(وردشان).. فانتازيا تشبه العالم
محمد الجمّال
كانت هذه المرة الأولى التي أعرف فيها معنى الحب , التي اقتربت فيها بصدق من تفسيره واستلهامه, وهي أيضاً المرة الوحيدة التي خرجت منها بقلب وجسم كسيرين معاً.
بدأ الأمر صدفة مثل صدف المصباح السحري الذي تدعكه ثم تتمنى, فتمنيت وأنا شارد الذهن ومفلس ووحيد لو أن فتاة جميلة تؤنسني في وحدتي. شريهان هي البنت الجميلة التي عينت جديداً في مكتبنا بأرشيفات المحكمة, طويلة وجميلة تلبس وتضع المكياج مثل أولاد الذوات, جسدها محتدم مع المشي وهادئة في مجلسها كالحكمة العصماء. تعبث هي في هاتفها المحمول وأحمل عنها عبء الشغل منذ أكثر من سنة من أجل خاطر جمالها. ما زلت أسميها بالفتاة الجديدة, لأنها تأتي كل يوم في زي جديد , ضحكتها دائماً طازجة, وشفاهها وعيونها ورموشها والشعر الغجري المجنون.....آآ ه. شريهان جننتنا فكانت حلم الأعزب وصاحب العيال منا, حتى النساء في مكتبنا كن يدللنها فجمال شريهان وألقها جعلهن يسمون فوق مشاعر الغيرة ويحببنها أكثر من كل شيء, شريهان تصنع الذوق والأناقة في مكتبنا وفي مبنى المحكمة كله, فما من واحد يشتري قميصاً إلا ومر من بين يديها وتحكك في مكتبها لتنظر إليه, فإن ابتسمت فبها ونعم وإن أسقطت رموشها عنه ظل القميص معلقاً في الدولاب كأبناء الخطيئة لا تلبسه أبداً, واسمه عندك القميص الذي كرهته شريهان. غضبت بيننا ذات مرة حين أراد مواطن لحوح أن ينتهي من أوراقه فصرخ في وجهها, لم تفعل سوى أنها جلست كالباكية ونظرت إلينا. أقفلنا المحكمة وثرنا وهدرنا, هرول المحامون ناحيتنا لينظروا إلى الحركة التي دبت في المكاتب الميتة منذ ألف سنة, شتمنا الرجل وضربناه وهددنا بالإضراب إن لم ينل جزاءه فلم نهدأ حتى أرسلناه مقيداً بالحديد في رسغ شرطي, ثم عدنا واحداً واحداً ننتظر عطاءنا منها كل بقدر مشاركته وانفعاله لها. كانت ضحكتها أنفس ما يحصل عليه أحدنا أو أن تنطق باسمه بلهجة ذات غنج. رغم كل محاولتي لإشراكها معي في أمور الشغل ظلت مترفعة تقوم بالأعمال البسيطة التي أطلبها منها ثم تعود لتعبث بأصابعها في الهاتف منفعلة بكل حواسها فيهيأ لي أنني سأشغلها لو طالبتها بأن تملأ عريضة مثلاً أو ترفق وثيقة في ملف قديم على رف بعيد ومترب. كنت أعرف دائماً أن شريهان لها حبيب ما و دائماً كان يواصلها بالرسائل الرنانة على هاتفها و كانت ترد مكالماته بعيداً عنا بالقرب من شباك الردهة ونراها مبتسمة مرتاحة للكلام. رغم ذلك أحببت شريهان مثل غيري وجعلتها غاية أحلام النوم واليقظة عندي, فلو كنت غنياً لاشتريت قصراً لشريهان, ولو كنت قوياً لحاربت الناس على شريهان ولو كنت شاعراً لكتبت قصيدة تقول ( شريهان شريهان شريهان شريهان).
أما المصادفة فكانت أنني أنشأت حساباً على الفيس بوك, ويجب أن تعرفني لتدرك أن ذلك كان غريباً عني بمقدار, لرجل وحيد مدمن على روايات العشق الدامية والشعر, أكره التكنولوجيا وكل ما له بريق معدني, كذلك فإن الاجتماع بالناس يوترني حتى ولو في عالم افتراضي, سبب آخر جعلني أتجاهل عن عمد فكرة الفيس بوك وهو زميل لي في العمل يظن في نفسه الشعر ولا يحسنه أبداً, يخرج من تحت الأرض ومن كل الزوايا الممكنة ليسمعنا قصائده , يهتم على نحو خاص برأيي لكوني شاعراً مقطوع اللسان أميز الشعر الجيد ولا أكتبه, كان يحرضني دائماً على فتح حساب على الفيس بوك ويعدد لي فوائده التي من ضمنها قراءة ما يكتبه أولاُ بأول. ثمة أشياء عندي يجب ألا تطالها أيدينا بالمحاولة, منها الشعر, إن لم تكن شاعراً فلا تحاوله لأنك تفسد الذائقة وتغري آخرين بارتكابه فيمسي الشعر أرضياً ودميماً مثلنا, كما أن زميلي شاعر المحكمة كان لزجاً وكثير التودد إلى شريهان, يأتينا من مكتبه في الطابق العلوي ليلقي االشعر في حضورها وكانت تبتسم له كثيراً وتضم كفيها معجبة به, وهو كان يحرك يديه في الهواء كمن يطلبها للرقص أمام أعيننا, فاخترته عدواً لي, شريهان مثل الشعر لا تنبغي لواحد منا, شريهان بهجة عمومية كالسماوات والنهر وحظنا اليومي من الخيال, راودتني أفكار أنه ربما يكون الحبيب المبهم صاحب الرنات الكثيرة, ولم أعرف كيف أتأكد حتى طلبتْ منه أن ينشر القصيدة على الفيس بوك, عندها غيرتُ منطقي ورأيت أن الفيس فرصة جيدة لتتبعهما وأكثر للقاء شريهان بعد مواعيد العمل.
جعلت شريهان صفحتها مخزناً لذكريات كثيرة و راكمت صوراً تحكي من تاريخ جمالها ورفاهيتها, البنت الصغيرة مكسورة السن الأمامية أدركتها طفرة الأنوثة في زي المدرسة الرمادي ومنذ ذلك الحين وهي أجمل زميلاتها, في الجامعة, في الرحلات, في البر وفي البحر كانت تدرك أن جمالها يستحق التأريخ فلم تترك لحظة من حياتها إلا وصورتها, واختارت لتزيين حائطها مناظر طبيعية لزنابق ويمامات متقافزة فكأن على الداخل إلى صفحتها أن ينحني برأسه كي لا يلمس اللبلاب المنسدل عند بابها, كلماتها أيضاً بدت كنقوش في أعمدة رومانية بيضاء وكانت دائماً عن الحب عن الموت بجرعة زائدة من الغرام. يقولون في السحر التشاكلي أن المتعلقات تحتفظ بأثر من صاحبها حتى يمكنها التأثير فيه من بعد, إن كان ذلك صحيحاً فإني وجدت صفحتها لها حضور مماثل لحضورها بل وأكثر بهجة. كان السؤال بعد ذلك, كيف أصنع مثلها نسخة مني تستدعى بلمسات خفيفة على شاشة الهاتف, إن كنت طامعاً في جذب انتباهها فلن أتباهى بألبوم الصور التي لدي, صور لأبوي قبيل الموت و صور كثيرة لي في المراهقة خلال رحلات إلى القناطر والهرم بدوت فيها كحفرية من حقبة الفيسكوس. أيقظت ملابسي ليلاً وجربت صوراً عديدة لنفسي وأنا أبتسم وأنا أكتب أو جالس في شرفتي أتأمل. كنت متعجلاً على تلوين نسختي الإلكترونية لتبدو مثلي وتتحدث بعبارات تصفني لكن نسختي لم تمهلني وشرعت تتخلق من تلقاء نفسها, إذ بدأ الهاتف يرتعش ويرن مرات متتالية أوجست منها وهكذا بدا أن العالم الذي ولجته لحوحاً ولا ينام أبداً. أحسست بذلك وأنا أعاين طلبات الصداقة الكثيرة التي وصلتني, لم يكن يعنيني إلا شريهان ولكن من غير اللائق أن أبدو أمامها بلا أصدقاء, ماذا ستقول عني, أحسست أن الآخرين انتهكوا وحدتي عنوة, ورأيت كأن منزلي قد امتلأ علي بضيوف أجهل عن أكثرهم, كلهم يتقرب من أذني بجرس صغير لينبهني إلى وجوده, ثم إن لهم مطالب كثيرة وأحاديث مختلفة, فقررت أن أصنفهم كمن يجلس كل مجموعة من معارفه في حجرة منفردة ويمارس الضيافة بتحفظ وقلق. المتدينون أكثر الناس صخباً, في أسمائهم وأشكالهم, بل وفي صور الأشياء التي يستعيرون بها عن أنفسهم, صورة الكعبة, سيفان متقاطعان على مصحف, صليب, وصور لمشايخ متجهمين ويشيرون بالأصبع, فارس الحق, زهرة الحكمة, طالب العفو, الصخب الشديد وحده ومن دون ذلك محاولة لإشعار الجميع بالذنب. وكان من بين ضيوفي غرباء ومعارف لمعارف لهم وجوه حيادية ومبتسمة بلا عهود, فهؤلاء تلقيتهم بمشروب خفيف عند بوابة الخروج, أما الأقارب فقد أرهقوني في الحديث و تتبع أخباري منذ آخر لقاء لنا, لكن بدوا لي على لباقة تعلموها من محاكاة برقيات المجاملة المكتوبة على حوائطهم, منهم أقارب لم أظنهم يفيسون أبداً مثل عمتي الأرملة الستينية التي تعيش في القاهرة, حاولنا كثيراً إبقاءها في منزل واحدة من بنتيها لكنها ثرثارة تفتعل المشاكل, هاهي قد وضعت صورة قديمة لها منذ أيام االجيبات القصيرة وفي كلماتها تلمحت أثراً من خلاعة لم تعجبني. لا يمكن تخيل الجهد الذي بذلته في الفرز والاختيار ومحاولة إيقاف الجميع عند حدود مقبولة من الكلام, حتى صار لي في النهاية عدد لا بأس به من الأصدقاء. هنأني أغلبهم على صورتي وأرسلوا الإعجابات والقلوب فيما بدا لي أنه أحد بروتوكلات ذلك العالم شأنه شأن الوقوف أمام الكاميرا بكل زيي جديد , ثم تراءى لي أن أعنون لنفسي بكلمات براقة ( إنسان أثقلته الأحزان), يا عيني!
دخلت المكتب متأخراً للمرة الأولى منذ تاريخ تعييني إذ غفوت عن المنبه, فاتتني فقرة الإفطار اليومية, تلك التي نقضيها والباب مغلق دون المواطنين الشاهري أوراقهم والمتوسلين في الخارج إلى نظرة رضا من أحدنا. نتبادل في هذه الفقرة جديد الأخبار والنكات المنزلية, نتحرى أخبار العلاوات والجمعيات, المرض والوفاة, الزواج والمجاملات وغير ذلك, رغم أن هذه الفقرة كانت دائماً مملة وثقيلة على قلبي لكنني افتقدتها ذلك اليوم, إذ أنها الشيء الوحيد المتحرك خلال اليوم كله, بعد ذلك ليست إلا الزفرات والحوقلة ونظر أحدنا في هاتفه , أو النظرة المتلصصة إلى شريهان, كذلك فقد خصم لي اليوم وكان من حقي الرجوع إلى منزلي, ولكن إلى أين سأذهب؟ حتى وإن عدت للنوم فسوف أخرب ساعتي الجسمية التي توقظني في الصباح, العمل عندي فاصل ضروري لعدم ضياعي كاملاً في الوحدة لذلك فإنهم يتهمونني هنا بالنشاط. ولولا الأوراق المتكدسة على مكتبي من شغلي وشغل الآخرين ما شعر أحدهم بغيابي ولا حتى هي, جلست على مكتبي كالمذنب وأخرجت الهاتف وبدأت التصفح. في الصباح تكون أكثر المنشورات متفائلة وواثقة من تحسن الأحوال, كلهم ينشرون عبارات صباحية مطمئنة إلى نهاية اليوم على خير, ( ها قد أطلت تباشير الصباح فاملأوا قلوبكم بالأمل), ( ولسوف يعطيك ربك فترضى), صور لزهور بيضاء وزرقا وصفراء, وفتيات صغيرات ذوات شعور ذهبية يمرحن في الحدائق أو يبتسمن لك, هناك أيضاً نعي لواحد من المتوفين بالأمس وله قريب من المحكمة, وهناك بهائم لا يفرق معهم صبح من مساء ينشرون صور أشلاء وقتلى, أو طفلة يقف جندي محتل على خدها الناعم ويصوب نحوها البندقية, وهناك وهناك... المهم عندي أن صاحبنا الشاعر لم تكن له قصيدة جديدة, يالله! تذكر العفريت يأتيك, ها هو قد نشر واحدة من روائعه.
( حبيبتي, إن لم تحبيني سأموت / لأنك أنت الحياة الجميلة / فما معنى أن أعيش بدون روحي يا روحي/ ويظل الجسد/ .....صدقيني, سأظل أحبك إلى الأبد).
لزوجة تعطل الفيضان والله! رغم ذلك تواترت على تحفته تلك الإعجابات وكلمات الإطراء, فمن قائل (الله على إحساسك يا شاعر) وآخر ( رومانسيتك الزائدة ستجعلك تعاني) وأخرى متحمسة ( من أجل المحبة عشقنا الحياة), أما هي فلم تكتب بعد, كانت مشغولة بلصق طابع دمغة من ريقها العذب, وكانت تتحدث إلى مواطن سعيد الحظ يتابع أصابعها الشارحة كالمنوم. نكاية في صاحبنا ورطت نفسي في السخافة وكتبت كلمتين للإعلان عن وجودي للمرة الأولى في هذا العالم ( يا 100ندامة ع اللي حب ولا طالشي), ارتفعت نحوي أنظار الزملاء ترمقني بقسوة ما أكد لي أن الجميع متابع دون مشاركة. ولم أكد أهز رأسي معتذراً حتى وجدت تعليقاً منها على قصيدته. (( المحبة سمو للروح وللقلب معاً, فلا يكون المحب كذاباً ولا خائناً, اللهم أسعد أوقاتنا بالمحبة). هذا النهار أزرق كما ينبغي ليوم خصم من راتبي, إنها تبادله غزلاً بغزل, ثم سقطت على رأسي دهشة جديدة, فبمجرد أن تكلمت شريهان دبت الحياة في القصيدة وتواترت عليها علامات الإعجاب والتعليقات من كل الموظفين, بدأها كبير الموظفين وأمين عام المحكمة.
- لطالما أعجبتني رومانسيتك وكلماتك الرقيقة
- ميرسي يا أستاذ سيد!
- أنت عنوان للرقة والأناقة
- شكراً أستاذ أحمد. أخجلتم تواضعنا!
حتى الحاجة عواطف في الخزينة تركت طوابير المواطنين وكتبت:
- الله عليك يا شوشو بدر منور
- كفاية كده يا جماعة, أحسن والله هصدق!
رفعت عيناً عن الهاتف فوجدت الجميع مبتسماً لها في بلاهة و هي تنقل بينهم عيناها بامتنان, ثم عادوا جميعاً ينظرون في شاشاتهم بنشاط يتمناه مواطن غلبان يرجو توقيعاً صغيراً من أحدهم. ثم جاء دور شاعرنا الهمام- صدقيني يا سيدتي, الحب هو طاقة الوجود, وكما قال زميلي ( نزار قباني) لو لم نجده على الأرض لاخترعناه.
- أصدقك تماماً, وأضيف أنه النور للعيون والكف الحنون في عالم مجنون!
وقبل أن يتزاحم عليها بقية الموظفين قررت أن أحشر كتفي وسط الجمع وأدس أنفي بين العبارتين الأخيرتين – سيدتي, وما فائدة الحب إن لم يكن هناك أمل؟! رفعت شريهان وجهها نحوي للمرة الأولى دون أن أنادي عليها, رمقتني معجبة وغير مصدقة, ثم نظرتْ في هاتفها ونظرتُ في هاتفي لأجد كلماتها المعقبة على قولي- (الحب هو الأمل ذاته, هو الغاية والطريق, لو أحببت لعرفت). تزاحم عليها الناس بعد ذلك فلم أجد فرصة لإعادة التعقيب, لكنني احتفظت بكلماتها كمناسبة سعيدة و كرقصة ثنائية, أول حديث يدور بيني وبينها عن الحب, إنها لا تمانع, هل أطلب صداقتها؟ ماذا لو رفضت؟ وضغطت على صورتها برفق, للمرة الثانية في نفس اليوم رفعت وجهها الجميل نحوي وابتسمت كالمستفسرة, مرت دقائق بعد دقائق ولم تمنحني صداقتها, لم تجاوبني على طلبي, بالرغم من علمي بوجودها على الفيس ومشاهدتي لتعليقاتها وما تنشره. إنها تتجاهلني عن قصد, لقد كانت نظراتها الجميلة نحوي لتوبخني ( حتى أنت يا جربوع!), ثم ظهرت على صفحتي أخبار جديدة عن حادث موتوسيكل لرجل من جيرتنا, نعرف بغضنا بالوجه فقط وأول مرة أقرأ اسمه كانت فوق صورته وهو في المستشفى وكان زميلنا الناشر يدعو الجميع لزيارته والدعاء له بالشفاء, أخطأت في قصدي وكتبت بكل بلاهة ( البقاء لله), فازداد خجلي أكثر ونمت على المكتب عاقداً ذراعي تحت خدي , بعد ساعة أفقت فوجدتهم يجمعون أوراقهم في طريقهم للرواح فأمسكت هاتفي بيأس فإذا به يضيء وقد تم قبول صداقتي, نظرت إليها بامتنان فكأنها ابتسمت و غادرتنا رشيقة متمنية للجميع مساء سعيداً, لكنني بأريحية قررت أن هذا السلام يخصني وحدي. في البيت تناولت الغداء واقفاً من أواني باردة وقفزت بحذائي على السرير مراجعاً كل أحداث اليوم, كل حرف من كلماتها وكررته خمسين ألف مرة, ثم تفحصت حائطها الشخصي. الغريب أنني في نهاية اليوم بدأت أظن كلماتها موجهة إلي دون غيري, فمثلاً من ذا الذي تصفه ب ( الرجل الذي يخبي نظراته عني وأنا أعلم ما تود قوله: آه لو تأتيك الشجاعة بدلاً من الابتسامة التي تقف بها أمامي كمن يحمل قهوتي الصباحية ثم تنصرف), ( الحب لا يعرف الفقر ولا الفروق فلا تخف مني... يا ليته يلتفت!), لكن رغم ذلك كنت أجد إشارات مناقضة كنت أتغاضى عنها مثل ( أحبك أكثر كلما ثرت في وجهي وعنفتني لأنك في كل مرة تستقبل على يديك أنوثتي الصارخة بحبك), وهذا كنت أنسبه لعموم الشعر والرغبة في الفصاحة. في اليوم التالي كنت أول الموجودين كعادتي وأحضرت شاحن الهاتف معي وتابعت اليوم وأنا سعيد, جاملتها بمجموعة ردود على منشوراتها القديمة, فكانت ترسم على وجهها المفاجأة كل مرة وتكتب شكراً رقيقاً),.ثم تشجعت أكثر وكتبت لها على الخاص ( شكراً على قبول الصداقة) وكالعادة أخرتني لنهاية اليوم ( يا خبر.. ده شيء يسعدني جداً,, مودتي لك), مودتي لك! مودتي لك! مودتي لك! الدنيا جناين خضراء والناس طيبون والحياة حلوة رغم الغلاء وقصر اليد, ورغم أنهم شقوا كل الشوارع لإصلاح خطوط الصرف للمرة الألف في مدينتنا الصغيرة, لكنني كنت أكثر استعداداً لتقبل الحياة , فقط إن كانت مودتها خالصة لي, عرجت في طريقي إلى المنزل على (خطاب) صديقي منذ أيام الدراسة, وأول عيل في مدينتنا اشترى له أبوه جهاز كمبيوتر, وقد تخصص حتى صار مبرمجاً وصاحب سايبر, جلس معي يعلمني مصطلحات الفيس بترو( اللايك- المنشن- التاج) وشرح لي طرقاً عجيبة في تغيير فنط الكتابة ورسم القلوب والوجوه الضاحكة وغيرها, ثم في النهاية أهداني ما يقارب ثلاثة آلاف صورة ما بين الدينية والشعرية والنكات اللاذعة, فخطفت الهاتف من يديه و انصرفت, لم أتناول عشائي وفتحت من فوري صفحتها لأجد قصيدة عني لا ينكرها إلا كافر قليل العقل, عنوانها ( الآن فقط التقينا)
(الآن يدك احتضنت يدي, قبلتني بعينيك, فطبعت على عينيك قبلة خالصة لك, إياك ثانية أن نبتعد), حبيبتي للهفتها لم تحسن الكتابة لكن هذه الكلمات كانت أفصح عندي من ( قفا نبك) فعقبت على قصيدتها بصورة (جنتلمان) جاثياً على إحدى ركبتيه ويحمل باقة ورد) عرفت بعد ذلك أنها تستخدم فقط لطلب الزواج لكنها رغم ذلك قالت ( شكراً على ذوقك ورقتك), وما إن كتب صاحبنا قصيدة جديدة في التعليق حتى خلصت له ودارت الكلمات بينهما سجالاً فاستحسن الناس مناقشتهما الشعرية عن (حفظ المودة في غياب الحبيب)... رغم ذلك فقد شجعني شيء ما في كلامها أن أرتكب فعلاً سخيفاً, كتبت لها على الخاص في وقت متأخر ( تصبحين على خير), ظهر عندي أنها قرأتها و لم ترد, منيت نفسي أنها ستتركني شيئاً من الوقت كعادتها متلهفاً قبل أن تجيب, انتظرت الليل كله أعد الشاي وأحرك أصابعي على الشاشة مثل كاوبوي يصوب ناحية الليل بملل و لم تجب نهائياً. وبخت نفسي, كيف لفتاة بنت عائلة مثلها أن تجيب على أعزب وسيم مثلي في ذلك الوقت من ؟! لقد أخطئت ووجب الاعتذار, وجب الاعتذار, وجب الاعتذار... وقّعنا أسمائنا للحضور في المكتب وجلسنا لكنها فلم تكتب هذه المرة شعراً, كان رجاءً من الجميع بالدعاء لوالدتها التي نقلوها ليلاً إلى المستشفى, هذا الخبر المؤسف لَضَمَ الناس جميعاً في هواتفهم بالدعاء لها ولأمها, ولما هممت بكتابة كلمتين فوجئت بصندوق الرسائل عندي ينير باسمها ( شريهان: آسفة على عدم الرد أرجو المعذرة لظروفي الطارئة), كانت يدي بطيئة وأعيد الكتابة برغبة أن أقول جملة تجمع كل المشاعر من حب وود وتضافر وإشفاق حتى انتهيت من بضع كلمات مهشمة أرسلتهم إلى الخاص ( لا عليك.. أنا في خدنتك.. متى احتجث صديق.. دعواتنا بالسقاء لأمك الفالية), لم أشأ أن أعدل الخطأ الإملائي كي لا أغيب أكثر من ذلك. لكنها تفهمت وأرسلت وروداً بعد لأي. وضيع فرحتي بالورود أنني أثناء محاولتي لكتابة جملة واحدة كان الشاعر قد رزع قصيدة كاملة في الرد عليها وكانت القصيدة في فضل الأم وحنان الأم, وسالت العبرات والرسائل المواسيات, واندمج الجميع في المحكمة حتى أنني شعرت بشفافية الجدران وقدرتي على رؤية الجميع, وبتواتر الأيام أو قل باعتيادي أكثر على الأمر أهملت قراءة الروايات ومشاهدة برامجي الأثيرة في التليفزيون, كنت أتابع كل شيء بنصف عين أو أقل بينما رنات البريد الخاص كانت تستدعيني جرياً إلى أي موضع تركت فيه الهاتف, هذا إن تركته من الأصل, وبدا لي أنني والسادة الأصدقاء نجلس دائماً متأنقين على مقربة من بعضنا في أي وقت من ليل أو نهار, أو كأننا نلازم مقصورات متقابلة في مسرح دائري نتبادل التحايا والانحناءات وفي المركز دائماً شريهان. وبالطبع صار إغلاق الباب دون المواطنين أكثر من ذي قبل, لأن الوحيد الذي كان يسارع في خدمتهم هو أنا وأنا لم أكن هنا, الشيء الذي جعلني مرضي الضمير ناحيتهم أنني نظرت ذات ملل من نافذة المكتب فوجدتهم أيضاً منكبين على هواتفهم, قاعدون وواقفون ومعتمدون بمرافقهم على الشبابيك القريبة والجميع مبتسم كأننا نمارس قدراً مرضياً عنه و ننفذ جميعاً إرادة علوية, وتساءلت ُ ماذا لو شبكنا خيوطهم بخيوطنا وصاروا أصدقاء لنا في قاعات التواصل الاجتماعي, ربما عندئذ تموت فكرة الروتين من تلقاء نفسها وتنحل, تخيل أن المواطن يتقدم بالطلب مزخرفاً بالزهور البنفسجية والعصافير ومزيلاً بتمنيات السعادة في منشور عام يمر على كل الموظفين في نفس اللحظة حتى المريض منهم وملازم الفراش, على ذلك يجب أن تكون الأختام قلوباً وعلامات محبة, لا داعي أبداً للدمغة والطوابع والملفات الترابية المعمرة,.لا داعي للأختام المفرقعة التي ترشق غضب صاحبها في الورق, ربما كذلك ستصبح شريهان هي الأنشط بين الموظفين وليست الأجمل فقط.
مرت الأيام على ذلك هادئة مبتسمة عامرة بالوعود, رغم أني وأنها لم نتجاوز حد المجاملات الرقيقة التي تحتمل أكثر من تفسير, لكنني كنت سعيداً بما تخصني به من كلمات أفسرها وفقاً لما أتمنى, زادت دربتي على الفيس وألفتي له, ففي الصباح نرسل الأمنيات ونستقبلها ونسمع عن ترقيات رؤسائنا فنرسل إليهم عبارات ودودة وصوراً ملونة, نبارك لأنفسنا كلما فازت أم أحدنا بقرعة الحج أو نجت من مرض, أو رزق هو بمولود ونتناول الأخبار اليومية الخفيفة مع شاي الصباح والبقسماط, ثم يبدأ كل منا في إلقاء نصيحة أو كلمة عصماء على الجميع, كنت أعلم أن حبيبتي لا تحسن الشعر مثل صاحبنا, رغم ذلك خصصت نفسي ناقداً لامتداح كتابتها وللتسخيف من كلامه, بعد فترة كانت صورنا تمثل غريمين على حبيبة واحدة وصورتها دائماً بين صورتينا, كل منا يكيل للآخر بفصاحة ثم يعود ليتودد إليها. وعُرفنا ثلاثتنا بالشعراء فكان الناس يفسحون لنا كلما بدأ الحديث يزداد تخصصاً, غريمان وحبيبة واحدة كان عليها أن تختار بيننا. من العدل أن الفتاة لا تبادر إعجابها فهذه مهمة الرجل , يكفيها إظهار المودة وعلى الرجل أن يكون أكثر جرأة. انتظرت حتى نشرتْ قصيدة لها عن البحر فكتبت في التعليق ( وما عليك لو تركت قدماك للبحر يقبلها.. وجلست معه ليأنس بك, ثم ماذا عليك لو احتضنته تماماً.. البحر يريدك كما تريدينه وأكثر), غابت كثيراً في الرد و كانت ثلاث كرات سوداء تتقافز أمام عيني مبشرة برد قريب لكن لخيبة أملي جاءني الرد من المتولي ابن خالتي المقيمين في مطروح, ظهر بجلبابه الرث وشاربه الغريب مبتسماً يقول ( خالتك بتقولك ابقى تعال صيف عندنا), وضحك الجميع علانية من جراء التعليق المفاجئ وأرسلوا وجوهاً ساخرة تبكي من شدة الضحك, بل إن أحدهم أرسل إلي صورة لممثل شديد النحافة يتباهى بعضلاته أمام البحر وعلى ذراعه عوامة كاوتشوك بيضاء. كدت أموت من كسفتي فانسحبت من المكتب. وفي المنزل قمت بحجب المتولي ابن خالتي عن صفحتي كي لا يراني ولا أراه إلى يوم القيامة, ليس وحده, حجبت كل الجزارين وأصحاب محلات الحدادة والمعارف الواهية, جهزت صوراً عائلية وسط أهلي المحترمين حسني الهندام, وبين أصدقائي في حفلات الزفاف وغيرها بحيث أبدو لها محبوباً من الجميع, غدت صفحتي للشعراء والرسامين والحالمين وكل من له علاقة بها, شريهان جعلتُ عالمي يناسبها, فبدت صفحتي وما عليها قطعة من حكايات ألف ليلة وليلة وهي الأميرة (وردشان) التي أحبت (ماندو) ابن الزبال, وهذا الدور للمفارقة قد شخصته ممثلة لها نفس الاسم -شريهان- وقت أن كان التليفزيون كل تسليتنا وحكايات ألف ليلة هي المخرج الوحيد من الواقع, تفرغت لها تماماً بالحلم والعلم, بل وزدت من جرأتي وأرسلت رسالات أكثر تغزلاً على الخاص فكانت تردها بأدب وتحوط على الكلام لتعيدنا إلى الصداقة, أي صداقة! ( هي بتستهبل!!), بعد ذلك وجدتها تتحاشى التعليق على منشوراتي وأمست شحيحة في الرد على الجميع, فانتشرت في المكاتب كلها كآبة زادت مشاجراتنا مع المواطنين واستدعاء الأمن , أصبحت تتحاشاني حتى على مستوى النظر لكنها تكتب, لمن تكتب, وممن تتلقى الرسائل, لابد أنه الشاعر ابن الكلب! في المساء انتحلت حساباً جديداً واختبأت خلف زنابق صفراء وأسميت نفسي عاشقة الشعر, أرسلت إليه طلب صداقة فقبله على الفور ومن دون تردد كلمته على الخاص, تحدثنا ساعة في الشعر وساعة في الحب وساعة في تجربة كل منا على حدا, لا أصدق أنني فعلت ذلك لكنه حدث, كان كتوماً في البداية ولكن بعد إصراري عليه عشرة أيام قال, ( لن أخبرك باسم حبيبتي يا عاشقة الشعر لكنني ذاهب غداً للقائها.. سنترك العمل والعالم لنلتقي). إذاً سيكون لقاؤهما غداً.. لقد خدعتني إذاً وبدون تردد أرسلت لها على الخاص كلمات حادة ( لا تعتذري الآن.. فأنا أعرف كل شيء), وعلى العام حملتُ أغنية لا تكذبي. أجابتني في نفس الليلة بكلمات لها نفس الحدة ( ابتعد عني وإلا ستحدث المشاكل) فلما رأت إصراري حجبتني نهائياً عن حسابها, أو كما يقولون ( لسعتني البلوك المتين) بحيث لا نلتقي ولا نتكاتب من جديد, وفي العمل كانت تمر بجواري خائفة و تكرز في خطواتها ثم ولتني ظهرها متشاغلة بالحديث مع إحدى الزميلات, كلما استدارت بوجهها وجدتني أتميز غيظاً, فلما طال ذلك نظرت في الساعة وحملت حقيبتها هاربة. لن أتركها, مشيت ورائها كل شارع وأنا متخف في الحوائط وفي ماكينات الصرافة, كانت تتلفت خلفها كل ثانيتين حتى بدا لي أنها تعرف بتتبعي لها, لكنها لم تستدعي بوليساً ولا أحداً من المارة ما جعلني أقل تستراً وأكثر جرأة في ملاحقتها. وأخيراً ظهر لنا من بعيد شاب له هيئة أخينا الشاعر وكان القطار يمر من بينهما سريعاً وهادراً فلم أتأكد من ملامحه ولا سمعت شيئاً من نداءاتهما, لكنني هرولت نحوهما بكل غيظي وكل البروفايلات في خيالي تشجعني على الانتقام من (وردشان) الخائنة, لكنني في النهاية لم أدركهما ولا أمسكتهما بالجرم المشهود لأنني في سبيل إقدامي سقطت كلية في حفرة صرف عميقة عرضها السماوات والأرض لم ألحظها رغم مروري بها كل يوم.. في المستشفى جاءني الزملاء كلهم إلا هي, جاءني الشاعر نفسه بصحبة الفتاة التي تعمل على ماكينة التصوير داخل المحكمة وقدمها لي ( خطيبتي.. شد حيلك يا شاعرنا الهمام لتهنئني بقصيدة).
- لم تأت شريهان؟
- أمها مريضة وقد ذهبت مع أخيها لمرافقتها في مستشفى بالقاهرة.
رغم جسمي المكسور ضحكت من كل شيء, ضحكت بجنون وبهوس وبهستريا أدهشت الحضور فظنوه من أثر المرض أوالتخدير, ثم تداركت نفسي وأنا أتابع جبائر الجبس الملتفة على عظامي فقضمت ضحكتي بائساً, رغم ذلك نظرت إلى هاتفي و طلبت من أخي الشاعر أن يصورني وينشر على الفيس FEELING SICK, وابتسمت للصورة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاص وروائي مصري