” وحيد” منذ عرفته يتجسد لي مقطوعة موسيقية منغمة وحلوة ، قوية ومبهجة .. تتغير المقطوعة كل عدة سنوات ويبقى روحها ثابتا “البهجة والقوة “..
عرفته قبل عام من لقاءنا عن طريق روايته” احمر خفيف” آسرتني لغتها وعوالمها ووقعت في غرام شخوصها تلك التي تتدفق وتعزف في الخلفية مقطوعة كارمينا بورانو ..
كنت اقرأ نصوصه الأدبية هنا وهناك ، تملئني بالشجن والجمال ، خاصة نص كان يحكي فيه عن الغربة وعن صغيرته – ليلى- التي قالت في النص ان جناح العصفور انكسر صلحه يا بابا ” ذكرني هذا النص وحالته ببطل حياتي ، أبي والغربة الطويلة التي تسرح في أيامي معه هوه الذي سافر وعاد عشرات المرات في سنوات عمري كلها .
كيف كنت القاه بخجل من يقابل غريبا فأختبئ خلف الأثاث واتلصص عليه طوال ايام عودته الأولى وكيف يذيب هو كل ذلك بالمحبة والطيبة فندور لساعات ندق على أغطية الصحون ونلعب ونخرج ونعود ، لم نتشاجر ابدا أنا وابي طوال حياتنا ربما مرة أو اثنين على أمور تتعلق بالقلب لكن فيما عاد ذلك كان بطلي وكنت اميرته .
ووحيد بطل كل البنات في عالمه / عالمنا
منى وفيروز وليلى وأنا وإبنتي يسر التي تدور بعينها بحذر حتى تراه فتستسلم جواره بدلال أنثى لا تخطئ ، وحيد صديق اصدقائه والعشرات بل المئات من صديقاته .. الرجل الذي يتكأ كثيرا على قلبه ليحمله محبة الجميع وهمومهم يضغط طوال الوقت على القلب ليسع المزيد ، ليشارك الكل المحبة والإهتمام والنكات والحكايات .
قبل لقاءنا الأول كنا نتبادل الرسائل ، والمكالمات المبهجة .. كان وقتها في تونس ..
مقابلتنا الأولى كانت على سلالم ” نقابة الصحفيين .. كنا في الإنتخابات والمكان يعج بزحام محبب لي .. نزلت السلالم كلها جريا تشجعني ابتسامته ويده الممدودة ، لم يكن منطقيا أن يبدو هذا اللقاء الاول بكل هذه الراحة والألفة .. بدى لقاء اول بعد المئة مثلا ..
في تلك الايام كان “وحيد ” يعمل على روايته ” باب الليل ” وكان يتحدث معنا عنها أنا وبعض الاصدقاء المقربيبن لكلينا .. كانت تبدو حلقة الحكي صغيرة ومستديرة ودافئة بالحكايات .
رأيت شخصيات باب الليل والمقهي التونسي ، وهزائم الرجال وخيبات النساء قبل أن تطبع الرواية وتتجمع كل الافكار والحيرة والآنات داخلها .. كان يكتبها هكذا على الهواء ، تخرج الكلمات من فمه تتجسد بشر ، آراهم وأحبهم وأختبر أحزانهم وهزائمهم ..
لم اقابل روائيا تلبسه شخوصه ، وتسيل في دماءه مثل ” وحيد”
تكرر الأمر ذاته في الرواية المختلفة “حذاء فلليني” .. كنت أرى كيف يتشكل الديكتاتور ومطاع الذي صار مطيع ، كنت أتفرج على الجارة الحلوة وهي تنشر الغسيل على حبالها ، كنت أتذوق الدماء والقسوة في الحكي والكتابة .
وأشفق كثيرا على “وحيد” من كل هذا الإنشغال والتأثر .. وكيف تبدو الكتابة الحقيقية من لحم ودم ، كيف تبدو لعنة وخلاص في الوقت ذاته .
هو الذي يبدو أميرا لمملكة سرية ، شعبها كله من الكتّاب ، يدّور هو كتبهم ، فيحمل كتبا من هنا لهناك ، ويحكي عن الكتب الحلوة والكتابة الجميلة والبشر الرائعين الذين يجب أن يلتقوا بعضهم ، فنعرف بعضنا من كتب مررها بيننا ، ومعها المحبة الصافية لنصبح شعبا صغيرا سريا مولعا بالكتابة والصداقة .
عندما دخل ” وحيد” المستشفى في وعكته تلك ، تكومت طوال اليوم في مكان واحد بالبيت ، كنت افكر في ضحكته وصوت حكاياته وشخوصه العالقة بالمقاهي ..
كنت قلقه حد الرعب ، اهاتف أصدقائنا طوال الوقت ربما أعرف شيئا يطمئني ، حتى جاء المساء وأخبرني صديقنا إنه بخير وأن كل شئ سيمر .
تشبثت بتلك البشارة ، وعرفت أن المحبة التي غلف بها قلبه ستنجيه ، وان الحكايات ستبقى والإبتسامة والطيبة والكتابة الإستثنائية وتجربة الحياة العامرة ستمضى لسنوات كثيرة قادمة .
عرفت ان قلبه الذي يدق ويلتئم مع قلوبنا نحن أحبته واصدقائه سيستمر في عزف الالحان التي أسمعها وأحبها لتملأ الدنيا صخبا وجمالا .