كاطو.. فصل من رواية “حسين الصومالي”

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 45
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حسين عبد الرحيم

أحمد متولي

هي وقفة تكررت كثيرا منذ خروجه من الخدمة وتكريمه من قبل الفريق عادل خليل، في شرفة معتمة كالعادة، هو لا يحب النور ولا الضوء كثيرا، تعود على أن صفو الذهن لا يكتمل إلا في الظلام.

نظر إلى يارا، التحفت في سريرها بملاءة وردية، قبلة على جبينها أبكته، عاد للبار وأشعل شمعة واحدة، فتح الدرج الكبير ليخرج صوره القديمة وينظر إلى رفاق السلاح، ربيع  البزاز ويسرى همام وحمودة النبع وعبد الرحيم جمال، الخامس من يونيو 1967، مكتوبة بخط رقعة أسود، بقلم كوبيه، لم يعد يبكي مثلما كان الحال عقب خروجه وحفل التكريم بالدفرسوار وإهدائه حقيبة، لكنه لم يزل يسمع وشيشا، أزيز طائرات، يرى جثثا متفحمة، أعضاء تتطاير من جسد محروق، ربيع يطرش دما من فمه، ينزوي في ركن بعيد، في الخندق، أسفل الساتر الترابي، يسرى همام وقد اشتعل وجهه، احترق، على أثر مقذوف ناري، صار يزعق، يلعن القيادات وهو ينصت للاسلكي، في راديو ترانزيستور، قلب في محطات إذاعية عديدة،  أتته الأخبار، الطائرات المقاتلة التي ضُربت في مطار غرب القاهرة دون أن تتحرك.

بكي كثيرا هذه الليلة وأحس بخنقة فرفع وجهه للسماء، استطلع التخوم خلف أمواج البحر السوداء وهو المطل بعمق لبنايات تتراص من خلفه في كامب شيزار، قرر النزول  وقت أن اصطدم الغراب تائها في زجاج النافذة المطلة على الكورنيش من بين فرجات ضيقة يخترقها متولي كل ليلة بنظره، يرمح بالبصيرة قبل البصر.

الآن فقط بدأ يستعيد توازنه، وقف وحده، وحيداً، قبل انتصاف الليل بدقائق خمسة، جاء مشياً من كامب شيزار، عينه لم تفارق عقارب ساعته الأوميجا ومينائها الغائم، لم يعد أهمية لهذا الموبايل والذي يحمله منذ عشرة أعوام وقت أن اشتراه من سيدهم الجزار بالنبي دانيال، صار يحدق في شاشة الموبايل ليرى الاسم جيدا، حسين الصومالي، يضحك فيبكي فيشرد وساقه اليسرى المبتورة حتى أعلى الركبة تستقر منزوية بثقل في جراب جهازه الاصطناعي، ثابتة فوق رصيف الكورنيش بعدما عبر مكتبة الاسكندرية ليقف في مواجهة الصخر العالي وقد طل يراقب هياج الموج المصطخب منصتا لصوت البحر في الشاطبي،، دمعة مالحة فرت من عينه فخطا خطوة واحدة ليريح ساقه اليمنى السليمة.

يتذكر ما حدث بالأمس وقد أيقظه ابنه محمود لينبهه لصوت الموبايل فيقوم مذعورا خائفا ينظر للشاشة المنيرة في النوكيا ويرى الاسم، يشرد، يتحسس طرقة الغرفة في الظلام، كاد أن يسقط من فوق سريره وعندما لاحظه الابن جرى ليسنده فدفعه بيده في عنف، استند على الحائط المشروخ، أنصت لصوت الماء الساقط في الدلو الصفيح داخل حمامه الصغير، تجشأ، سعل،  دعك عينه، فتح النافذة، في الدور السابع، نظر إلى السحب بنجومها الزاهية وقد ملأت سماء الإسكندرية  في خريف حسبه الاخير في عمره الذي يدنو من الخامسة والسبعين،  كل  ما حدث في بيته ليلة أمس بات يجتره وهو واقف يرقب طيور غريبة تحط على صخور بعيدة في الظلام، الكورنيش خال إلا من بعض الساهرين وفتيات يرمحن قريبا من بائع الذرة الذي انهمك في شواية من الصاج، رمي فيها كيسا من الفحم، عيناه الحمراوان تبرزان غضبا ما،  شرر يوجه سهام غضبه لمجهول، لآت لا ريب، هو يحس ومنذ بداية العام،  منذ يناير 2020، أن الأيام انقضت وسيطوى العمر، يحس أن موته صار قريبا وأن هذه الليلة قد حددها القدر، وأن الرب قد صالحه أخيرا برؤية حسين الصومالي  الذي لم يعرف عنه شيئا منذ خروجه أو هروبه من بورسعيد في العام 1989، زفر وبدأ في الاقتراب من بائع الذرة مخاطبا إياه،

ـ كوز ساخن بإيدك يا رمزي.

 رفع رمزي رأسه غير مصدق وهو يتأمل ملامح الكابتن أحمد متولى بطل حرب الاستنزاف، بكى رمزي فتمدد ذراع متولى وقد ألزمه بمتابعة عمله بحركة من يده بكفه الغليظ وأصابعه الطويلة بعدما سقطت مروحة الريش من يده، صمت رمزي وبات يتذكر هو الآخر وعينه ترقب متولي وقد شرد من جديد يتأمل فتاة شقراء خطت ناحية السياج الصخري، لم ينبس بحرف حتى عاد متولي يربت على كتفه بحنو وقد فتح أزرار قميصه لهواء الخريف، أطل على ساعته من جديد كانت العقارب تقترب من الثانية عشر والنصف ليقفز بقدم واحدة وقت أن التفتت الصبايا يرقبنه وهو شبه طائر، بساق واحدة،، جلس على الكورنيش وظهره للمارة ليترك رمزي وقد برقت عيناه  وزاد احمرارهما وهو ينفخ النار ويهذي بكلمات غير مسموعة، طالت نظراته في البعيد فقال رمزي: نبهني عندما تنتهى حتى أطلب لك الشاي من ماندو.

 فعاجله متولي:

ـ حاجة ساقعة، جوفي نار.

كانت طيور السمان قد حطت على صخور الشاطبي في ظلام البح، الأمواج تتعالى ويتجلى الزبد ويبيض الماء فوارا ضاربا السواتر بعنف وقد ظهر أحمد متولي وهو يتأمل الصيادين أسفل قدمه اليسرى الذي تدلت هامدة .

 يحاول ثني يمناه تحت مؤخرته، أشعل سيجارة ثانية وبدأ في النظر، عينه اليمنى الثاقبة تلهث، نور بصيرة فذة تتفحص الأجواء ووجوه العابرات، من مجلسه تطلع يجوب الكورنيش حتى قلعة قايتباي، استدار فجأة يسأل رمزي:

ـ أتذكر المنارة يا رمزي؟!

 رمزي ينظر إليه في تعجب ويرد باقتضاب:

ـ لسه فاكر يا بطل

 يضحك ويرد:

ـ  بطل؟ من البطل، أنت البطل يا رموز،  نحن جيل الهزيمة حتى بعد النصر .

 ويعود لصفحة البحر وقد هوت دموعه مرددا في نفسه دون صوت،

 بطل!!

 يضحك في جنون ساخرا ويطوول الطنين والزن في أذنه، يجتر:

ـ انتبه يا بطل.

 تحصن بالدشمة يا باشويش، ثبت خوزتك، زحف، ازحف، اضرب، اضرب، احتجب، اعط فرصة لمرور ربيع ويسرى وحمودة وجمعة الناغي من أسفل الساتر الترابي، يضحك متولي ويبكي ويجتر ويدعك عينه فينظر إليه المارة في دهشة وخوف وقد حدقوا بعينيه الغارقة في دموع لتزداد حيرتهم مع ارتفاع صوت الضحك بهيستيرية واحمرار عينه وقت أن برزت ملامحه، وجه أسمر مستدير وأسنان بيضاء وشعر أكرت مصبوغ بحنة بنية فاقعة، انتبه وقت توقف البلوكامين، نزل ضابط برتبة عميد، سار بمهل، اقترب من أحمد متولي، ألقى التحية وعقب متولي:

ـ  مساء الفل يا كومندان، لك أي طلب يا بطل؟

 نظر أحمد متولي في حنو:

ـ تسلم يا كومندان.

قلت أمشي على الكورنيش، أنت تعرف عشقي للخريف وولعي برؤية السمان في سماء الظلام، ركب سيارته السوداء وانطلق العسكري يقود بخفة قاصدا محطة الرمل، عاود متولي النظر في شاشة موبايله وقال لرمزي:

ـ  هل تذكر حسين الصومالي يا رمزي، ألم تره هنا في الشهور الماضية؟ !

 ينظر رمزي في دهشة، لم ينطق، صار مذهولا وقد نكس رأسه، حدق يسوى كيزان الذرة، قفز  من فوق سور الكورنيش شبه طائرا، فرد يمناه في الهواء بمساواة صدره ليدق ساقة اليسرى في ثبات أمام الشواية الصاج، رمى بزجاجة البيبسى فارغة بجانب سور الكورنيش، ظل  يوجه حديثه لرمزي من جديد:

ـ حاجة وسخة يا شقيق .

هل يعقل أن يمارس العادة السرية رجل في السبعين؟

ملعونة النساء الجاهلة، ألم يكفي أن يحكموننا بالفقر والجهل والمرض آلاف السنين، وتأتي زوجتى هي الاخرى وتكمل المنظومة،

هرش رمزي رأسه، صار يبكي، استدار بملامحه ووجهه الحزين عكس وقفة متولي الذي رفع رأسه للسماء راميا بصره جهة قايتباي،

ردد في همس ووهن  :

ـ معقولة يا حسين،أيعقل يا صومالى، تموت غريق!!

 قلت ستأتي بعد الثورة وتأخرت كثيرا، ورأيتك قبالتي صدفة في صحن المرسي أبي العباس، بكيت يومها، بكينا سويا، نعم بكينا وكثيرً بكينا وكان فبراير 2012 والذي أتي بالكوارث فانقطعت كل الرسائل.

كنت تبكي بحرقة وتقول لي: نعم صدقت النبوءة، ستواجه بورسعيد الخراب حرقاً او غرقاً.

وها هي تحترق يا أحمد، فقد قتلوا أكثر من مائة وسبعة وعشرين رجلا بسبب مباراة للكرة، حتى جنازات الشهداء لم تسلم من قصف ضباط الداخلية،

 بورسعيد يا بطل،

 هل تذكرها .

بعنف مشى وحده يضرب قدميه في الهواء، يجر ساقيه، يفتح صدره لهواء البحر، تذكر عصاه البلاتين الذي يتكئ عليها، قبل أن يعاود الكرة، كان رمزي قد هرول ناحيته فناداه متولى قائلا:

 ـ ارم به.

تلقف العكاز وصار يمشي قاصدا محطة الرمل، نظر المارة  بروية،  توقف مشدوها فوق الطوار المواجه لأتينيوس، حدق وبصر وسعى يجول بعينين ثابتتين وقت أن مرقت الفتاة الشقراء في جوب لاميه وردي وبادي أسود وقد رمت بشعرها، تطوحت خصلاتها خلف ظهرها المشدود من الخلف بسوتيان بارزة حوافة تحت غبشة سراج نور مجهول المصدر وقت أن نادتها أمها الجالسة على الكورنيش، مشى في تحفظ وروية وقد تذكر صوفي ابنته التي ستدخل الجامعة العام القادم، كشاب في العشرين، صار يمشي بخفة ليأتي من خلفه وقد ارتدى جوال من الخيش  يستر عورته حتى أدنى ركبته، توقف متولي ونادي:

ـ كاطو. يا ولد يا كاطو.

 وظهر شاب يقترب من الثلاثين وجهه مغبر بتراب ناعم، صار كاطو يرقص، فرحا يختال فوق الكورنيش الموازي لإتينيوسن ضاحكا في حبور يردد:

ـ عمي البطل، هل رأيتني بالأمس وأنا أراقص “آنا مانياني” على رصيف “سيسل” يافهد الدفرسوار.

 ضحك أحمد متولى فبكي، رشق نظراته في بنايات شتى صوب البنك الأهلي والذي كان مقرا للقنصلية الإيطالية، سار بتمهل ينظر ناحية تمثال سعد زغلول، رأى سعد  يمشى بقدمين من برونز، خطى الزعيم في الظلام،  ناحية بحرى، تلفت ليبصر “المتروبول” وقد صار يمشي في بطء هو الآخر تاركا محطة الرمل، يودع شارعه وينظر اللافتة، سعد زغلول، دنا متولي من البحر وهو يدعك عينيه وقد امتلأت بالدموع وسالت على وجنتيه، دنت من فمه فزادت عينيه احمرارا، تخيل سريان مبان وسط الأسكندرية وقد تركت مقارها ولم يبق إلا شارع النبي دانيال، زاد الطنين في أذنه وسمع صفير قطار زاعقاً في محطة غريبة فعادت الذاكرة ترمي بوقائع وأحداث جليلة في محطة مصر وسيدى جابر وباب الحديد، رأى جنودا بزي  مموه وقطار حربي زاعق لا يفارق المحطة وكثبان رملية وصوت دوي انفجارات وألغام أرضية تفترش بئر العبد ورمال كثيفة قبل مطار المليز وسيقان تطير في الهواء ويسرى همام وربيع البزاز وحمودة الساكت وجمعة الناغي يصرخون قبل فجر يوم الخامس عشر من اكتوبر وهو يتحسس عرجه وساقه المبتورة.

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون