الصورة الناقصة .. في “أمطار صيفيّة”

"دراويش الموصلية" قراءة في أمطار صيفية
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

خميلة الجندي 

هي قصة طريقة صوفية دُهس تراثها تحت عجلات التطور، وغول السلفية. 

ربما وأنت تدلف مع يوسُف للمرة الأولى داخل وكالة الموصلي ارتجف قلبك لبهاء المنظر، وبراعة البناء العتيق. “اللهم انصر عبدك مولانا ومالك رقابنا…” لم تتساءل قط وأنت تقرأ النقش المنحوت فوق القوس الحجري لِمَ اسم الموصلي هو الوحيد الذي محته يد الزمان؟ لم تتشكك في الرواية السائرة منذ سبعمائة عام.. بل ستتم العبارة كما شاء مريدي الشيخ.. “اللهم انصر عبدك مولانا ومالك رقابنا الشيخ عبادة الموصلي.” 

حين يتولى يوسُف الدفة من شيخه ذاكر، ستنتظر أن يعلو بمجد الطريقة، الصورة الذهنية التي رسمها الكاتب عنه ستجعلك تُعشم نفسك خيرًا في خطواته، ستتمنى لو يثبت أقدامه كشيخ للطريقة، يُنهي الماجيستير، ثم يتزوج من رحمة، وينجبا الأبناء الذين – بالوراثة – سيستمروا في مشوار الحفاظ على تراث الوكالة. تقترب منه زينة بألاعيب ثعبانية – في وجهة نظرك – فتتحفز منتظرًا منه أن يُعرِض عنها، أن يسمو بروحه كما علمته الطريقة عن هذه الفتن الدنيوية.

ماذا بعد ما غاب رجاءك؟ 

كيف شعرت حين مات الشيخ ذاكر إثر حسرته على تقصير يوسُف، وتصدع الجدار الخارجي الذي يشي بانهيار قريب للوكالة؟ أتلعن النيران لأنها أجهزت على ما تبقى من الطريقة – الحجر الأصم – أم لأنها ألتهمت آخر مَن تبقى من المريدين الأوائل “الأسطى عبيد”؟ 

ستحدث نفسك حتمًا أنها نهاية غير متوقعة، ربما لن ترضى عنها، ربما يهبط تقيمك على مواقع القراءة من النجوم الخمس، إلى نجمتين أو ثلاثة؛ وفي هذا معك الحق، لإنك لم تبحث في الصورة عن القطع الناقصة. 

 

الصورة الناقصة

يقول جيلبرت رايل الفيلسوف البريطاني الذي تأثر بالفلسفة الظاهراتية  “Phenomenology” وخاطب نظرياتها من منظور أدبي: “كيف يمكن للمرء تصوير شيئًا لم يراه، قبل أن يدرك غيابه بالفعل؟”

هذا هو الحال مع أمطار القرملاوي، ربما مَن العَدل الآن أن ننسب العمل إلى مبدعه، الرجل الذي استحق أن يُمدح لفكرته الناقصة، وهنا النقص ليس ذم كما اعتدنا أن يكون، بل هو جلّ الاكتمال. فلو مُنحنا الأدلة واضحة على انهيار الطريقة، أو أحداث صريحة تخبرك أن الأمر لن يسير نحو الخير أبدًا وأن الشكوك التي ترتع في نفس شيخ الطريقة الجديد ستكون حتمًا نقطة نهايتها، لمللنا.. لأصبحت حبكة سردية ننتظر معها الخاتمة لنعرف ما حدث، نشكر الكاتب على فكرته الجديدة، ونضع الكتاب في المكتبات دون التفكير في العودة إليه. هذا ما نسميه في مناقشاتنا الودية “رواية لطيفة”. هي رواية لطيفة ولكنك لن تفكر فيها مجددًا، لن تطاردك رمزياتها، ولن تحول فك شفرة أحداثها. 

ما قرأته بين السطور مع السير عبر الصفحات، انقبض له صدري، لإني أدركت أن الصوفية لن تقدر على الوقوف أمام رغبات مسجد السلفيين المقابل للوكالة، لن تفلح مهادنة “ذاكر رسلان” لهم، إذا منحهم رصيف الجدار الخارجي ليصلوا عليه صلاة الجمعة، يشكرونه ثم يزداد طمعهم. أيمكن أن ينجو الرجل بابتسامته العذبة، وعقله الراجح؟ هذا المستحيل أمام وجوههم الحادة، ورغباتهم الجامحة. ربما لم أدرك دور زينة الخطير سوى متأخرًا، حسبتها في البداية فتاة ستُقع الفرقة بين الحبيبين، ولكن ثورتها التقنية أوقعت الفرقة بين الطريقة ومنهجها الموسيقي العذب الذي يسمو بروح المريد فوق السموات السبع. 

على أي حال كيف نُدرك تلك الصورة الكاملة، لو لم يمنحنا الكاتب صور ناقصة من كل حدث! لو وشى بنية السلفيين منذ الصفحات الأولى لذكرهم، أو أوضح أن زينة هي “زينة رسلان” التي لا تسعى للانتقام بقدر ما تسعى للحصول على حقها من حياة والدها، ما تُرك لنا المجال للتكهن، والتمني. أعتقد أن القرملاوي تلذذ حين تلاعب بأعصاب قراءه، وهم يمنون أنفسهم الأماني بنهاية أقرب للأحلام، ينتصر فيها “يوسُف” والشيخ، وتصمد الطريقة أمام جحافل السلفية، فيصمد العود أمام بِدَع الموسيقى الحديثة، وتصمد الروح أمام الدنيا وملذاتها.

كيف يمكن للقارئ إذًا أن يعصف بعقله كل هذا لو كُشفت أمامه أوراق اللعب كاملة من الجولة الأولى؟ 

الرمزية 

الرمز هو رسالة المؤلف المتدثرة بأحرف تُخبئ المعنى المنشود، رسائل الكاتب المشفرة إلى قارئه المميز. وفي ربطه بنقص الصورة فهو القطعة الناقصة التي حين تُقرأ على مهل نرى فيها اكتمال المشهد. في أمطار صيفية تمثل عندي الرمز في شيئين: أولهما الصدع الذي ألم بجدار الوكالة، هذا الصدع الذي لم يلحظه “ذاكر رسلان” إلا بعد ما انساق “يوسُف” خلف لقاءات “زينة”، وانهمك في الأحلام التي صاغتها له في إطار مشروعها الموسيقيّ الضخم، لم تبع له الأوهام بل كانت صادقة، ولكنها أحدثت في جدار إيمانه في حقيقة الموصلي شرخ واضح، شرخ أمتد أثره لجدران الوكالة. ربما هذا الصدع لم يشير فقط إلى ضعف نفس “يوسُف” ولا إلى قُبح ما جلبه “زياد” من سُمعة مشينة للوكالة، بل أشار أيضًا إلى تعكر صفاء الروح، وقرب انهزامها أمام الحياة. 

أم الرمز الآخر البارز الذي أخذ يجذبني إليه كالمجاذيب هو سرقة العود، التي ربما أقل أهمية من رمزية البئر، أو رمزية اسطورة الأمطار الصيفية التي سقطت كرامة للموصلي، ولكن سرقة العود التي استهللت بها معرفتي بزياد وَشت بالكثير عنه، ثم أثارت في عقلي فكرة: ربما سرقة العود هي إشارة جَلية إلى نهاية الطريقة؟ هي الرمزية التي حين انتبهت إليها خففت من وطأة صدمتي وحزني على الأحداث الأخيرة، هدأت من وقع ارتطامي بصخرة الواقع، ومهدت الطريق لأفهم أن في النهاية انتصرت النار على أمطار الموصلي. 

رحلاتي مع القرملاوي لم أُخذَّلَ فيها قط، في كل مرة تصحبني متعة لا تُقدر بثمن، ولذة الفوز بصديق جديد سترافقني ذكراه دائمًا، وفكرة نقدية بحتة تحاول أن تقتحم ساحة أفكاري لتدلني على مواطن القوة، ومواطن الضعف فيما قرأت من عمل يستحق أن يوصف بالأدبي الرفيع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كاتبة وروائية مصرية 

مقالات من نفس القسم