بولص آدم
وجهه يطفو على شاشة مهشّمة، تتفتت “بكسلاتها” كغبار نجوم انطفأت قبل أن يراها أحد، تتطاير كرماد يذوب في هواء مشبّع بالصمت، في أزقة تتكئ ظلالها على جدران أطول من أجساد أصحابها، وتتمدد لتتشابك كشبكة عنكبوت تتأرجح بين الزمان والمكان، وكل شق في الزجاج يفتح فمًا يهمس بتاريخ لم يُكتب بعد، زمن يولد فيه ويشيّع جنازته في اللحظة ذاتها، حيث يتداخل الماضي مع الحاضر في رقصة لا تهدأ.
تُفتَح كاميرا داخلية على مشهده وهو يستلم ثلاث جوائز نوبل محلية، كل واحدة منها عن جزء من ثلاثية روائية ملحمية، كل جزء منها سحلٌ للعهد الذي سبقه، تعلو المسرح أضواء تتراقص كوميض الصراعات التي تُخفيها الكلمات بين السطور، والجوائز تتلألأ وكأنها قلب ينبض تحت قناع زجاجي، تُسقط ظلالها على وجوه الحاضرين فتتحول إلى فراشات من دخان تتراقص في الهواء قبل أن تتلاشى.
ينتقل المشهد فجأة إلى مشاهد سينمائية لأفلام “أكشن”، حيث تندلع نيران تأكل سيارات العهد السابق، تتحول إلى مخلوقات حية من لهب تتلوى وتصرخ، تتلفح بها بقايا المدن القديمة كجسد ينزف، وتنساب ألسنة اللهب كأنه دم سائل يكتب نذير نهاية، بينما هو مظلي في الأول، شاعراً شعبياً في الثاني، وبدوياً يوزع منشورات سرية في الصحاري في الثالث، تتبع الكاميرا خطواته كما لو كانت تنساب داخل حلم ينهار تدريجياً بين أطياف الأشباح والرماد.
تتلاشى الصورة في موجات دخان تصعد كأشباح تحرس أسرارًا دفينة، وصراخ جماهير الصفقة يختلط بأزيز صمت مميت، ويتحول الحبر المخلوط بملح المقالات إلى قوارير وهمية، تملأ خزانات وقود لصاروخ لا هدف له سوى الاقتراب من كوكب مظلم مسكون بالأصداف التي تهمس بأحلام ضائعة، بينما من طرفي المرآة ينحني نحو جهتين في اللحظة نفسها، كأن الزمن يتشقق إلى توأمين، ويتلقى تصفيقاً مزدوجاً من جمهور يرى نفسه في وجوهه المتعددة، كمرآة تتحطم إلى آلاف العيون التي تراقبه بصمت قاسي.
تتساقط أعمار الركاب في قطار يسير إلى الوراء، نوافذه معلقة على حبال الغسيل بين بنايات مائلة تتنفس أنفاس المدينة العتيقة، يصفقون لفقرة بهلوانية وهم يتساقطون كعملات معدنية تتدحرج بين عوارض السكة وتختفي في حفرة لا قاع لها، مشهد يحلق فوقه الطائر المظلي، شاعراً محبوباً في مدن مبعثرة، وبدوياً يخفي منشوراته بين رمال الصحارى، بينما قصائده تدخل موسوعة الشعر الثوري الشاقولي، حيث يُصَفَّقُ للشاعر من مسافة آمنة وسط دوامات اللهب والغبار، وابتسامة ساخرة ترتسم على شفتيه حين يسمع التصفيق من بعيد، كصدى يختفي في غرفة مهجورة من ذاكرة المدينة.
تتحول الكاميرا إلى نهار صاخب، حيث يبيع الرأي والرأي الآخر كما يبيع راهب ماء الوهم والزيت المقدس في قارورة واحدة، يوزع الهواء كطوابع بريدية تُلصق على صدور الداخلين إلى الحلم، مشهد سريع التحولات يعكس ازدواجية واقعه، عواصم تتحرك حوله كحانات جوالة تصب له انتصارات تتبخر قبل أن تلمس لسانه، يقفز بين مؤامرتين كما ينتقل النائم من حلم إلى آخر، يشرب من قنينة هنا ويملأ الأخرى هناك، يحبس أنفاسه بين دفتي الحياة وموتها، فيما تظهر سحب داكنة تخرج من جدران المدينة، ترقص كأرواح ضائعة تحاول الهروب من قبضتها.
تتوسع الشقوق في وجهه ليلاً حتى تصير أنهارًا من زجاج سائل، تنساب وتنساب كدموع لا تتوقف، تتوه ملامحه بين إعلانات نيون مكسورة تومض بضوء كوابيس، وقطارات متأخرة تحمل أسماء مدن لم تُبنَ بعد، تختلط بوجوه خرجت من طفولته، وجوه تعرفه أكثر مما يعرف نفسه، تنتظره في محطات محذوفة من الخرائط، فتلتقط العدسة بُعده المزدوج كأنه ظل يتقلب في زنزانة لا مكان لها على خارطة الحياة، والليل يبتلع الألوان حتى تصير المشاهد أشباحًا مرسومة على جدران من نسيان.
تصل الكاميرا إلى اللحظة التي يقف فيها وحيداً أمام شاشة الهوية، يقطع العناوين كخياط قديم يقص القماش على مقاس زبونه، يراقب الكلمات لتليق على وجوهٍ مهشمة، كل قصة تُعاد خياطتها بعناية، تتبدد هويته مع كل قصٍ، ولكن في قلب الليل هذا الخياط يبني من القِصاص فسيفساء من الهويات المتبدلة، يحفظ الفجوات بين اللحظات ويعيد تنسيق الزمان في قطعة فنية لا تُقرأ إلا بالعين القادرة على الرؤية من الداخل، والقصاص يتحول إلى أسراب من الفراشات الورقية التي تطير في فضاء متداخل الأزمان.
يختفي، يختفي، يختفي، مسودة تكتب نفسها بالحذف، يركض إلى الأمام بخطوات تُسقطه في الماضي، يختفي كلما ظهر ضوء، ويتسكع بين أوراق سيرته كما يتسكع لصّ في بيت بلا أبواب، وحين ينسى الليل نفسه وتذوب آخر ومضة في الزجاج المكسور، لا يبقى منه إلا ظلّ يلوّح بيده في فيلم لم يبدأ بعد، ظلّ يهمس بزمن لا يملك بداية أو نهاية، والشاشة تخفت ببطء حتى تصير الظلال غابة من العتمة، ومن عمقها يطل وجهه، ليس ذكرى، وليس حلماً، بل خطأً مطبعيًا في زمن لا يعرف طريقه إلى التصحيح.