غفران الرحموني
بِقَاعُ دَمٍ تَكَاد تَكْسُو اَلْأَرْضِيَّةُ… جَمِيعُ اَلْأَشْيَاءِ مُبَعْثَرَةً وَفِي فَوْضَى… جَسَدٌ آدَمِيٌّ مُلْقى عَلَى اَلْأَرْضِ يُصْدِرُ شَخِيرًا يُشْبِهُ اَلصَّوْتُ اَلَّذِي يُطْلِقُهُ اَلْإِنْسَانَ لَحْظَةَ اِنْفِصَالِ رُوحِهِ عَنْ جَسَدِهِ. وَالْأَبْشَعَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ اَلْجَسَدَ هُوَ جَسَدُ أُمِّي. أَسْتَرِقُ اَلنَّظَرَاتُ مِنْ دُمُوعِي اَلَّتِي كَادَتْ تَحَجُبُ عَنِّي رُؤْيَةُ تِلْكَ اَلصُّورَةَ اَلْمَأْسَاوِيَّةَ، وَيَا لَيْتَهَا مَنَعَتْنِي أَوْ أَخَذَ اَللَّه بَصَرِي حِينَهَا. نَعَمْ! مَشْهَدٌ جَعَلَنِي أَحْسَدُ اَلْعِمْيَانَ وَأَنَا طِفْلَةُ تِسْعِ سَنَوَاتٍ. ضَمَمْتُ رِجْلِيّ إِلَى صَدْرِي وَوَضَعْتُ رَأْسِي عَلَى رُكْبَتِيّ وَانْفَجَرَتُ فِي نَوْبَةِ بُكَاءٍ حَادَّةٍ. يَنْقَطِعَ صَوْتِيٌّ لِلَحَظَاتٍ ثُمَّ أَعُودُ بِشَهَقَاتٍ عَالِيَةٍ. ثُمَّ أَنْهَضُ وَارْكُضْ بِخُطُوَاتٍ مُتَثَاقِلَةٍ نَحْوَ أُمِّي عَلَّنِي أُنْقِذُ نَجَاتِي إِذَا مَا لَمَسَتُ وَجْهَهَا اَلَّذِي اِتَّخَذَ لَوْنُ اَلْكَدَمَاتِ وَالضَّرْبِ اَلَّذِي تَلَقَّتْهُ مِنْ وَالِدِي، إنَّهُ شَيْطَانٌ بِهَيْئَةِ إِنْسَانٍ. لَقَدْ كَانَ مُنْغَمِسًا فِي إِخْفَاءِ آثَارِ جَرِيمَتِهِ. لَمِسْتُ وَجْنَتَاهَا بَاكِيَةً رَاجِيَةً مِنْهَا وَمِنْ اَللَّهِ أَنْ تَنْهَضَ بِخَيْرٍ فَتُجِيبنِي بِأَنَّاتٍ وَصَوْتٍ خَافِتٍ لَمْ أَفْهَمْهُ وَكَأَنَّهَا تُطَمْئنُنِي بِأَنَّهَا لَا زَالَتْ تُشَارِكُنِي اَلْحَيَاةُ. طُفُولَةٌ وَحْشِيَّةٌ مَرَّتْ ثَقِيلَةً عَلَى قَلْبِي لَا زَالَتْ وَحْشِيَّتُهَا تُكَبِّلُنِي مِنْ بُلُوغِ اَلْحُرِّيَّةِ وَالسَّلَامِ. مَا زَالَ ذَلِكَ اَلْخِنْجَرَ يَخْتَرِقُ قَلْبِيٌّ وَيُمَزِّقُهُ مَعَ كُلِّ نَفْسٍ. مَضَتْ اَلسِّنينَ وَالْأَيَّامُ إِلَى أَن حَلَّ وَقْتَ دُخُولِ اَلْمَدْرَسَةِ اَلْإِعْدَادِيَّةِ وَلَمْ تَكُنْ تِلْكَ اَلْفَتْرَةِ أَقَلَّ قَسْوَةٍ مِنْ اَلَّتِي سَبِقَتْهَا. يَبْدُو أَنَّ قَدَرِي أَنْ يُرَافِقَنِي اَلْحُزْنُ إِلَى أَنْ يُسَلِّمَنِيَ لِلْمَوْتِ. وَاجَهَتُ صُعُوبَاتٍ فِي اَلتَّأَقْلُمِ مَعَ اَلْمُحِيطِ اَلْجَدِيدِ بَعْدَ اِنْتِقَالِنَا مِنْ اَلْبَيْتِ. تَعَرَّضَتُ لِلرَّفْضِ وَالسُّخْرِيَةِ مِنْ تَلَامِيذِ اَلْمَدْرَسَةِ حَتَّى أَنَّهُمْ رَفَضُوا مُجَالَسَتِي مَرَّةً، وَأُخْرَى قَبِلُوا تَنْفِيذًا لِأَمْرِ اَلْأُسْتَاذِ مُعَبِّرِينَ عَن ذَلِكَ بِحَرَكَاتٍ أَوْ تَمْتَمَاتٍ يَنْبَعِثُ مِنْهَا شُعُورٍ بِالِاشْمِئْزَازِ وَكَأَنَّهُمْ جَاوَرُوا قُمَامَةٌ أَوْ جُثَّةٍ مُتَعَفِّنَةٍ وَرُبَّمَا كَذَلِكَ فَأَنَا مُجَرَّدُ جَسَدٍ مُتَعَفِّنٍ لَمْ يُدْفَنْ بَعْدُ أَمَّا رُوحِيٌّ فَقَدْ دَفَنَتْهَا اَلْأَيَّامُ وَرَمَتْهَا فِي قَبْرِ اَلْحَيَاةِ. وَفِي اَلْحَقِيقَةِ فَكِلَانَا نَظَرنَا لِبَعْضِنَا بِطَرِيقَةٍ مُخْتَلِفَةٍ فَهُم يَرَوْنَنِي فَتَاةً فَقِيرَةً تُغَطِّي جِسْمَهَا اَلْهَزِيلَ ثِيَاب بَالِيَةً لَا تُشْبِهُ اَلَّتِي يَرْتَدُونَهَا وَبِالنِّسْبَةِ لِي فَلَمْ أَسْتَطِعْ رُؤْيَتُهُمْ!. تَسَلَّقْتُ سُلَّمَ اَلْعُمْرِ دَرَجَةَ دَرَجَةَ وَفِي كُلِّ مَرَّةٍ كِدْتُ أَعْلِنُ اِنْهِيَارِي وَاسْتِسْلَامِي لَكِنَّ مَا مَرَرْتُ بِهِ حَوَّلْتُهُ لِحَافِزٍ لِلِانْتِصَارِ لَا لِلْهَزِيمَةِ.فَقَدْ نَجَحْتُ فِي دِرَاسَتي وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِدَرَجَاتٍ مُتَمَيِّزَةٍ فَهِيَ مُمَيَّزَةٌ بِالظُّرُوفِ اَلَّتِي رَافَقَتْهَا فَيَكْفِينِي أَنَّنِي تَقَيَّأْتُ مَرَارَةَ اَلسِّنِينَ وَتَسَلَّقْتُ جِبَالَ اَلْعَجْزِ لِأَقْطِفِهَا. هَذَا وَقَدْ بَاءَتْ تَجَارِبِي اَلْعَاطِفِيَّةَ بِالْفَشَلِ وَلِلصَّرَاحَةِ فَلَمْ أَشْعُرْ بِالْحُبِّ لَقَدْ كُنْتُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ أَبْحَثُ عَنْ شَيْءٍ أَتَنَاسَى بِهِ حَقِيقَتِي حَتَّى أَنَّنِي لَمْ وَلَنْ أَسْتَطِيعَ يَوْمًا أَنَّ أَبْسُطَ قَلْبِي اَلْحَالِكَ لِشَخْصٍ مَا.لَقَدْ غَدَوْتُ اِمْرَأَةً بَارِدَةَ اَلْمَشَاعِرِ، مُخَدِّرَةً بِأَقْرَاصِ اَلْبُؤْسِ. أمَّا اَلْيَوْمِ أَكْتُبُ هَذِهِ اَلْكَلِمَاتِ وَأَنَا عَلَى دَرَجَةٍ مِنْ اَلْقُوَّةِ الّتي تَكْفِينِي لِصَدِّ دَمْعِي مِنْ اَلتَّسَرُّبِ، لِلتَّحَكُّمِ فِي قَلْبِي وَحِمَايَتِهِ مِنْ كُلِّ أَذًى وَقَادِرَةً عَلَى تَرْكِ كُلِّ مَا يُزْعِجُ رَاحَتِي وَيُعَكِّرُ صَفْوَ مِزَاجِي. اَلْيَوْمُ نَفَضْتُ غُبَارَ اَلْمَاضِي وَأَعَدْتُ تَرْتِيبَ أَوْلَوِيَّاتِي وَاضِعَةً نَفْسِي فِي اَلْقِمَّةِ.
…….بَعْدَ مَخَاضٍ طَوِيلٍ وُلِدَتْ اِمْرَأَةٌ مِنْ رَحِمِ الحَيَاة.