حسين عبد الرحيم
كانت شياطين الدنيا قد قامت وتجلت، بزغت كل ظلالي، وبت أفكر في مصير عاصم ونهاد وحكمت عجمان زوجتي، أقلب في صوري القديمة، لقطات عدة تجمعني بنهاد، دائما هي على يساري، تشبك ذراعها الأيمن في رسغي. تلفه وتلفني وندور سويا، تدور بنا الحياة. وتفرد أصابعها النونوالمنمقة خلف ظهري تحوطني، أحاول أن أستند على كتفها فتتشبث بي وتنفر، تتقدم وتتراجع هكذا هي نهاد دائما.. عكس عاصم وفريدة، التي دائما ما تطل في وجهي بحبور ودفء تتلمس ثمة عواطف مشبوبة بأسى ما أو ضحكة أو نظرات توديع تخرج مني بغصة لا أجد تفسيرا لها..لماذا أتخيلها دائما تضحك لي نفس الضحكة الحانية وهي قد صعدت بروحها لرب رحيم ؟!!
قصفت عمري قبل الأوان بأوان.. نسير على كورنيش الرمل كنا نتطلع لآفاق مبهجة رغم هبوط الغيوم وثمة ظلام بعد المغارب ورؤى غير محددة لعوالم جغرافية لا يبين إلا حسها المفرط بحدس يهيج في دمي ويحفز ملكاتي على الإنطلاق إلى منتهى كل فكرة على حده. حتى فيما يخص الطريق..طريقي وليس طريقا ركضنا فيه كثيرا….أنا وهم.. طريق واحد وحيد متلاشية نهاياته ولكنها يسيره، تنحني نسبيا، لا باتت تشبه ممرات حلزونية عندما بدأ الموج يطفح قافزا من فوق الصخور الصماء التليدة..حكمت عجمان تعجبها هذه اللقطة كثيرا، فبعيدا عن كونها هي التي التقطتها في آخر خريف زرنا فيه الإسكندرية بدعوة للتكريم من قبل وزراء الثقافة العرب وتلك الفعاليات الهشة التي تناولنا فيها الكافيار على صهيل الأحصنة في ستانلي بعد منتصف الليل، إلا أنني فزعت ليلتها من جلسة فريدة قريبا من الصخور، زاحفه لمناطق زلقة قبل أغوار ونتوءات وأخاديد تطفو في خيالات جهنمية، أفكر الآن في مصير الرحلة..
61 سنة.
لم أزل حتى لحظتي هذه عاجزا عن التوجه لطريق سوي يتواءم وهواجسي واحلامي وطموحاتي، بل آمالي، هي آمالي إذن الضائعة في تفاصيل روح غير سوية تتأرجح مابين الخشية والتوق والبوح والصمت، نفس نزقة لاتعي تفاصيل لخارطة الكينونة، لطغيان الآمال العظيمة التي لاحدود لها ولا تفاصيل ما محددة أو معلومة، تسطع الأنوار ويبزغ ضوء لنهار يافل سريعا، يرتسم في هالات واخيلة شييطانية فيصبح محض هراء. هروب من روتين حياتي قاتل ومهلك. كالعادة، أحمل كاميرتي وصوري وحلماً وحيد ا في الفوز بجائزة “دريم باراديسو” في اللقطة الفوتوغرافية. أفتش في معالم خطاي بدقة ولكن هيهات، بعد أن فر العمر وانسابت العقود ما بين ليال ونهارات مزدحمة بأفكار عظيمة عن فكرة التكوين في الصخور وتشريح الجسد وجمال الأنثى وفتنتها وكل ما انقطعت بهن علاقتي بسبب نزقي وجنوني وخوفي من الجنس الآخر بعد تجربة حب فاشلة،ومرشحات تخص لقطات بعينها تمس حياتي، حلمي بالولوج داخل رحمها.
من كنت أحب، نهاد، هايدي، داليا، أمي
أين أمي؟!!
تلك الظنون، وهذا الجنون عن جدوى أن تحب ما تعمل وتهوى حتى النفس الاخير..حكمت تخطرني بسقوط سقف حمام منزلنا في القاهرة بعد أن هاتفتها جارتنا في الدور السابع..أنظر ميدان سعد زغلول، تمثاله..عيسى الدباغ. ريري تعود بعد نصف قرن لتثبت الألم والذكرى بداخلي، أطياف خريف في طيف مغارب يودع النبي دانيال وصمت رواد مطعم محمد أحمد ونعاس يغشي الأعين في هدوء وزحام وجلبة مباغته على صوت لص يخطف السلاسل الذهبية من رقاب الفتيات وسط المنشية. صبي ينسى نفسه، يتوه في الزحمه، في الخامسة عشر من عمره كان. يخطو قبل قصر المنتزة. وترتج ذاكرة الخلل بمضايق وهوات وفتوحات جمة، في الطريق.كان آذان العشاء من مأذنة المرسي أبي العباس، في قبضة اليتم……
في فراغ خارطة الشوارع المحيطة والمجاورة الخالية من البشر إلا صوت الترام يطحن الوقت في ذاكرة محلية للعائش في زمن آخر. تلك الخنقة في بيت الله، منزله تخصني، تلبد في ذاكرتي منذ عقود تروح وتجيء، تردد هواجسه وحبه وخوفه، عشقه، خبله، تكرار الجنون. ومسه، صموده المقرف وإصراره على السير في الطريق حتى النهايات، أسأل إيقاعاتي الداخلية، هوائي. يكره الرتابة ويزرع الاحلام ويمقت الفقر قبل أن يخشاه، نصف حياته محض خيال…، أتحسس عظام وجنتاي في مرآة المتروبول، وقت الفجر، وصرخات الموج تهدد السواتر الصماء العالية، تهدأ العواصف في وسط الليل في ليلتي هذه الخريفية العتيقة، أعود لإستانلي، أين مني نفسي، وجودي، أحلامي، لم أعد املك إلا نصف رأس محشو بالهواء، والآخر بأدخنة فاسدة صبغة الدهر، خالد السرجاني يحدثني بعد منتصف الليل بنصف الساعة، غريب صوته، نبراته، مخارج الكلمات وقت إستقبالي لها عقب خروجها من فمه وقد تطايرت الأحرف مابين فمي المفتوح عن آخره وأذني المشوشة وأنا أفر للجانب الآخر من الكورنيش لعطل ما في شبكة الإتصالات، خالد ينبح، وضيقي يزيد، أسمعه ولا يسمعني، أزعق دون مجيب. الهواء يصدر صلصلة في الفراغات من حولي، وونات إطارات الكاوتشوك في حالات توديع بلا عودة تقصد قلعة قايتباي،
صنعه الدهر، بكامل الإرادة مشيت بعنف الرغبة الرجراجة، أين أبي، أمي، شقيقاتي، أخوتي،..(براديسو و فن اللقطة المعبرة.150 ألف دولا تقدمهم مدريد للفائز الاول من العالم الثالث،في لجنة مشكله من كافة رواد فن التصوير في الغرب الاوروبي.أتأمل إسمي في البطاقة المنتهية منذ شهور دون دراية.أتردد في إبرازها لموظف الريسبشن وقتما لفحتني وتطوحت بها..رائحة ماريا القادمة من زمناآخر بحضور حسي اثير بدا هادئا ثم يتجلى بجذوة وله مريب وغير مستوعب، بالتاكيد أنني قابلتها في زمنا ما قادما أو رحل..قدمت باتيه لفريدة والكورواساه لعاصم وتجاهلت زوجتي فالحقتها بكوب من عصير الليمون الفريش.تجلت في سماء أبو قير وطافت بالقلعة وزادت سمواً وباتت تضيىئ الفنار القديم في وحدته ووشوشات الموج المتهادي من قبل إيتينيوس، بت اتتبع مسار الغبار القليل الذي هاج قبل الكورنيش وقت أن صرخ بعض المارة على أثر غرق شاب غريب كان يسير وحده منذ ساعات طويله ليقول القريب من موقع الحدث….،_ رأيته كثيرا في هذا المكان في صحبه فتاة تشبه قمرا في المحاق وكانا دائما ماينهرا بعضهما البعض، المؤسف أنها هي التي كانت تهدد برمي نفسها في البحر منذ سبعة ايام في نفس المكان..احدق من بعيد لوجه سعد وحذاءه وهو يشير للا شيئ بأصابع واثقة..اعبث بشعر رأسي، أتطوح قبل المنشية..اتخيله وهو يحلق مع النوارس، في العاشرة ؟!!،يهوي مع الطير في مدينة الميلاد الساحلية.العشر الاواخر من سبتمبر..يعود بالذاكرة لوقائع الحادثة…………………
…؟!! بمقابر الجميل.من يريد قتل اخيه، وأخيه ضرب من ؟. وهرب في الليل فارا من بلوكامين المناخ..تلك الاضواء الباهرة التي تكشف عظام الموتى، شجت رأسه طلقات الرصاص المصوبة بدقة ناحية الهدف الذي اقتحم القبر ودخله دون فزع تحت أعين ناصر الاقرع المخاوي. أخشى القاتل الهارب…أنا حسن كبريت وهذه رأسي يابك ؟!!.. مليئة بالاخاديد والنتواءات.والبروز المنفرة. لا تضربني يا بك.فلست بقاتل..، أنا القتيل يا بك ؟!!
20 سنة مروا منذ ليلة الحصار..طلة أخيرة لصورتي في بطاقة الرقم القومي. ملامح العشرين، الثلاثين، الاربعين، لافارق، يزيد الإنقباض في الاصل ليطفو على الفوتوغرافيا.في الرقم القومي.سألتقط لقطة المسابقة من هنا من أعلى، ستصورني حكمت من أعلى وأنا ممددا فوق سرير المتروبول في جناح ال في v a b. شريطة أن تفتح النوافذ الجانبية وتجرب ان يحط السمان على برج المراقبة القريب من الشرفة المطله على الشاطيئ. ستصورني اللقطة الأخيرة وقد قررت أن تقطع علاقتي بكل ماكان أولهم عشقي لنهاد، وهذا الحلم الطارح لجسدها الأشقر وقت أن زارني هوى الخريف ودق نافذة البحر، تتعدد زيارات الحبيبات فأتحسس جسدي والوهن والعمر الذي ولى، يظهر شبح حسين الصومالي كثيرا في ليالي الأخيرة هاهنا، قرب الأنفوشي، يتوكأ على عصاه ويضحك فأسأله عن ساقه اليسرى المبتورة في الحرب الأخيرة، يضحك ويبكي في آن، ويعاود الظهور في شوارع الأسكندرية كل خريف، واحسها على الشاطيء يمشي وحده بموازاة الكورنيش، ينادي على رفاقه ويسأل ربيع عن ماحدث لثالثهم في هزيمة يونيو، هو يزورنا منذ نزولنا بالأوتيل قادما من البحر، ينظرني صامتا في ود وكبرياء، يذكرني بحكايات الخريف وعتاقته في الذاكرة.، الرؤس المدببة تأكل في رأسي، تجول في يافوخي السيرة…من أنا:
( حسن كبريت يا بك..كبريت يا ماريا، نعم حسن كبريت. لماذا تضحكين هكذا ويختتم الحبور والدهشة بدمعك المنثور على خديك.. انت حقلي وزهرة العمر القادم نهاد
. آتيتك خلسة، بمهل وتروي بعد فراغ الصبر وإنتهاء الرحلة يا من تشبهين وهج الشمس في نتواءات زهرة العباد في حقول الله المتخيلة،إلتقتطتها كاميرتي قريبا من حدائق الأوكروبول بعيدا عن كريت.وأرسلت صوررة أخيرة لضحكتك قبل الرحيل.فتشت في جيبي عن علبة سجائري..المارلبورو الاحمر تشتعل سريعاً، تلتهم في دقيقتان ونصف.واحدة من اخرى في ضباب ماقبل الفجر ونثار الندى في ميدان المنشية..الادخنة زرقاء بعد الغروب في الزمالك كنا، بعد الغروب، قبل العوامة 70، يضربني الزمان بسياطه فأتوه، اين مائي وصفحاتي، الطمي يحجب رؤية النيل…
أسأل الأمكنة وازمنتي والاسفار والطريق، اين عمري مما حلمت فلا اجد إلا لقطات غائمة × الأبيض والاسود ورائحة ملابسهن الغارقة في الحنين، وأصوات لذاكرة الهدر.