عاطف محمد عبد المجيد
يوم أن تعرّفت إلى اسم الشاعر الراحل فاروق شوشة، كنت حينها في المرحلة الثانوية، إذ كان مُقررًا علينا، عامَها، قصيدته “يقول الدم العربي”..وبعدها رحْتُ أبحث عن دواوينه، ووجدت بعضها بالفعل في مكتبة المدرسة. وأذكر ذات يوم كنت أجلس في المقعد الأخير من الفصل، وأقرأ ديوانًا لشوشة، وفجأة توقفت لأنادي على زميل ليجلس بجواري لنقرأ معًا، وكان أول شطر شعري أقرأه بعد مجيء الزميل: “وجئتَ لتُفْسدَ ما أَمَّلْت “..لحظتها رحنا نضحك وواصلنا بعدها القراءة.
على غير عادته كتب الشاعر الراحل فاروق شوشة مفتتحًا لديوانه الأخير، والذي صدر عقب رحيله عن الدار المصرية اللبنانية، وعَنْونه بـ “نخلة الماء”، وأضافت الدار إلى العنوان: الديوان الأخير. كتب شوشة مفتتحًا لهذا الديوان لإحساسه، مثلما يقول، بأن مجموعة هذه القصائد الجديدة ليست كسابقاتها، لغةً أو صياغات أو همومًا إنسانية أو شعرية.في قصائد نخلة الماء تخلّصَ الشاعر من عباءة شعرية آن أوان خلعها واستبدل بها: حريةً أكبر، وآفاقًا أرحب، ولغةً أكثر يُسرًا وبساطة، وأنفاسًا أكثر جِدّةً وحرارة.
ست عشرة قصيدة تُكوّن ديوان شوشة الأخير نخلة الماء، يُبحر فيها ممتطيًا جواده الشعري، متسلحًا بلغة رائقة، وصور ماتعة، وصياغة شعرية تنم عن امتلاك جيد للأدوات الشعرية، وفكر شعري يشي بخبرة الشاعر الكبيرة على درب الشعر.
في قصيدته نخلة الماء، نجد إحساسًا بالعزلة، وحنينًا إلى زمن آخر غير الذي نحياه الآن:
” هذه النخلة الوحيدة في الماء
استظلت بشاطيء من رمال
أتراها تحنّ للزمن الخالي؟ “
غير أن هذه النخلة قد رضيت بعزلتها بعد أن أيقنت أنها لن تصلح لحياة أخرى، بين كائنات أحالت الحياة إلى جحيم لا يطاق:
” هي في الماء طيلة الوقت
لا تخرج منه
ولا تضيق بحال
رضيت بالرمال والبحر والمأوى “.
ولأن الأشجار تدل على السموّ والسموق مع امتداد وصلابة الجذور، مما يشير إلى ثقة الشاعر في مكانته الشعرية وما وصل إليه شعريّا، فقد تكررت كثيرًا مفردات من حقل الأشجار منها: النخلة، نخلة الماء، النخيل، السِّدْر، أشجار سرْو، وغيرها.
أما في قصيدته ” النهر ” فيصور شوشة حالةَ مَنْ يسبح ضد التيار، وتصادفه عقبات شتى ورياح عاتية لا همَّ لها سوى الفتْك به، لكنه رغم ذلك يُفلح في الصمود والثبات حتى يصل إلى شاطئه الذي ابتغاه:
” ها أنت تشقّ الماء
في عكس اتجاه الريح والتيار
مختالا على صدر الزمان “.
امرأة لا تنجب القصيدة “
ولأن الشعر يفُجّر تساؤلات عديدة، فقد حفلت معظم قصائد نخلة الماء بأسئلة وضعها الشاعر أمام المتلقي بغية البحث عن إجابة لها.في قصيدته ” كيف يقرأونك ” يتساءل شوشة عن الطريقة التي يقرأ بها المتلقي شعره المثير، وكيف تستوقفه قصائد النساء في ديوانه المليء بالأحوال والآهات والأشواق والوقائع الجسام.إنه مندهش من الظن بأن القصيدة لابد وأن يكون وراءها امرأة، ثم يسأل نفسه ماذا يقول هو لامرأة لا تنجب القصيدة ولا تثير فيه شهوة الكلام ولا تحرك الشعور عاصفًا وضاغطًا في قلب مستهام.هنا يطلب الشاعر ممن لا يعرفون كيف يقرأون ألا يَعْبروا فوق الحروف كالنعام، وألا يشغلوا رءوسهم بما يرومه الشاعر أو ما لا يُرام.
في نخلة الماء كذلك نجد شوشة وهو ينتقد الحال التي نحياها ويسودها الطغيان والتسلط والجور الذي يمارسه بعضنا ضد بعض:
” ما العلة أن الناس يجورون
على ما يملكه الناس
شعورًا
أو حرمات
أو أرزاقًا
أو فيْء مظلة ؟ “
لقد صارت الدنيا، كما يجسّدها، أضيق من خاتم ماس، أو حتى دبلة في إصبع غانية تتزين في ساحات اللهو وتستهوي أنظار الجوعى:
” لن يتسع مداك لغير خطاك
ولن يتجاوز حدًّا رسمته السّفلة “.
في قصيدته ” ناري ومائي ” يصور شوشة حياة الشاعر الذي ظل العمر وحيدًا متشبثًا بمبادئه، ومناديًا إلى مدينة فاضلة يسودها العدل وترفرف عليها المساواة، لكنه لم يعش هذا، بل انداس أسفل واقع مغاير تمامًا لهذا الحلم / الأمنية المُبتغاة:
” وحيدًا مضيتُ
طريقي طويل
وظلمته تتكاثف
رعب يداهمني
وأصداء خوف قديم جديد “.
في قصيدة أخرى ينادي الشاعر رفاقه إلى التحلي بالطهر وبالتسامح مع الآخرين، غافرًا لهم ما جنوه في حقه وما ادّعوه ظلمًا وبهتانًا:
” طهّر قلوب البعض من ضغائن الزمن
واغفر لهم ما أسلفوا من الإحن
وما ادّعوا من تُرّهات
كلها هباءْ
وارفع قضاياك إلى مدبر القضاءْ “.
كذلك يصف شوشة في قصيدته ” قبل مرور الوقت ” حالة الشخص المنتفخ غرورًا مُعطيًا لنفسه ما ليس لها، وواضعًا إياها في مكانة هي أدنى منها بكثير:
” هل تدرك أنك أصغر من حبة قمح
توشك أن تذروها الريح
ويلقطها طير عابر
كم كنت تظن بأنك وتد الأرض
ومصباح الأكوان
وذاكرة الأحياء
وناقوس الموتى ؟ “
شوشة الذي ودّع الجميع قبل أن يرى خروج ديوانه الأخير نخلة الماء للنور، يودّع هنا شقيقه فخري، وصديقه جوزيف حرب في آخر قصيدتين في الديوان وهما: مذاق جديد للموت، وجوزيف حرب، وهي القصيدة الوحيد في الديوان التي بدأها شوشة تفعيليًّا ثم انتقل إلى الشعر الخليليّ:
” كفكف دموعك، لن تفيد الأنهرُ
إن الذي تُبكيه لن يتكررُ
كم صغت في الشعراء لحن وداعهم
والآن إذ يبكون أنت الأشعرُ
يا شيخ هذا الغيم يا عكازه
يا أيها القلم الذي لا يقهرُ
علمتنا الغضب النبيل فأخصبت
أرض بشعرك دائمًا تتفجرُ “.
ونهاية، بعد أن طفنا حول نخلة الماء تتبعنا المتعة الشعرية، والعالم الشعري الخاص بشاعر كبير قضى سنين حياته خادمًا للقصيدة، يمكننا أن نقول إن ديوان نخلة الماء هو الفسيلة التي غرسها فاروق شوشة قبل رحيله، لتنمو في حديقته بجوار ما غرسه قبلها من أشجار سامقة في أرض الشعر، لتخلد اسمه في ديوان الشعر العربي، بعد أن اجتهد وسعى لاهثًا وراء كتابة قصيدة مكتملة، وهذا ما قد يصل إليه النقاد بعد قراءة واعية وحيادية لمجمل أعماله وإبداعاته التي تركها ورحل في هدوء.