في «أحمر خفيف» يرسم وحيد الطويلة حنينه الجارف إلى قريته/الرحم الأول، عبر محروس، الذي عاش بذراع واحدة مهابا من الجميع في الوادي المسحور، بيد أن توق عبد المقصود إلى النفوذ/السلطة، دفعه إلى التفكير في الاستيلاء على الوادي، وضمه إلى عزبة إسرائيل. وبين إغفاءة وإفاقة، تستحضر ذاكرة محروس شخوصا أقرب إلى الأسطورة، ينادي عليها في احتضاره..
تبدأ الرواية بمشهد محروس المتمدد على سرير في مستشفى بالمدينة، المتشبث بالحياة، حتى حار الأطباء في أمره، وفكر أحدهم في حقنه بحقنة هواء واحدة، لإنهاء معاناة شهور من ترقب موته، ويتوعد عبد المقصود، الذي أطلق عليه النار غدرا، وأراد أن يذله بأن طلب منه حتى يعفو عنه أن يقول: (أنا مَرَة).
في الخارج ينتظر أهالي الوادي. تجلس عزيزة العمشة العدّادة بعيدا مع صويحباتها، حتى لا تكون نذير شؤم، و يرمي العناني الغراب بفردة حذاء، فتطير العصافير بعيدا، ولأن ليل المدينة غدار، ولا أحد يموت في الوادي المسحور ليلا، يقترح العناني بعد تأمل ورقة شجرة العائلة، نقله إلى البلدة، وإعادته صباحا إلى المستشفى، بينما كانت ابنته إنصاف تدعوه إلى مغادرة السرير، مرددة أنها حذرته من الخروج. ويتدفق السرد منسابا بلغة شاعرية، عبر تقنية المونتاج السينمائي، راصدا حيوات شخصيات شفافة، تقاوم أعطاب الروح من أجل بهجتها النادرة.
ونتعرف على الشيخ فرج، الذي أعتقه محروس – وكذلك والده – من العبودية، وحين شبت النار في الغرفة ملتهمة إخوة محروس، التف الشيخ فرج في بطانية لإنقاذهم مرددا: «يا نار كوني بردا وسلاما..»، من دون أن يحقق أمنيته الوحيدة في أن يتزوج امرأة تقبل برجل في لون العبودية، الذي جعله يكتم رغائبه، ويهيم على وجهه تحت جنح الظلام، فيصادف أبو الليل، الذي يظهر – فجأة – كما العفاريت في الحكايا. ولأن محروس الأب الروحي لأهالي الوادي، احتضن الأيتام، وتزوج ثلاثا من أرامل إخوته، وغزلان التي ألهبت قلوب الرجال، التي كانت من نصيب شقيقه أبو العشم/ دون جوان الرواية. وإمعانا في السخرية – التي تعد من أهم ملامح التجربة السردية عند وحيد الطويلة – يرقص أبو الليل (يعيش شبه منبوذ ومنفي بسبب جذامه) في غرفته عاريا ضاحكا، مصفقا بيديه، حتى يسقط على فراشه: «أربع نسوان، وأنا مش لاقي واحدة»!
أما عزّت، ابن أبو العشم فيلاحق الممرضات في المستشفيات، ويبيع الوهم للبسطاء، زارعا مفردات إنجليزية في حديثه لإبهار السامعين بشخصه، ويحمل ابن عمه الفناجيلي حقيبته، داعيا الناس إلى أن يوسعوا الطريق للدكتور. والفناجيلي من الشخصيات الطريفة في الرواية. إنه يخاف من الموت، الذي أخطأه وليدا، وظل يراقب مجيء ملاك الموت في المقبرة، ليقضي عليه، حتى وجدوه لابسا كفنه، واقفا أمام المقبرة يصرخ: «إن كنت راجل اطلع لي!». وعندما حمل مع عزت النعش، رأته زوجة العناني صباحا وهي تكنس أمام الباب، فخرَّت مكانها.. فارقت الحياة، ومقشَّتها في يدها. لم يعد النعش فارغا، عاد بها، والعناني وضع المقشَّة في كفنها، كي تضرب بها عزت يوم القيامة.
وهناك أيضا شخصية ناصر، الذي حاول تقمص شخصية عمه محروس، زارعا الرعب في النفوس، شاهرا مديته التي لا تفارقه. وعند محاولته الاعتداء على عواطف، سمع الناس صراخها، ولم يجرؤ أحد على الاقتراب، إلا ابن أختها الصبي.. لم يؤازره أي رجل، فأفلتت الفتاة، واستقرت المدية في بطن الصغير. وفي لحظة جبن، وجد ناصر نفسه تحت النبابيت والفؤوس، وما تيسر من مناجل وأغطية حلل. ورمي بجوار جثة الصبي، ولفّ ببطانية عليها علامة: «صنع في العراق»، كانت تضم جثة أحد أبناء الوادي من العراق، وضمهما نعش واحد، ورفض الأهالي أن يصلوا عليه.
يضفي الكاتب مسحة من الطفولة والرقة والإنسانية على محروس، و يغوص في أعماقه، بخلاف الصورة النمطية للمجرمين والأشرار، ذات الرؤية الأحادية، التي يتداولها قسم من الكتاب. عندما طلب محروس من إنصاف ألا تنوح وهي تترجاه أن تموت بدله. وحتى أبو الليل يبدو لنا لصا ظريفا، مؤمنا بفلسفة العبث واللاجدوى، يظهر ويختفي، وبظهوره يزرع في تضاعيف الرواية عاصفة من الحيوية والبهجة، وغالبا ما يجعل كتاب القصة والرواية مثل هذه الشخصيات ثانوية. والسؤال الذي يفرض نفسه بقوة: ماذا لو كان أبو الليل هو الشخصية المحورية؟ هل سيتحمل القارئ مقالبه وطرائفه؟
قبيل النهاية، وفي صراع صامت، تتوق كل الشخصيات إلى أن ترث هيبة محروس، عبر المونولوج الداخلي. كل واحد منهم يريد أن يصير محروس الجديد، ويختم الكاتب روايته الماتعة باختفاء النعش من أمام المستشفى. وهنا يستحدث نهاية مغايرة، وهي وضع «تيتر» للرواية على شاكلة الأعمال السينمائية، وأرشيف للمقاهي التي كتبت فيها الرواية في تونس وقطر