بمجرد رؤيتهن له، رغم أنَّ أيًّا منهن لم تره قبل الآن، فقط سمعْنَ عنه من صديقات أو حكايات أكبر عمرًا.

ارتعدَت كل واحدة من الحكايات الثلاث تلك الرعدة الثلجية الخاطفة التي يحبها جسدها، وأمسكَتْ بيد إحدى زميلتيها، ومَشَيْنَ متلاصقات، حريصات ألّا يقتربن من “المتشرد” أو يبتعدن عنه، فقط يترقَّبْن ما سيفعله، فيتَبْعهن “المتشرّد” ويبدأ لعبة الصيد بأن يحكي لهن حكاياته العجيبة.

 “إذن ما سمعْتُه حقيقي، المتشرّد يصطاد الحكايات بالحكايات”، تتكلم كل حكاية مع نفسها، وتشعر بالخوف والإثارة معًا، وباتفاقٍ ضِمْني يُقرِّرن أن يستمتعن باللعب معه، فيُسرعن خطواتهن، ويُسرِع “المتشرد” خطواته بالدرجة نفسها، ويواصل حكاياته التي يتعمّد مع كل صيدٍ جديد ألّا يبدأها، أو يبدأها، بأجمل ما لديه حتى تستمر اللعبة لوقت أطول، وعندما يفكر أن ينهيها يبدأ في الحكاية التي يَتَوقَّع ألّا تنجو منها طريدته.

 والآن لديه ثلاث طريدات جميلات، يأخذنه لأماكن مخيفة وغريبة للحصول على المزيد من الإثارة، فهُنَّ يعرفن أنَّ مثل تلك الأماكن تغريه للصيد والحكي، ورغم إعجابهن بحكاياته، كانت الشابات الثلاث قادرات على مقاومتها، حتى وإن بصعوبة، وكان “المتشرّد” كلما أحَسّ بجوع أو عطش فتح إحدى حكاياته الموجود بها خبز وماء ليأكل ويشرب دون أن يتوقف عن المشي والحكي، استمرَّ هذا لثلاثة أيام، وفي منتصف اليوم الرابع فكَّرّ أن ينهي اللعبة ويحصل على صيده، فبدأ يحكي لهُنَّ آخر حكاية اصطادها، وتوقَّع ألّا ينجون منها، فكانت حكاية “الغابة”.

 بدأت الحكايات الشابات يُبطئن خطواتهن دون أن يشعرن، وكلما انتبَهَت واحدة لكَزَت زميلتيها لتُسرِعا، ولبعض الوقت حاولن أن يقاومن حكايته، حتى وصل “المتشرد” إلى الجزء الذي طارت فيه الشابة غريبة الأطوار بالهدايا لشاطىء المحيط، فتسارَعَت قلوبهن وتوقفْن عن المشي، ليتوقف “المتشرّد” عن الحكي وينتظر حتى يلتفتن إليه، وعندما رأى في عيونهن تلك اللهفة التي يعرفها، ابتعدَ عنهن وهو يكمل حكايته، تَبِعَتْه الطريدات الثلاث، وأسرعن عندما أسرع خطواته، وبعد أن مشى بهِنَّ مسافة يعرفها، بدأن يتحركن حوله في دوائر وتقاطعات مرتبكة، ويلمسن أصابعه وأطراف ملابسه كمجذوبات، فيلمح نظرة الضياع المحبوبة في عيونهن، ويشعر بشيءٍ أكثر غموضًا وعمقًا من النشوة، وعندما وصل “المتشرّد” إلى الثلث الأخير من الحكاية، دخل بهن ذلك الشارع الضائع الذي توقَّع أنَّ أيًّا منهن لم تدخله من قبل، وعند نقطة هناك، توقَّفْن حوله في دائرة مغلقة، وبدأت كل حكاية تمدُّ شعرها إليه وتلفُّه حول جسده لتُثَبِّته بمكانه، ويبدو أنَّ تلك هي اللحظة التى ينتظرها “المتشرّد” ليؤدي الحركة الأخيرة في اللعبة، لكن قبل أن يؤديها، وقبل أن ينهي حكاية “الغابة” بأربع أو خمس جُمَل، ظهرت يَدُ الليل مثل قَدَرٍ له ظِلٌّ عظيم قَبَضَ على كتفه، وانتزعه من بين شعرهن، وفي الوقت الذي لم تعرف الطريدات الثلاث الحركة الأخيرة في اللعبة، لم يفهم “المتشرّد” ما يحدث له إلّا بعد أن رأى نفسه والليل يضعه خلف صبي يمشي باتجاه غابة، ويطلب منه أن يحكي له حكاية تؤنسه في طريقه.

“يمشي المتشرّد” خلف الصبي، ويخبره أنَّ معه حكاية جديدة اصطادها من مكان مليء بالرعب والمتعة معًا، وسيفعل لأجله شيئًا يفعله للمرة الأولى، هو أن يحكي حكاية قبل أن يكون قد اصطاد بها حكاية أخرى، “حكاية الغابة: كانت الغابة امرأة فقيرة تعيش مع ابنتها الشابة في كوخ بركن بعيد من العالم، وعندما اقترب موعد زفاف الابنة لم يكن لدى الأم أي شيءٍ تعطيه لها، فخرجت للعالم تطلب منه هدايا للعروس الشابة، تَعاطَفَ معها العالم، وأعطاها من كل شيء لديه: بحر، ونهر، وسماء، وحيوانات، وأشجار، وطيور، وأفاع، وألوان، وأحلام، ومشاعر، وأفكار، وأخذت الأم من كل شيء لأنها لم تكن تعرف ما يمكن أن يُسعد ابنتها غريبة الأطوار، لكنها استغرقت سنوات لتجمع كل هذه الهدايا، وعندما عادت كان حبيب ابنتها قد هجرها، وأرادت الشابة التي مشاعرها لا تُشْبِه أيَّ مشاعر أن تَرُدَّ هدايا العالم له، لكن الهدايا رفضت أن تتركها، فانتفضت أشجار وملأت الأرض بثمارها، وأشجار أخرى نَمَت عاليًا بشكل مفاجئ، وأطلقت الحيوانات أصواتها في كل اتجاه، وهطل المطر، وأشعلت الحرائق نفسها، وامتزجت الألوان والأحلام والمشاعر والأفكار ببعضها بعضًا، كل شيء فَعَلَ كل شيء لأجل الشابة، والتفُّوا حولها يرقصون ويُغَنُّون طوال النهار، وفي آخر الليل بعد أن نام الجميع، أعطت الأم لابنتها هديتها الأخيرة عصا سحرية، كانت قد أخذتها من عرّافة غجرية لتسحر الهدايا وتتحكم بها، فنزعت من الحيوانات غريزتَيْ القتل والهرب حتى لا تؤذي بعضها بعضًا أو تفقدها قبل أن تعود بها لابنتها، أشارت الابنة تجاه الجميع بعصاها السحرية وطارت بهم أثناء نومهم لشاطىء محيطٍ متهور، وطلَبَت منه أن يُطلِق عليهم رائحته العميقة، وأشارت تجاههم بعصاها، فاستيقظوا وقد نسوا أنها الشابة التس هجرها حبيبها، وأنهم هدايا العالم لها، كما مَنَحَتْهم حريتهم، فاستعاد كلٌّ منهم طبيعته وشخصيته الحقيقية، وكان شاطىء هذا المحيط أول مكان تتجمع فيه كل هذه المخلوقات، وظَلَّ بلا اسم لعدَّة سنوات حتى مرَّت به عرافة غجرية تخترع العصىّ السحرية، فأسمته “غابة”، كما أطلقت على الشابة اسم “ساحرة الغابة”، وأشارت تجاهها بعصاها الخاصة فلم تظهر عليها آثار التقدُّم في العمر رغم السنوات التي عاشتها أو ما زالت تعيشها، لا أحد يعرف، وصارت الشابة أول “ساحرة الغابة” في العالم، وحرصَت ألّا يعيش أيَّ ساحر في غابتها أو الغابات التي ستظهر بعد ذلك، لذا لا يسكن الغابات ساحر، إنما ساحرة، طيِّبة أو شريرة لا يُهِمّ، وكلهن بنات وحفيدات لهذه الشابة، التي فيما يقال أحبت وتزوجت البحر، والفرح، والنهر، والشجن، والمحيط، والظلام، والجنون، والنور، والذئب، والغناء، والندى، والدخان، والرقص، والسحر، والكثير من المخلوقات العجيبة.

يُنهي “المتشرّد” حكايته عند الغابة، حيث يتوقف الصبي ويخبره أنَّ حكاية أخرى للغابة مرَّت به منذ ليلتين، ويُخرِج من جيبه نجمة شهيرة ويعطيها له، ويخبره عن المكان الذي رأى فيه الحكاية الأخرى، ثم يدخل الغابة.

 “المتشرّد صائد الحكايات” يُدحرج النجمة الشهيرة أمامه، ويفكر بأنَّ الحكاية الأخرى للغابة لا بد سترتبك عندما تسمع الحكاية التي معه عن “الغابة”، وحكاية أخرى عن ثلاث حكايات كان على وشك اصطيادهن بحكاية عن الغابة.

مقالات من نفس القسم

ali reda zada
تراب الحكايات
موقع الكتابة

قصة صورة