العبور مرتين

العبور مرتين
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 

 كانت الأسرة لا تزال متحلقة حول المائدة ذات الصحن الوحيد ، وقد جفف تماما من بقايا المرق العالق مثل زبد البحر على حوافه ، فأصبح غسله مجرد إهدار للماء .. تململ "سيدي احمد" متأهبا للنهوض ، فأقعده صوت نجله "عز الدين " دون أن يرفع عينيه صوب والده :

   - أبي !  سوف أتوقف عن الدراسة !

       ملأت العبارة فضاء الحجرة كأنها صادرة عن مكبر الصوت ، و أرغمت سيدي احمد على الرجوع من عالمه الداخلي ، و مشاغله الشخصية ، ليركز في المعنى الذي اقتحم عليه وعيه . استدار نحو عز الدين بحركة بطيئة جدا كأنه يحمل صينية على رأسه وصرخ:

    – ماذا ؟

  دام الصمت لحظات ترقب فيها الجميع تبعات هذه الجملة التي ظلت عالقة في الجو كرائحة كريهة . وعزالدين الذي تدرب كثيرا على هذه المواجهة ، خذلته جرأته و انعقد لسانه ، فصار متكورا على نفسه يحملق في أصابع رجليه العاريتين ..

انحنى الأب قليلا ليرى وجه ابنه المنكس ، و جرت على وجهه ابتسامة تفسر الأمر بمجرد مزحة و قال :

     – تفوقت هذا العام . و كلنا أمل أن تفوز بالباك السنة المقبلة ، و تقول لي .. قاطعه عزالدين و هو يرفع إليه عينين وجلتين :

    – ماذا أصنع بالشهادة ؟  لم يعد أحد يأبه للشهادات !! 

وزع سيدي احمد دهشته على أولاده بنظرة بليدة ، غير مصدق و تساءل :

    – ماذا يقول هذا المجنون ! ؟

    – أقول ما يعرفه الجميع . أصحاب الشهادات في أيامنا هم أحق الناس بالشفقة .. أنوي الالتحاق بمركز التأهيل المهني ، و أفوز بحرفة تسترني في المستقبل ..

تغلب سيدي احمد على غيظه ، و فك قبضة يمينه قبل أن يهوي بها على المائدة ، و أمسك بشعيرات ذقنه الرمادية ، يداعبها بين أنامله ، و قال بنبرة أبوية كأنه يعلن عن قرار :

   – اسمع يا بني ! ( مسد براحة كفه اليمنى على صلعته الجرداء كأنه يتحسس مصدر توتره ) أنت تخلط الأمور. إذا كنت تتحدث عن الرزق و المستقبل ، فهي أمور بظهر الغيب . أما أن تتوقف عن الدراسة ، فمعناه أنك تتوقف عن أن تكون إنسانا محترما !!

رفع عزالدين نحو أبيه عينين جميلتين تلمع فيهما يناعة الشباب ، و قال بوداعة متهم :

   – ولكن يا أبي ،ألا ترى ..

قاطعه سيدي احمد بعصبية و نفاذ صبر :

   – ماذا أرى ؟ ؟  أنت الذي لا ترى ما أنت فيه . لا نطلب منك معروفا . نوفر لك ما يلزم كي تنقذ نفسك ، و تصير محترما .. إياك أن تعيد على مسامعي هذا الهراء !!

أنهى كلامه و ظل نصف دقيقة منكبا بكل كيانه فوق رأس ولده ، شاهرا سبابته في الهواء كأنها عصا يلوح بها .. بعدها هب واقفا وهو يسوي قندورته بعصبية ، وقصد حجرته مخلفا سكونا تواطأ الجميع في صنعه ، فلم يشأ أحد كسره .

      تابع عزالدين دراسته ، وحصل على الباك كما كان متوقعا منه . فرح الجميع بإنجازه و لم يفرح هو. هذه الشهادة في نظره مجرد تأشيرة تسمح له بولوج عالمه المنشود ” كلية الاقتصاد “. كان مولعا بهذه الشعبة ، يريد أن يفرغ فيها كل نبوغه . اختار في التوجيه الثانوي قسم الحسابات ، و كان عليه أن يتحمل طول المسافة من حيه إلى ثانوية “ابن الخطيب” ، وهي الوحيدة التي كانت تضم هذا القسم : “قسم الحسابات” ، من بين الثانويات في طنجة .. لم تكن هذه صعوبة تذكر . تخطاها بمعنويات عالية ، وحصل في النهاية على علامات ممتازة ، و أصبح وجها لوجه أمام “كلية الاقتصاد”- حلم الأمس و كابوس اليوم- . أقرب جامعة تضم هذه الشعبة ، توجد بمدينة الرباط . و الأمر يحتاج إلى ميزانية لا قبل لأبيه بنفقاتها . صحيح أن أباه يتدبر أمر أسرته ، و يحول دون عوزها . إلا أن دخله محدود ، و ما يحصل عليه في عمله كممرض بالمستشفى الإقليمي ، بالكاد يسد الحاجيات ..

عندما يفكر عزالدين بهذه الطريقة ، يعذر أباه ، وينصاع إلى حسابات العقل و المنطق ، و يبدأ في التفكير و البحث عن بدائل أخرى تغنيه عن كلية الاقتصاد . إلا أن صورة والده و هو يصرخ في وجهه تلك الليلة ، حين أعلن إليه فيها عن رغبته في التوقف عن الدراسة  ،جعلته مسؤولا في نظره بشكل كبير عن هذا المأزق . أما بالنسبة لسيدي احمد ، فالأمر غاية في البساطة :

    – أمامك شعب كثيرة من العلوم و الآداب ، اختر منها ما يناسبك ..! من قال إن دراسة الاقتصاد فريضة ؟

        لم يكن من عادة الأب و ابنه الاستفاضة في الحديث ، وتبادل الآراء . تأسست علاقتهما بناء على معجم محصور جدا ، لا يكاد يجاوز كلمات من قبيل : خذ، اذهب ، أحضر ، افعل ، لا تفعل ..و ما يناسبها من ألفاظ الإستجابة  و الخضوع .. ليجد عزالدين نفسه في منأى عن أبيه ، لا يفاتحه بما يعتمل في صدره من حسرة على ضياع حلمه العزيز ، و انهيار صرح المستقبل الوشيك تحققه تحت قبة كلية الاقتصاد هناك في العاصمة .. ثم إن حرقة المرارة تتصاعد إلى حلقه عندما تحضره فكرة انقطاع السبل بينه و بين ” لمياء” ،   – زميلة الدراسة – تعود عبق القرب منها طيلة المرحلة الثانوية ، كان الحضور يقترن في ذهنه بلمياء ، و الدراسة حلوة سائغة ما دامت لمياء جزءا منها .. و هي اليوم تقصد الرباط مستأنفة مشوارها ، بينما يبتلع ألم فراقها في صمت ، كأنه يقف على مرفإ يتابع بعينين مكلومتين سفينتها تمخر مبتعدة دون رجعة ..

      لم يعد يظهر عزالدين في البيت إلا ما ندر ، و إذا ما تواجد ، كان ينزوي في ركن مظلم من سطح الدار ، يجيل بصره في صفحة السماء الحالكة حلكة محنته . بينما تركض الأفكار داخل رأسه مثل كلاب الصيد :

ٌ” يفرحون بالباكالوريا و كأننا في الستينات .. ماذا أصنع بشهادة تسمح لي بولوج كليات تلفظ كل عام عشرات العاجزين . أنفق فيها أربع سنوات من عمري لأحصل على شهادة أكبر ، يفرحون بها ثانية ؛ تزغرد أختي ، وتنفخ أمي ريشها زهوا أمام الجارات و الخالات .. و يتلقى أبي عبارات التهنئة هنا و هناك .. بينما أجد نفسي وجها لوجه أمام واقع نتن ، متفسخ كجثة في العراء …”

     وقف متكاسلا و اتكأ على حافة السطح بكفيه ، فلاحت له الأسطح الخالية إلا من بعض الظلال المتفرقة للغسيل المنشور ، تهدهده يد الهواء الندي وسط ظلمة الليل الأخرس . و بصق بكل قوته ، كأنه يبصق كل واقعه المريض ، وأفكاره البغيضة دفعة واحدة .. في هذه اللحظة بالذات ، مات عزالدين ، و ولد آخر مكانه . من رحم هذه الأفكار الموبوءة  خرج إلى الدنيا ، متنكرا لكل ما تعلمه و نشأ عليه .. قادته رجلاه إلى قنطرة حي  “بن ديبان” . لم يختر وعيه مقهى ” بزيقة ” ، وجد نفسه هناك بين زمرة من أبناء حيه العاطلين . ركز بذهنه على رقعة ” البارتشي ” علها تنسيه همه . تابع المرشح للفوز ، و مطارديه الثلاثة باهتمام بالغ .. امتدت إليه يد بلفافة الحشيش يعلوها دخان كثيف :

      – تذوق هذه !   إنها هي .. !  ( وأتى صاحبها بحركة من يده تدل على أن الحشيش درجة أولى )

أخذ عزالدين نفسين من اللفافة دون تردد ، فسرى مفعولها في دمه سريان المنوم . و أحس برأسه ثقيلا ينوء بحمله ، فتركه يميل إلى الخلف ، و أغمض عينيه لحظة ، متحسسا أثر الحشيش على دماغه .. كانت هذه أول مرة يدخن فيها مخدرا ، و لم تكن الأخيرة .. عندما عاد إلى البيت ، كان الجوع ينهش أمعاءه كثعبان يسري داخل جوفه . قصد المطبخ بخطى متهالكة محاطا بالعتمة . و تنبه إلى أن الوقت متأخر ، و أن حالته لا ينبغي أن يطلع عليها أحد . فعدل عن ذلك و آثر السلامة ، ثم قصد فرشته و تسطح عليها كالقتيل .

      لم تكن تلك سهرة انتهت بانتهاء السمر و تفرق الندماء ، بل كانت عتبة اجتازها عزالدين ، و دنيا جديدة دخلها . تحكمها قوانينها و أعرافها . دخل عالما من التكتلات ، تحركها أحقاد المدمنين و مكائدهم ، و يقودها التجار الصغار لأصناف المخدرات . و إذا كان هو اليوم خارج الدائرة ، فغدا سوف يصبح داخلها ، رقما جديدا يضاف إلى تلك الطفيليات الليلية ، يجتر المهانة و يتحملها مقابل قطعة حشيش أو حبة مهلوسة . و هو لن يتحمل حياة كهذه ، و بداخله تجري دماء حارة ، و نفس عزيزة . و طبعه عنيف لا يتحمل الإهانة ، تسعفه في ذلك بنيته القوية ، و جسارته التي لا تني أمام أي كان .. 

      كانت أمه تمده بمصروفه في صمت ، إلا من دعوات متقطعة له بالهداية . و كانت ظروف سيدي احمد في العمل لا تسمح بمواكبة ما جد من أمر ولده ؛ يداوم الليل و ينام النهار ، أو يعمل نهارا لينام الليل . وهكذا لم يجد عزالدين من يوقظه من غفلته ، و ينبهه إلى خطورة المستنقع الذي انزلقت إليه رجلاه في أوقات اليأس وانسداد الأفق .. و جاءت اللحظة التي كان لا بد لها أن تأتي ، والمحك الذي يكشف عن معدنه . حينما دخل المقهى شابان نحيفان ، لم يسبق له أن رآهما . ألقيا التحية ، فعلت أصوات الترحيب الحار ، و قام سيد الجلسة وسلطانها ؛ ” اسماعيل أرطان “، وهو من أصحاب السوابق ، يعرفه عزالدين جيدا و يعرف تاريخه الإجرامي، التصق اسمه بهذا اللقب لطول اتجاره بأقراص الهلوسة المعروفة  ب”أرطان” . و كان هذا لا يعرف من عزالدين إلا ملامح وجهه . فصاح به :

    – إي .. أنت .. !  أحضر كرسيين بسرعة !

تعود عزالدين على الاختبارات ، لكن هذا الاختبار كان الأول من نوعه . ولابد له على كل حال من نتيجة .. الرسوب فيه غير وارد . إنه انكسار و هوان دائمين . أما الصمود ، المواجهة ، فمعناه انتزاع التقدير ، وفرض الهيبة على الجميع ، داخل المقهى وخارجها .

كان عقله يشتغل بسرعة البرق ، و عيناه تدرسان الموقف وتتفحصان ما توفر أمامه على الطاولة استعدادا لما سيأتي .. فجاءه صوت أرطان أقوى من السابق :

    – ألا تسمع يا ابن الفاسدة  …؟ !            

        قفز عزالدين برشاقة غير متوقعة ناحية أرطان ، و انتشلت يسراه قنينة المشروب من فوق الطلولة ، وبعثرها فوق الحاجب الأيمن لغريمه بضربة محكمة تناثرت على إثرها الشظايا على الأرضية ، تتبعها قطرات قانية من الدم الحار ينسكب غزيرا من بين أصابع أرطان ، وهو يضغط على موضع الجرح مقوس الظهر، وصرخته تتردد وحيدة وسط السكون الذي صنعته المفاجأة .. وقبل أن يستفيق الجميع من وقع الدهشة ، صعد رجله إلى ذقن الجريح بركلة ضمنها كل غضبه ، فارتمى على الأرض يعوي بفم غطاه اللعاب الأحمر ..  وقف عزالدين وسط المكان تتفحصه النظرات ، وهي تتعرف إليه من جديد . لم يكن في هذه اللحظة ولد سيدي احمد التلميذ ، صاحب الابتسامة الهادئة ، بل صخرة تتكسر عليها كل رأس احتاجت إلى تكسير .. لم يتفوه بكلمة واحدة . كان رده عنيفا جدا و بدون تعليق .

       لم يأت أرطان بأي حركة وهو يغادر إلى خارج المقهى ، متكئا على النادل الذي هرع بإناء من الماء للمساعدة . بينما شيعه عزالدين بعينين يتطاير منهما الشرر ، و بيده اليسرى لا زال نصف الزجاجة يلمع بين أصابع قبضته العريضة . ثم تحرك نحو الشارع بخطوات هادئة ، مخلفا وراءه الكثير من اللغط .

     في لحظة غضب دافع فيها عن كبريائه ، انقلب عزالدين إلى اسم ذائع الصيت داخل” ابن ديبان” والأحياء المجاورة .   وصار له كرسي داخل مقهى “بزيقة” لا يجرؤ أحد على الجلوس عليه ولو في غيابه . و بدأت تتقاطر عليه مظاهر التعظيم أينما حل ، فتولدت بين جنبيه جرثومة التسلط و الكبر ، و صارت تتغذى من الرعب، يلمسه فيمن حوله ، ومن آيات التبجيل الكاذبة .. إلى أن تشوهت دخيلته ، و ركبه الغرور المريض ، فاستأسد و تمادى . ثم إن معركة خاضها عند الباب الكبير لسوق ” كاسا باراطا ” ، شهدت له بالجسارة النادرة ، وساهمت إلى حد كبير في ولادة عزالدين الجديد .

      في إحدى الأمسيات الهادئة من فصل الشتاء ، كان يتحلق بجانب المقهى حول سيارة ضخمة سوداء رباعية الدفع ، ثلة من الشباب يتوسطهم ” محفوظ ” . أحد أبناء الحي الذين غادروا إلى أوروبا مبكرا . لم تغير شكله سنوات الغربة ؛ رشيق القوام ، أقرب إلى النحافة ، برأس حليق يلمع كأنه كرة من نحاس . احتجبت عيناه خلف نظارة سوداء ، تناسقت مع سواد قميصه و سرواله .. مر بهم عزالدين ، فنادت عليه بعض الأصوات :

    – إي .. !  عزالدين .. !

التفت دون اكتراث ، فعلق أحدهم :

    – إنه محفوظ .. ألا تتذكره ؟

تقدم عزالدين نحو الجمع ، و سلم على الرجل الأسود الهيئة بابتسامة فاترة ، و صافحه :

    – أهلا محفوظ ! ( صافحه باستعلاء نال من كبرياء محفوظ ، فرد مذكرا بمقامه الذي لم يحترم ) :

    – أصبحت رجلا . ها .. !! لم تكن تتجاوز عتبة داركم عندما سافرت .. يبدو أنني تغيبت طويلا !!

ارتفع صوت محفوظ بقهقهة تحرض الشباب على الضحك ، فلم يتلق إلا بعض الابتسامات الخائفة . و شخصت الأبصار متوقعة رد عزالدين العنيف . فجاء صوته هادئا و مستفزا :

    – ما رأيك فيمن تقدم في السن و لم يصبح رجلا بعد ! ؟

انفجر صوت محفوظ بضحكة عالية مغالية ، خالطها سعال متلاحق ، انتفخت له أوداجه و امتقع وجهه . تريث حتى غالب النوبة المفاجئة ، و رفع عينيه إلى عزالدين بنظرة جادة ، انقلبت معها ملامح وجهه إلى صفحة جامدة ، ثم انفرجت أساريره من جديد و قال :

     – ماذا ؟ ..  تريد تريد أن تضربني ؟

احتار عزالدين في هذا المخلوق . يتلاعب بأعصابه صعودا و نزولا ، و لم يجد بدا من مسايرته ، فرد في سلام تام :

    – أنا لا أضرب أحدا !!

أدار ظهره مستقبلا باب المقهى ، فجاءه من جديد صوت محفوظ وهو يقترب منه بخطوات رشيقة :

    – إي .. عزالدين !  تريث . أريد محادثتك !

أمسك بساعده ينحيه جانبا ، و قد اكتست ملامحه سيماء الود كأنه ولي حميم ، بينما لمعت عيناه ببريق ماكر .. أصدرت المفاتيح في يده رنينا و هو يضغط على جهاز التحكم عن بعد ، فاستجابت السيارة السوداء مطلقة صوتا كالنقيق ، و أنارت مصابيحها . أسبغت هذه الحركات على محفوظ كثيرا من الزهو و الخيلاء ، بينما حاول ايجاد تفسير لما يجري حوله ، فتساءل بنفاذ صبر :

     – أين أنت ذاهب ؟

    – أريد فقط أن أحدثك على انفراد !

اتخذ مكانه إلى جانب محفوظ ، مأخوذا بجمال السيارة و المقعد المريح ، يحاول اكتشاف مصدر الصوت المنبعث من زوايا خفية : ” يا مولات الخمار . أعطني العنوان و الحومة .. ” . متوجسا من خلفية جليسه .. بدأ  محفوظ حديثه بنبرة هادئة :

    – اسمع يا عزالدين ! من يبرشن داخل بركة ماء ، يعد نفسه سباحا لأنه لم يعرف البحر .

   – هات ما عندك و لا تختبر صبري !

استدار محفوظ نحوه و نزع نظارتيه ، فبرزت عيناه حادتين صارمتين ، و قال :

   – أعلم أنك شجاع . تستطيع أن تدخل هذا المكان – وأشار إلى مقهى ” بزيقة ” – و تهده على من فيه دون أن تصاب بخدش .. ثم ماذا ؟ طال الزمان أو قصر ، سوف يأتي من يمسح بك الأرض يوما ما . صدقني ، لو كانت القوة تدوم ، لدامت لمن سبقك ! 

حرك عزالدين رأسه و طافت على وجهه ابتسامة ساخرة تمدد لها شارباه الطريان و قال :

    – لم أكن أعلم أنك واعظ !

    – أنت لا تريد أن تفهم ! ألا ترى أن السجن بعج بالشجعان الأغبياء ؟ ( سكت قليلا و هو ينظر إلى وقع كلماته على وجه عزالدين ، ثم سأله :

   – قبل يومين أزهقت روح هنا ، على هذا الشارع ، صحيح ؟ ( تابع حديثه و لم ينتظر إجابة ) :

   – قل لي ، من أجل ماذا فقد القاتل و المقتول شبابهما ؟  ها .. !

امتلأ عزالدين ضجرا من هذه الخطبة الأبوية ، يتلقاها من حشاش مثله . فأصدر زفيرا مسموعا وهو يمد يده إلى الباب يريد النزول ، فأمسك محفوظ بمعصمه و قال :

    – لم لا تستثمر هذه الشجاعة ؟ … أن تعبر البحر مثلا … !

تسربت كلمة البحر إلى دماغه و تردد صداها كضربة الطبل ، و تساءل :

   – ماذا تقصد ؟

   – أن تسلك طريقا تنفعك فيه شجاعتك .. أن تكسب من ورائها المال ..

فتحت هذه الكلمات أمام عينيه عالما بلوريا تراءت له فيه نفسه جالسا مكان محفوظ ، يقود سيارة فخمة ، على يمينه أبوه ، و في الخلف استقرت أمه مع باقي إخوته .. عاد من شروده القصير ، فوجد عيني محفوظ تتفحصانه في فضول ، فصاح به :

   – مالك تقطر الكلام هكذا ؟ أفرغ ما في جوفك !

حدق إليه محفوظ بتركيز بالغ ، وهو يعض على شفته السفلى ، و استحالت عيناه إلى كرتين ملتهبتين ، ينط منهما القلق ، و خرجت من فمه الكلمات باردة جافة كالنعي :

   – تعبر البحر معي ، بالزودياك .. ننقل الحشيش إلى كاديس ..

ظل عزالدين هادئا ينظر إلى المارة عبر نافذة السيارة و لم يجب . وانتظر محفوظ رده بصبر قليل ، كمدان يترقب النطق بالحكم ..كان يعلم أن القرار صعب ، و أن خطوة كهذه تحتاج إلى تفكير ، وهو خبير بهذه المواقف .. أمهله قليلا قبل أن يخرجه من تردده ، ضاربا على الوتر الحساس :

   – إنه طريق الرجال .. و إذا اخترتك أنت بالذات ، فلأنني خبير بالرجال .

أشعل عزالدين سيجارة ، وأخذ منها نفسا عميقا ، ثم ترك الدخان ينساب من أنفه كمبخرة إلى أن انقطع تماما ، وأعلن بنبرة واثقة :

   – أنا جاهز !  لنعبر البحر ..                                                                                         

 

          طنجة 3 غشت 2014

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون