فالغلاف حمل “صورة” جدار باهت وشخبطات طباشيرية، تستشعر تاليا رواية تحتجز عوالم تتضوع برائحة العائلة وأيامها، وهو ما نجده فعلا في المراوحة بين الماضي والحاضر عبر تقاطعات حكايا استرجاعية وأيضا وليدة الراهن..مشدودة جميعها بخيط الرواية ومكونة لنسيجها..
بيت غلاف رواية “منصورة عز الدين” يشي بتمركز كتابات/شخبطات تزيده إهمالاوتساؤلات، تجعلنا نسأل عن طبيعة/شخصية من يرسم كتابات غير مفهومة هل هو طفل أو به مس من جنون أو خبل أو ربما شخص لا يعرف حقيقة ما يريد كتابته..
وعلى ذات الغلاف، يأتي العنوان “ما وراء الفردوس”، كعنوان مستتر، يهبك التفكير والتخمين، مستثيرا إياك، ممارسا جمالية التأويل وارتكاب الافتراضات حول المقصود بماهية الماوراء هذا؟ وهل بعد الفردوس/الجنة ما وراء؟ أليس الفردوس بحد ذاته هو ما وراء الحياة الدنيوية، أي مكان يلي موت ما؟
نمضي لاحقا بالرواية نجد ما يشبه الإجابة لدى الشخصية الرئيسية “سلمى رشيد” في بوحها الكتابي.. “أغمض عيني فأرى عوالم أخرى، أبصر عالما متوهجا، أشجاره حمراء ونباتاته كذلك، بحاره وسماواته خضراء بدرجات متفاوتة، اللون الأزرق فيه هو مجرد ظلال للونين سابقين”.
هو فردوس ملون كما أسميه، أهرب إليه فأخرج من ذاتي وخيباتي، أصير أخرى،لا يربط بينه وبين شخصيتي الحقيقة أقل القليل “82 هنا بالإمكان الإقرار بطبيعة الفردوس المراد لكن يبقى سؤال قائم..ما هو الماوراء الخاص بهكذا فردوس؟
الدخول
بمشهد أول جاذب تستمر لعبة التساؤلات وتلغيزها…
نزول الحكاية للقاء القارئ بهبوط الشخصية الرئيسية سلم البيت الأبيض المشوه بتصميمه والذي انعكس على قاطنيه، هبوط وصفها كنمرة هائجة، ظهر معها في فناء البداية ثعبان أسود، فأر سمين وحرباء مشاكسة، لم تر أيا منهن، إذ هي في بؤرة الاستغراق بما عزمت عليه، متلبسّة بالعزم، ورغم معاودة الثعبان الظهور لكنها أيضا كانت بعيدة عن الشعور به رغم اعتباره شرا وخطرا دخل أسفل جدار البيت وبقي..بينما تركة/صندوق أوراق الجد المشيّد لشجرة العائلة، يتم حرقها، عقوبة نعايشها مع “سلمى رشيد” في إمحاء ناري يتمثل في مبرر: “كانت تراقب الصندوق وهو يتآكل كأن حياتها هي معلقة بفنائه وتآكله ..يتآكل أمامها رشيد، سميح، جابر، رحمة، ثريا، جميلة، هشام، لولا ويحترقون, تحترق هي معهم كي تبدأ من جديد بروح شابة وذكريات أقل ألما” ص 8. بينما تتكئ على شجرة اقتلعها اباها في ذات الوقت الذي تقتلع فيه ماضيها رغبة بالتحرر وبحثا عن مستقبل أقل إحباطا..
أي أننا نرى حواء وثعبانا وشجرة العائلة وآدم/الجد، لكنهم ضمن مشهد مغاير ولمبررات مختلفة تماما عن مشهد الهبوط الفردوسي المعروف..
يلي مشهد الحرق، حلم القاتلة والقتيلة، حلم سيكون له كامل المعاني في مصير ابنة رشيد “سلمى” وابنة صابر “جميلة” في مصائر تحوّرت واختلفت منذ سلب الثانية اسم الأولى، وتحقيقها لمستقبل مغاير وأعلى..
هكذا ندنو من الشخصيات دون كشف كلياتها، نلامسها وتنشب مخالب الفضول وأهمية الحدث ضمن صفحات الرواية، بحكايا مجتزأة، جاءت التقاطعات الثرية، والحقائق المتناسلة، والممكنات الكثيرة..تملأ فجواتها نوستاليجيا فائضة كان إشكالية لدى “سلمى رشيد”، ومن أسباب انهياراتها المتلاحقة.. وتمضي التقاطعات محملة بدم العائلة الذي يسري فيلبس الشخصيات أشكالها، زقزقة يلحقها سرب تغريد، تشابكات الغادين والرائحين في ومع عائلة الجد عثمان المكونة من 3 أخوة وأخت.
منهم تأتي التفريعات عبر رواية سلمى الابنه الصغرى للأخ الأصغر رشيد ..من جدتها رحمة القوية الصانعة لثراء الجد “عثمان” وانقطاعه عن عائلته ورعايتها لابن أختها الكبرى سميح المتسامح مع الغرباء في أداء طقوسهم المغايرة لدينه “عائلة الحرّيق رزق” وحدبه عليهم والمحرّض ابن أخيه المدعو “خالد” على تراخي أبيه في عباداته، سميح الذي تحمل أرضه 3 شجرات هن شجرات الحب والمعرفة، الحب الذي لم يأخذه كاملا من والدته لوفاتها، والمعرفة التي سعى إليها ولم يتحصلها، العارف بعلاج الآخرين حتى في عجزهم الجنسي وغير القادر على الإنجاب..
جابر: الشقيق الأول لرشيد وأب لهشام “ابن حكمت” الذي كان أحد أسباب تهشّم العلاقة بين سلمى وجميلة، جابر الذي كان هو أيضا سبب لانقطاع بشرى وجميلة عن حياة الفقر حين جبر قلب الأم وحزن الطفلة على الموت الفاجع لمعيلهما عامله صابر، هو أي جابر الجالب لثراء مغاير لعائلته في مغامرة “الطوب الأحمر”..
رشيد: المعلقة عليه الآمال من قبل أمه بالذات، بهي الطلعة والمحظوظ الذي قرر في لحظة عناد ترك الدراسة رغم تفوقه اللافت، ذكائه وعلاقاته الاجتماعية والنسائية، والذي جعل ابنته سلمى موطن آماله فتشابهت معه في لحظات العناد ومنها فك ارتباطها مع “هاشم”، ومكان إقامتها مع العائلة، وصولا لزواج بأجنبي، إلا أنها شخصية هشّة لا تثق بجسدها ولا قدراتها ولا حتى طريقها، داخل عملها تحرف النصوص، وخارجه تخط رواية بناء على طلب طبيبتها النفسية خالطة الأحداث، تغرق أيضا بالقراءة هربا للتحرر من شخصيات اختارت طرقها بالتغيير، بينما ظلت هي في شرنقته عاجزة، وتغوص أيضا بالأحلام ..
كل الحكايات تأتي عبر مستوى سردي للضمير الغائب، ضمير الماضي بامتياز، يتم استجلاب أحداثه من معين المافات وانقضى مع إحالات أقل لما هو كائن، منهيا أي التباس قد يظهره استخدام ضمير المتكلم والسيرة الخاصة للمؤلفة في تقاطع فعلي مع الشخصية المركزية العاملة أيضا بمجلة أدبية.
أما بالنسبة للحوار فقد تناثر قليلا معبرا باللغة العامية عن شخصياته وبيئتها بجدارة..
شخصيات ماورائية.
فهناك اشتغال على شخصيات ذات أسطرة خاصة، من العمة “نظلة” التي لسبب غامض تقع في انطفاء الكلام وإطاحتها على أرض الرقاد والصمت، لتنهض بشفاء وشرود في الكائنات وحدس وتفسير أحلام لا يخطئ. وصابر ذو الموت المفجع والقدري، الملاحق لمكان انتثار أشلائه، ولبيته وزوجته وحتى طفلته “جميلة” طيفا وحكاية.
وموت اختياري لا يقل وجعا، في موت الخالة “لولا” التي كانت شاردة، تائهة في واحة حب كوّر إثمه في جسدها وعالجته باسدال الزرنيخ لستارة النهاية..وإن بقيت قصة وأغنية.
شخصيات من الموت تحرك شخصيات أخرى، فـ”رشيد” جاء في وهنه ليحلّ في جسد سلمى منتقيا فترة مرضه ليوهنها، وانضوت ذكرى موت كرم في حكاية بدر الهبلة..
المكان.. أشجار ونباتات.
الرسم الحاذق للبيئة الريفية بحيوية جسدتها الكاتبة بكل إتقان وحرفيّة، أحد أهم العناصر الريفية من دون شك خصوصية أشجارها وطراوة نباتاتها ومن خلالها كانت شاهدا أساسيا على الأحداث..فأجمل الغرف في البيت “الأبيض” وأكثرها اكتمالا هي لـ”نظلة” بشرفة محاطة بالياسمين والجهنمية، شجرة التوت الشاهد على بكاء جميلة في فقدانها لأبيها “القربان”، حلم باقة نرجس وآس والفراق لحكمت، بستان الموز وأولاد عوف، شجرة ذقن الباشا التي زرعها الجد قبل وفاته بسنة، فدادين البطاطس والثراء للآباء والخسارات للأبناء، أشجار سميح الثلاث ونباتاته الشافية، شجرة الكافور والعبرة لمن لم يعتبر وأزهار الخوخ واليوتوبيا..
تأثيث أخير
الرواية العلاجية/ الشافية انتهت وقدمتها “سلمى” لـ”جميلة” القتيلة والسارقة لحياة الأولى وقد بقيت لديها نصف ساعة فقط التي أتت بها جميلة لسنوية رشيد، لتصبح سلمى خفيفة، خالية من حشو حمولاتها الوهمية، الحلمية، الوجدانية بتخلصها من إرث وعلاقات ومعاناة وتوتر روحها الهشة ووعيها المنكسر، خفة استدعت صدمها من مركبة في شارع لا نعرف كيفية وقوع الحادث ومدى عمديته من صدفته؟
وفي حين البداية تحققت بهبوط سريع وبقوة الشخصية الرئيسية وشراستها فإن المشهد الأخير حلّ معاكسا عبر صعود ثقيل وارتطام جنزير قديم يكبل ساق بدر الهبلة وهي تصعد سلالم بيت العائلة، تتذكرها سلمى وهي مسجاة على سرير ومكبلة أمام طبيبتها النفسية، وكل قرقعة جنزير تؤكد تلاشي سلمى وضعفها في الهذيان والتماهي والوهن المتكاثر فيها والتورط في فردوس الوهم والحلم انتظارا للحظة الانقلاب الحقيقية عليه.