نهاية

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد الرحمن أقريش

الزمن، 1974.

المكان، القرية، غير بعيد عن المحيط الأطلسي.

الأصيل، جو ربيعي جميل ودافئ.
جلس الرجل بهدوء على حجرة تحت شجرة الأركان العجوز، أشعل سيجارته السوداء، امتص منها نفسا عميقا، شعر بخدر لذيذ يسري في تفاصيل جسده، أغمض عينيه، استسلم للحظة بياض قوية، حالة تشبه الغيبوبة…
راح يسترجع شريط حياته في صور سريعة ومتلاحقة، صور بالألوان، بالأبيض والأسود، وأخرى بالرمادي.

الصورة الأولى.
طفل صغير برأس حليقة وضفيرة مفتولة بخيط من الصوف الأحمر، يمتص إبهامه الأيسر، ويمسك بيده اليمنى جديا صغيرا يحضنه إليه.

الصورة الثانية.
طفل يمسك كرة من الخبز المعجون بين يديه، ينفخ عليها بقوة، فتتطاير الأجسام الصغيرة للنمل، يأكل منها قضمات صغيرة، ويضعها في مكان مكشوف لكي تقتات منها الطيور والحشرات.

الصورة الثالثة.
أطفال بأعمار متقاربة، رؤوسهم حليقة، عليها قبعات ملونة، يغادرون الجامع جريا، تعبث الريح بجلابيبهم، يتطاير الغبار الأبيض تحت أقدامهم الصغيرة وهم يصرخون بفرح من تحرر من قيود قاسية.
تلاحقت الصور بسرعة.
حفل زواج من زمن مضى، سيدة شابة، متبرجة بشكل بدائي، وبجانبها رجل خجول يلبس الأبيض.
رجل في مقتبل العمر، قوي البنيان، يرتدي زي العمال الأزرق، يركب دراجة هوائية، محملة بصناديق خشبية، يجوب المدينة، ويصيح.
– سرديييل…ساركالا…سردييييل…ساركالا…سرديييييييييل!!
عندما عاد إلى نفسه، أوقف شريط الذكريات، استحضر اللحظات القليلة التي ذاق فيها طعم الحياة والسعادة، ابتسم، نصف ابتسامة حزينة، انمحت، لم تكن ابتسامة، كانت تعبيرا مبهما، شيء يشبه الألم أو الامتعاض.

تساءل بداخله، لم لم يعد بإمكانه إسعاد نفسه؟
سحب نفسا آخر من سيجارته، حبسه للحظات، ثم حرره، أخرج الدخان على دفعات قوية ومتتالية، أرسله بعيدا من فمه وأنفه بالتناوب في حركات متناغمة وبطيئة.

ثم في لحظة ما، بدا وكأن فكرة تولدت بداخله.
خلع جلبابه، أخرج مقصا صغيرا من جيب بنطلونه، وراح يقص من الجلباب أشرطة طويلة، شدها إلى بعضها، فتلها، صنع منها حبلا متينا مشدودا بقوة، اشتغلت أصابعه بمهارة، صنع أنشوطة بعقدة محكمة ومتحركة.

عندما عاد إلى سيجارته، رفعها إلى شفتيه، أحس بحرارتها تلهب أصابعه، سحقها ودفن عقبها في التراب.
وأشغل سيجارة أخرى.

نهض بهدوء، صعد إلى أعلى الشجرة، شد الحبل إلى عود قوي، دلاه إلى الأسفل، عاد إلى مكانه، سحق سيجارته، أشعل أخرى وراح يتأمل الفراغ.
بين الحين والآخر يبتسم ابتسامات جامدة، يقطب، يزم شفتيه، يصدر همهمة غامضة، يلوح، يشير بيده وكأنه يخاطب شخصا ما!!
هبت ريح خفيفة من جهة البحر، انتبه، كان الحبل يتحرك والأنشوطة مفتوحة، سحب نفسا أخيرا من سيجارته، سحقها بحذائه، قام بخفة، صعد إلى أعلى الشجرة، توقف هناك للحظات، توقف بهدوء وكأنه يستوعب الموقف.

التفت، إلى اليمين بدت له القرية صغيرة وبعيدة، إلى اليسار يبدو الأفق مفتوحا وممتدا.

ظل جامدا للحظات، بدا وكأنه يفكر أو يقرر أمرا ما، أدخل رأسه في الأنشوطة، سحب العقدة، تأكد أنها مشدودة بقوة، ثم هوى بجسده إلى الأسفل!!
مالت الشمس نحو المغيب، فقدت حرارتها، تسربت خيوطها الصفراء تخترق الغابة الكثيفة، في الخلفية بعيدا يسمع هدير البحر وصوت طائر (الأووك) المشؤوم يمزق الأفق!!

 

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال