الرب يسير على وجه الماء

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

يجلس على أول شارعنا. صغير الحجم، رمادي الشعر، طويله، تبدو عينيه الزرقاوين شديدتا الوسع من أسفل الجدائل الخشنة المتشابكة بفعل قلة الاستحمام. يرتدي بلوفر أخضر وكوفية صوفية عديمة اللون، كما يحمي يديه بقفاز دون أصابع
أنا لا أكرهه. وكيف أكرهه وهو منذ أتى إلى شارعنا والشارع لم يعد كما هو، ولا الناس أصبحت هي الناس. فالفكهاني أصبح يبيع برتقالات مشتعلة أسطحها، وعيدان القصب عنده تطلق بخوراً برائحة الياسمين، أما البنجر عند جاره الخضريّ فيصفر عندما يبدأ الناس في تعبئته في الأكياس الخيشية الخضراء. والأغرب من هذا كله أن الفكهاني لم يعد يتشاجر مع الخضري، وماما لم تعد تكره تيتة حسناء كما أن بابا أصبح يعود من قعدات المزاج متورد الوجه، سمح النفس، وفي يديه بلح أمهات تلتمع على قشرته السميكة نجوم لا يخفت التماعها حتى ولو فركنا القشرة خمسين فركة. أذكر أن أختي ابتسام هي التي أخبرتني بموضوع الخمسين فركة هذا وهي تقسم عليه بحياتها، رغم أنها تتطير من هذا القسم عادةً.
قدم على طرف الرصيف والأخرى على الأرض، أحاول استجماع شجاعتي والاقتراب منه. أريد أن أعرف كيف يبدو وأنا ملاصقة له. الكثير يلقون إليه بالمال في العلبة الصفيح منزوعة الغطاء التي يضعها إلى جانبه دون أن يلتفت إليها ولو لحظة، رغم أنهم كثيراً ما يلقون بمبالغ ضخمة لا يتخيلون أنها قد تفارق جيوبهم في يوم من الأيام. ألقيت له ذات مرة بالعشرين جنيه التي أعطتني إياها أمي لأشتري بعض المستلزمات من جودة البقال، ظللت أسير في طريقي نحو البقال يومها، ووجهي يتبدل من سعادة العطاء للفهم البطيء ثم الهلع. بخطى مرتعشة أستدير لأعاود أدراجي للمنزل فقط لأجد تلك اللافتة المضيئة أعلى ذلك السوبر ماركت الشهير.
(مفاجأة اليوم، تسوق بالمجان!!)

آخذ نفساً عميقاً وأتجه إليه في ثبات. أراه يخرج قنينته ويجرع الخمر على دفعات متباعدة. لا أعرف كيف تأكد الناس من أنه يشرب الخمر؟ أبسبب القنينة؟ ربما يكون قد ملأها بالعصير أو حتى الصودا؟ رفعت رأسي إلى فوق، كتل السحاب متجمعة كغزل البنات السكري، و الشمس تبرز وتختفي محتالة على المارين ليخففوا من إحكام قبضاتهم على ياقات معاطفهم. يترك كعبيّ صوتاً كالجرس على الأسفل المترب، وإذ أراقبه بطرف عيني، أراه وهو يرمق الأطفال بنظرة خاوية فترسل ضحكاتهم نوتاً موسيقية لسماء الظهيرة، أراه ينظر لامرأة عجوز فتقف على قدميها معتدلة، تتحسس ظهرها الذي كان منحنياً من ثانيتين وتبتسم كاشفة عن فم خلا من الأسنان. أكره ابتسامتها، لذا أبتعد بنظري عنها وأواجهه. أكتشف أنني على بعد سنتيمترات قليلة منه فقط. كيف مشيت كل هذه المسافة وأنا لا أشعر؟
"فيروز."

ابتسمت له.
"كنت عارف إنك هتيجي."

***
الاسم: فيروز السيد طلبة، السن: إحدى عشر عاماً، المطرب المفضل: ريكي مارتن وعامر منيب.
الحبيب الغائب: مسيو جان، مدرس اللغة الفرنسية بالمدرسة.
ألم أخبركم أن أبي أخرجني من مدرستي الحكومية، وألحقني بالليسيه الفرنسية؟
من بعد الحجاب والجونلة الرمادية، أصبحت أرتدي بنطلوناً كحلي اللون وقميصاً بلون off-white.
بعد انتقالي للمدرسة الجديدة، فتحت وعلى غير العادة أبواب البيت الكبير.
البيت الكبير؛ موكب فوزية هانم وهي خارجة لتقص شعرها عند كوافير كارمن، الذي لا يعمل به سوى الرجال رغم اسمه الحريمي.
البيت الكبير؛ وساندرا التي مازالت تتمنى لو أصبحت ثائرة. قصت شعرها وحلقت حاجبيها ودفنت نفسها في حديقة البيت، خرجت من ذراعيها سيقان التيوليب وأفرع الليلاك وبذور عباد الشمس.
تيتة حسناء تحب أن تمضغ بذور عباد الشمس، تقول أنها مقوية للعظام بينما تسخر منها أمي قائلة "أنتي كبرتي يا حماتي على الوصفات اللي زي دي، خلاص مافيش رجالة هتبصلك."
أحاول مرة أن أمضغ تلك البذور، لها طعم الفول السوداني شديد الملوحة، وخامة شهية صقيلة، تلتصق بسقف الحلق.
الغريب أن عظامي لم تتحسن –كنت فكرت في تناولها بعد أن أرهقت نفسي في حصة التربية الرياضية بالمدرسة- لكن أصابعي تورمت وشعرت بسخونة غريبة تفور في جسدي بدءاً من وجنتيّ وحتى محيط الوسط.
لا أعرف لماذا أخذت قبضة من البذور وركضت صوب البيت الكبير. وإذ وقفت أتلصص على الحديقة من بين فتحات السور الحديدي العظيم، رأيت ساندرا وهي تحاول أن تكون ثائرة، تستحم في الطين الطري في وسط الحديقة.
لمحتني، ناولتها سيجارة وبضعة حبيبات.
"ستي بتسميها روح الشمس،" قلتها في خجل، فربتت على رأسي بيدها الطينية ووسخت شعري.

***
منذ ترك شارعنا وهو يجول في الأنحاء. يتمتم بكلمات غامضة، قد تكون رسالة أو بشارة أو نذير. سمعت من ساكني الشوارع الأخرى أن أحداً لا يتعرض له بأذى، رغم شكوى مؤذني الجوامع من رائحة الخمر التي تفوح منه أثناء أدائهم لصلاة الفجر. أحياناً يجدونه قد انضم إليهم في المسجد، ينام في ركن من الأركان، وقد برزت أصابعه من شرابه الممزق، كريه الرائحة. في مرة وجدوه داخل المعبد اليهودي الكبير المغلق في مصر القديمة، كان يغط في النوم بينما الصلوات تتلى وراء منه. لم يستطع أحدهم طرده كالعادة، وعندما حاولت الذهاب إليه ومحادثته، تظاهر بالصمم وتجاهلني.
في مرة ضبطته يعدل من وضع السماء، حرك سحابتين بأصابعه طويلة الأظفار حتى امتزجتا ببعضهما البعض. شهقت من الدهشة فلم يبد عليه أنه لاحظني.
قلت لأمي عما حدث فصفعتني وبكت حظها في ابنتها الوحيدة، حاولت إخبار أبي، لكنه أصبح يعود من قعدة المزاج مسكيناً، هائماً في اللحظة التي كان فيها بعيداً عن الأرض.
الوحيدة التي صدقتني هي تيتة حسناء، والتي أخبرتني بأن الله يرسل ملائكته في هيئة حيوانات ومتسولين ليختبروا عباده الطيبين.
"بس أنا مش طيبة يا ستي."

"أنتي ست البنات، وأطيب البنات."

***
عندما علمت بموت ساندرا، كنت الوحيدة التي ذهبت لتعزية فوزية هانم. لم تذهب أي من نسوة الشارع، ولا قريباتي، ولا أمهات زميلاتي بالليسيه.
عمري الآن خمسة عشر عاماً. شعري أصبح طويلاً للغاية، ناعم كالحرير. هكذا تقول تيتة حسناء. كثيراً ما تدعكه لي بزيت اللوز والمسك. أبي مات. وكم كنت أتمنى لو قابل مشعوذ شارعنا في العالم الآخر، ربما هو الملاك المسئول عنه هناك.
في حوش البيت الكبير، أحواض كثيرة لزهور عباد الشمس، كل الزهور منتكسة، ربما حزناً على صاحبتها التي ماتت. لمحته يطبق بتلات زهرة على نفسها، هو هو بالبلوفر الصوفي والطاقية عديمة اللون.
"استنى،"

ركضت وراءه فقط لأكتشف أنني كنت أطارد ظلي. كالحلم تجسدت أمامي فوزية هانم، بعصاها والشعرة البيضاء اليتيمة في مقدمة رأسها.
"البقية في حياتك."

سلمت علي دون كلام، ثم سلمتني طرد صغير ملفوف بورق بني اللون.
***
"فيروز."

ابتسمت لخطيبي وهو يلبسني الدبلة، رفعت رأسي للسماء، وجدت السحب تتجمع ببطء لتغطي وجه القمر.
"ثانية واحدة."

قمت من جانبه، لم ألتفت لهمهمات الدهشة ولا لنداء أمي بصوتها المبحوح الذي أتلفه الغناء سراً على سطح البيت عند الفجر. في حوش البيت الكبير، حيث تقام خطبتي على ابن فوزية هانم العائد من فرنسا، وقفت أتأمل أحواض عباد الشمس الذابلة. لم أعير أذناً للصخب من ورائي، خلعت حذائي عالي الكعب، وحفرت حفرة صغيرة في أحد الأحواض التي ماتت كل زهورها. عندما وصلت لمبتغاي، أخرجت البذرة المغطاة بالطين والتي تفوح منها رائحة طازجة تغمرني بالحنين إلى أول يوم رأيته في شارعنا.
وخرجت، ومن ورائي اشتعلت البرتقالات فوق عربات الفاكهة، وأطلقت عيدان القصب بخوراً برائحة الياسمين.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون