يتسم أسلوب أونجاريتي بالاختزال الشديد والتكثيف ربما المبالغ فيه، لدرجة أن إحدى قصائده اقتضت من الدكتور عبد الغفار مكاوي ثلاث كلمات كاملة لترجمتها، وهامشا من قرابة صفحة لشرح الكلمات الثلاث، أو لتبرير ترجمته للقصيدة على هذا النحو:
أتجلى
في اللامحدود
تقول موسوعة كولومبيا مرة أخرى إن إونجاريتي تأثر في تكوين أسلوبه بالرمزيين الفرنسيين، حيث كان يركز كثيرا على القيمة الموسيقية للمفردة الواحدة، والقوة الإشراقية في الصورة الواحدة.
كتب أونجاريتي المقال إلى جانب القصيدة، وترجم إلى الإيطالية شكسبير وراسين وغيرهما، ومارس التدريس في جامعة ساوباولو في البرازيل قبل أن يقبل بكرسي في جامعة روما. وقد ظهرت أعماله الكاملة في اثني عشر مجلدا. وصدرت في القاهرة في مطلع عام 2007 ترجمة لأعماله الشعرية الكاملة استهلك الفنان التشكيلي المصري عادل السيوي ربع قرن من حياته في ترجمتها إلى العربية. وبرغم أننا أشرنا في هذه المقدمة إلى اثنين من مترجمي أونجاريتي إلى العربية إلا أن القصيدة التي نقدمها هنا ليست من ترجمة أي منهما.
***
سان مارتينو دِل كارسو
من هذه البيوت
لا يبقى شيء،
إلا بقايا حائط مهدوم
من كل هؤلاء القريبين مني
لا يبقى شيء،
أي شيء.
أما في قلبي
فلا يضيع صليب واحد
***
لا أعرف إن كان هذا طبيعيا، ولكنني كثيرا ما أقول لنفسي: كيف لم يفكر الشاعر وقد انتهى من قصيدته في أنه قد يكون من الأفضل أن يبدأها سالكا الطريق العكسي، أن يبدأ من حيث انتهى بالضبط، من البالونة المرتخية المتغضنة المثيرة للشفقة، ليصل إلى البداية القوية التي حركته، حيث البالونة في تمام إبهارها. غالبا ما يراودني هذا الهاجس الإصلاحي وأنا أقرأ قصائد بحاجة إلى شيء من السمكرة لينصلح انبعاجها.
ونادرا، نادرا فعلا ما أشعر أن الشاعر فعل هذا بالضبط. وهذه من المرات النادرة. تخيلوا معي القصيدة تبدأ هذه البداية القوية:
هذه القرية الخربة
هي كل قلبي
لتنتهي هذه النهاية الميلودرامية:
من هذه البيوت
لا يبقى شيء،
إلا بقايا حائط مهدوم
لا أعرف لماذا أتصور أن ثمة هذه النسخة الضعيفة من القصيدة، هذه النسخة التي تبدأ بقوة، ثم تعتورها الرخاوة سطرا بعد سطرا إلى أن تنتهي بشاعر من سادة القرن العشرين إلى مثل موضع شاعر بدوي بسيط واقف على الأطلال في ما قبل الإسلام. ولعل هذه النسخة موجودة حقا. لا أفترض أن تكون موجودة فعليا ضمن أرشيف لأونجاريتي في جامعة ما، ولكني أتصور أن يكون ذهن أونجاريتي قد عبرها في طريقه إلى النص الذي قرأتم للتو ترجمته. عبر بها دون أن يتوقف، عبر إلى ما بعدها، إلى ما يمكن أن تكون إياه، ووصل إليه.
***
في نسختها هذه، تحاول السطور بمشقة أن تكون قصيدة. تحاول الانتقال من شبه القصيدة إلى القصيدة. ظل أونجاريتي يستدر أرخص عواطف القراء بدءا من العنوان، فإذا كان العنوان لا يعني لنا شيئا كقراء عرب، فهو ليس كذلك للإيطاليين بكل تأكيد، فقرية سان مارتينو دل كارسو هي قرية إيطالية صغيرة تعرضت لدمار شامل ونهائي في الحرب العالمية الأولى (1915 ـ 1917)، وأونجاريتي كتب هذه القصيدة في عام 1916، ولا يزال الجرح حيا ينزف لدى الإيطاليين ويعد بمزيد من التدهور والنزيف. بدءا إذن من العنوان يستغل الشاعر أحاسيس موجودة فعلا لدى قرائه، يقيم قصيدته على أساس مقام فعلا لدى قرائه. ويستمرئ ذلك، في المقطعين الأول والثاني إذ يقول إنه من هذا البيوت لا يبقى شيء، ومن بين هؤلاء المقربين مني لا يبقى أحد. ولا أحسب القارئ ينتبه إلى أن هذين المقطعين مكتوبين في الزمن المضارع، وكأن الشاعر لا يزال يرى القرية قائمة ببيوتها وأهلها. لا أحسب القارئ ينتبه إلى ذلك إلا حين يتحول هذا النص من شيء يشبه القصيدة إلى قصيدة، وأي قصيدة.
يصبح النص قصيدة تليق بنسبتها إلى أونجاريتي مع المقطعين الثالث والرابع. يقول أونجاريتي في المقطع الثالث:
أما في قلبي
فلا يضيع صليب واحد
باستعارة بسيطة، يصبح القلب جبانة، وتمتد أمام عيني القارئ صلبان في كل اتجاه منتصبة وسط العشب محاطة في نهايات الأفق بجدران قلب ذلك الشاعر الواقفة حمايةً لكل هذه الصلبان أن تضيع. هكذا إذن نفهم سر كتابة المقطعين الأول والثاني في الزمن المضارع. نفهم سر الحضور الدائم لما زال واندثر. ويأتي المقطع الأخير:
هذه القرية الخربة
هي كل قلبي
ست كلمات فقط، تضيف إلى القصيدة شحنة كانت بحاجة إليها فعلا، تحيل الشاعر من شاهد إلى مفعول به، شأنه شأن القرية وبيوتها المهدومة وأهلها المغدورين، يفقد الشاعر مكانته الأولمبية، يفقد حالة المحيط بالشواهد، الحافظ لكل ما مضى أن يضيع، وينزل إلى الأرض معترفا بأنه لا يحمل داخل جسمه إلا الخراب، فما قلبه الحافظ للصلبان جميعا إلا القرية الخربة نفسها.
لو أنكم تأملتم أنفسكم وأنتم تقرءون هذه القصيدة، للاحظتم أنكم أولا تنظرون إلى البيوت وقد تهدمت، ثم تنظرون ثانيا إلى البشر وقد قضوا نحبهم، ثم تنظرون ثالثا إلى القلب المليء بالصلبان، ثم تنظرون رابعا وأخيرا إلى القرية كلها وقد خربت فصارت قلبا ينبض في جسد شاعر. أربع لفتات فقط، كل منها في اتجاه، كأننا في قصيدة كهذه ننظر إلى المشرق والمغرب والشمال والجنوب، وماذا نرى في جهات العالم؟ ليس سوى الخراب. أو …لماذا لا يكون الأمر غير ذلك؟
لماذا لا تكون غاية هذه اللفتات الأربع أن ترينا أنه لا شيء يخرب، لا شيء ينتهي. كيف وقد رأيناه؟ كيف ونحن باقون لم نزل؟ أليس باقيا في مكان ما منا؟ أليس الآن، بصراحة، أقرب إلينا من أي وقت مضى؟