نصوص نورا ناجي.. سباق دائم، وعن مؤثرات الأبطال

نورا ناجي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد أسامة

يلفت النظر في أعمال الروائية المصرية نورا ناجي أن معظمها له بصمة واقعية واضحة، كما نرى اهتمامها بنقل لقطات من حيوات الناس وظواهرهم الاجتماعية، ومن ثم تشريح ما فيها من هموم ومشاعر مشتركة أو متباينة دالة على صراع ما. والمثال الواضح على ذلك ما سطرته الكاتبة في روايتها “سنوات الجري في المكان” والذي عكس أمامنا الهم الذي أحاط بجيل يناير، وكذلك مشاعر الإحباط وفقدان المعنى بوصفهم أنفسهم بأنهم يجرون في المكان. ومنه نرى عرضا للصراع بين الاستسلام لتلك الصفة وبين الرغبة في التحرر وصنع معنى جديدا لحياتهم.

-ومن خلال اقتراب الشخصيات من الواقع، تنقلنا الكاتبة لصراع له أثره في حياة البشر، قادر على تحديد حركة الإنسان واتجاه مساره، بالإضافة إلى تمهيد مصيره. يبدأ بمؤثرات متعددة تمثل نداءً للشخصيات لخوض تجاربهم. وبغض النظر عن طبيعة تلك المؤثرات -سواء كانت ملموسة إثر وفاة شخصية سعد، تجاه بقية أبطال رواية “سنوات الجري في المكان” ، وكذلك ما سردته الكاتبة عن أثر الاعتداء الوحشي التي تعرضت له فيرجينيا وولف في كتابها “الكاتبات والوحدة”، أو شبه معنوية ناتجة عن تراكمات مثلما سُرِدَ في نفس الكتاب عن أثر تشوش إيلينا فيرانتي تجاه معنى الأمومة- فإنها تشكل قوام الصراع الذي تتقاسمه جميع الشخصيات. وهو دور الشخصية نفسها تجاه المؤثر. فمن الممكن أن تكون فاعلة تحاول التغلب على المؤثرات وتحقيق الإرادة المطلقة كما عرضت الكاتبة “في نفس الكتاب” تغلب فاليري سولاناس على سلطة مخرج العمل ورفيقها المستغل بقتله كعلامة على التمرد. أو توجيهها لصالحها كما فعلت الكاتبة نفسها “في الكتاب ذاته” باستخلاص تجارب الكاتبات ومعاناتهم المتقاطعة مع حياتها وأزمتها- تجاه مؤثرات تغذي الإحساس بالوحدة ومن ثم التلاشي-في توجيه تجربتها وإعادة النظر في مفاهيم الحياة.

❞ لكن ما حدث هو أن وحدتهن أحاطتني كحلقة أمان، كشرنقة دافئة، اكتشفت نفسي مرة أخرى، وأعدت النظر في تفاصيل كنت أحسب أنني نسيتها، اعترفت بأشياء لم أجرؤ على التصريح بها، وتفهمت لحظات ضعفي وحزني وقسوتي، تعاطفت مع جانبي المُظلم، وتمكّنت من إدراك معنى جديد للحياة… ❝

‏-من كتاب الكاتبات والوحدة

-قد نجد الشخصيات في بعض الأحيان مفعولا بها. أي لا تبدأ حركتها بطول الحبكة من تلقاء نفسها، بل يلزمها مؤثر أو نداء سلطة ما تجذبها وتشكل وجدانها، وتشبعه بمشاعر وتحولات مناسبة. فتتحرك في رحلتها بمسارات دوارة حول ذلك المؤثر كأنها تطوف به. متضحا ذلك في العلامة المميزة شخصية فلك “بنات الباشا” -المقلدة على الدوام حركات أبيها والمتبعة لوصاياه- باللوحة المرسوم عليها الآية الكريمة “كلٌ في فلك”. وكذلك فيما عرضته الكاتبة ” في كتاب الكاتبات والوحدة” عن سيرة مي زيادة من وجودها كمحط اهتمام للأدباء إلى حبسها في مصحة العصفورية العقلية. يعزى ذلك نتيجة لعدم الفعل أو قلة الحيلة وضعف الإرادة لدى تلك الشخصيات-وخاصة إن كانت سابقا متمردة مطوعة لحياتها كشخصية كاميليا العمة في رواية “أطياف كاميليا” أو أروى صالح “الكاتبات والوحدة”- ما يجعلها راغبة في التخلص من حياتها. مفضلة الابتعاد عن الصورة تماما، على العيش مقهورة عاجزة عن التصرف.

-لذا، كان من ذكاء الكاتبة ابتكار فئة مختلفة قليلا عن الطرفين- إما من شخصيات خارقة للطبيعة مبتكرة، كما شخصية نادية “بنات الباشا” المربكة بين وجودها وتقاطعها مع شخصيات الرواية، وبين لغز نهايتها. وإما شخصيات عادية لكنها حظيت بنضج من تجربتها، باستطاعتها التفاهم مع تأثيرات دنياها، فتماهت مع واقعها، كما كانت رمزية المرآة في رواية أطياف كاميليا، وكونها نقطة نظام، يُفهم منها القصة بين ماضٍ غابر “تمثله العمة كاميليا ” وحاضر يتشكل “تمثله شخصية كاميليا الصغيرة”. -ليكون هدفها محاولة لتحرير الشخصيات من صراعها وكسر سلسلة عذاباتها، ومنحها إرادة في رسم تجربتها كما ترغب. وبالتالي ليس غريبا أن يميل ميزان الشخصيات في عالم الكاتبة ناحية التمرد والحركة والمشاكسة، حتى وإن كانت مختلطة بآلامها.

–هذا ما جناه أبي عليَّ “عن الجسم والظل”

– يمثل الطابع الاجتماعي الأسري، أقرب المؤثرات تعرضا لشخصيات الكاتبة. تعد منفذا لقضية أولت لها الكاتبة اهتماما في أعمالها: مناقشة دور السلطة الأبوية في تشكيل الشخصيات. من توجيهها أحيانا-وفق عادات وتجارب متوارثة- إلى طرق تراها آمنة، إلى الإهمال المطلق أو الانسحاب والانتقال من التوجيه إلى التقييد لمبررات عديدة -سيأتي ذكرها فيما بعد- تصب في فرض هيمنة ما ولو لبعض حين.

– تتعارض فكرة السلطة الأبوية مع رغبة الشخصيات التي تمثل الجيل الجديد، وهو الراغب بالانغماس في تجربة الحياة بحرية كاملة. والتمكن من خلال أدوات وملكات مساعدة -كالرسم أو التصوير أو الكتابة- بتكوين صورتهم الخاصة -الجامعة بين نظرات عديدة تقليدية، أو وليدة عصرها- التي تأول وتفسر رموز وإشكاليات الحياة المبهمة.

ولأن السلطة الأبوية أمام الشخصيات-المشبعة بأفكار متوارثة كما ذكرنا- تعجز عن فهم تلك النظرة، لاختلاف الطبيعة الزمنية-أو لا تسعى لفهمها باكتفائها بتجارب مشابهة- فتتركها. أو يصعب عليها صنع حالة وسط تروض جموح التجربة وتقوّمها. فتحاول بأقصى جهدها خلع تلك النظرة-بالتعنيف مثلا- وتثبيت أفكارها باعتبارها الأصح دوما.

المثال الأقرب هنا شخصية كاميليا الصغيرة “أطياف كاميليا”. التي ترغب في استكشاف حياة غامضة مشوشة  -حياة عمتها- محاولة معرفة أدق التفاصيل عنها. تتقمصها حتى تفهم تجربتها الخاصة – في جرأتها وضحكها أمام المدرسة- ، وكذلك نرى علاقتها بأبيها الشاهد لمصائر التجارب السابقة -تجربة العمة – الخائف من تكرارها. وكذلك تكرار العجز عن ترويضها. لينتج عن ذلك علاقة حادة بابنته، تهدف لخلع تلك الفكرة. علاقة قوامها التعنيف والصفع والسب والتوجيهات القسرية.حتى وإن كان سينتج عنه التحول إلى شخصية هشة شاحبة.

– تخرجنا الكاتبة من تلك الفكرة المعتادة إلى هيمنة مربكة. إذ يختفي رمز السلطة نفسه -الأب- إلا مجرد ظل خافت -من آثاره وذكرياته- في وعي الشخصية البطل. فتدفعه تجربة حياته المتأرجحة إلى استكشاف الظل، والنظر إلى تفاصيله وتكثيفها باستدعاء ذكرياته. معززا إياها الغموض بين الحضور والغياب لأن الشخصية لم تشهد أو تستوعب حقيقة الغياب. فتمتلئ الشخصية البطل بهذا الظل وتزداد تشبثا به؛ لأنه يساهم في ترميم ما فتتته التجارب، ويزيد فهمه لتلك الحياة وجدواها باعتباره حاملا لإجابات أسئلته.

يعتبر ذلك الركن الأساسي التي وضعته الكاتبة لشخصية “سعد” أو الشهيد برواية “سنوات الجري في المكان”. تدفعه محنة والدته بعد وفاة أبيه. ومن ثم تجربته الحياتية إلى التدقيق في حياة والده وموته المشوش -لأنهم لم يمكنوه من رؤيته بعد وفاته- في عقله. فيبذل قدر استطاعته باستدعاء وجوده، من خلال تفاصيل صغيرة -ربطة حذاء، أو صورة مع أصدقائه المغتربين، أو كوب البورسلين البرتقالي- حتى يكتمل أمامه ويراه في كل تفصيلة تدل عليه ممتلأ به،د. ويحيا بطيفه.

-الثابت بين كاميليا وسعد، أن كلاهما اعتمد على فكرة التحايل رغبة في إتمام شخوصهم. فنرى كاميليا الصغيرة تتحايل على عنف أبيها، نازعة تسلطه بالهرب حينا أو بموافقتها على خاطبها حينا آخر. أما سعد فيتحايل على تخبطه وتضارب طموحه-ولعل ذلك كان سبب ترميزه بالروح تجاه بقية الشخوص- باستدعاء ظل أبيه الراحل، الذي يذكره بهامشيته-مجرد رقم- فيوازن مسيرته. أو يذكره بأثر البطولة المتوارث، فيعادل بها خوفه.

— وما جنيته على أحد “معضلة الضحية الجاني”

– تطرح الكاتبة أمامنا- لبسط الفكرة على الشخصيات وتحليلها بانفعالاتهم وحركاتهم-سؤالا مهما: هل هناك دوافع أخرى غير العادات الموروثة، هي سبب وجود ذلك النموذج؟ أي هل كانت تلك السلطة الأبوية ضحية، تكومت مشاعرها وبواعثها إلى رد فعل ضخم أذى من حوله؟

-نرى الإجابة من خلال شخصيتين في عالم الكاتبة. الأول وهو شخصية والد مصطفى “سنوات الجري في المكان “، والثاني وهو شخصية محمد ناصر عاطف “أطياف كاميليا “. كلاهما مهمشان، تمنيا أن يعيش حياته كيفما يريدان. لكن الحياة مزقت أمانيهما بمجريات القدر -فنرى إنصاف رفقاء المثقفين لكاميليا عن محمد ناصر مثلا- وهذا ما نمى شعور المظلومية فيهما شيئا فشيئا. حتى يصلان لنقطة ما -وجود طرف أضعف أو رغبة مطلقة بالتفريغ عند امتلاء الغيظ- تظهر تلك الهيمنة كرد فعل.

– يبقى الفرق بينهما متسعًا قليلا؛ فالأول لا يرى إلا نفسه ومظلوميته. تغمره أنانية كبرى تجعله يفضل الوحدة عن أبنائه، ويرى مجرد ارتضائه بالحياة العادية تضحية كبرى، وتنازلا يستحق الإشادة به.

أما الثاني فقد تهدمت أنانيته وشعوره بالتمييز والظلم، حين رأى ضعف أخته ظاهرا. ومع الوقت بني على أطلال ذلك خوفا، حين رأى ابنته تحيي صفات أخته من مصيرها المأساوي. فصار بداخله مزيج يشوبه عدم الفهم بين الأنانية والإشفاق، يعجز عن التعبير عنه كما رأينا في علاقته بابنته، إلا كما اتفقت عادة مجتمعه.

– ينتهي بنا الأمر إلى أن نرى الكاتبة كما التقطت صورة كاملة واقعية، أقامت نظرة موفاة تقترب من الواقع. تضع فيها الشخصيات على كفتي ميزان، ومن ثم تتركه متأرجحا دون مساعدة منها لتغليب إحداها بإيدولوجية خاصة أو أمنية في نفسها. مفضلة حكم القدر بأن لا غالب ولا مغلوب.

 

مقالات من نفس القسم