نبوءات لا مرئية

ممدوح رزق
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ممدوح رزق

لكن صورة الأبيض والأسود هذه تبدو كأنما تم التقاطها للدموع المكتومة التي تلمع في عينيّ وهما تحدقان بألم مصدوم ورجاء معاتب.. تم تفسير هذه النظرة بسقوطي من فوق كرسي المصوّر قبل لحظات من التقاط الصورة بعد أن وضعتني أختي هناك ثم تركتني مبتعدة عن العدسة.. أخبرتني شقيقتي بأنني انزلقت من حافة الكرسي الجانبية لأسقط جالسًا بنفس وضعيتي، كأنما الكرسي هو الذي تبخر من تحتي.. قالت أنني لم أبك بل تجمدت الدموع في عينيّ بهذا الشكل الذي تم توثيقه بين أربعة أطر صغيرة.. هي تقريًبا أول صورة يتم التقاطها لي بما أنني لم أصادف حتى الآن صورة أقدم منها، أما السقوط فلم يكن الأول، حيث قيل لي أيضًا أنني سقطت قبل هذا اليوم بعامين، أي حينما كنت رضيعًا، ولكن هذه المرة من فوق السُفرة الكبيرة التي كانت توجد في صالة البيت حينئذ، وبينما كان أفراد أسرتي يتناولون الغذاء عليها.. وقعت من هذا الارتفاع الشاهق لترتطم رأسي بالأرض، ومع البكاء والصراخ أخذ ورم مفزع ينمو في موضع الألم، ثم استغرق وقتًا طويلا في الاختفاء.

أظهر في صورة الأبيض والأسود حتى النصف الأعلى من جسدي داخل إطار مرآة مزخرف، كبير، لونه أبيض، ومنقوش في قمته اسم صاحب الاستديو (فايق).. كرّس هذا الإطار عبئا رمزيًا عنيفًا يجابهني دائمًا كلما تأملت هذه الصورة؛ إذ يحاول أن يفرض حقيقة لم أصدقها أبدًا وهي أنني أنظر في مرآة، أي إلى نفسي.. منذ طفولتي أي منذ بداية الإدراك بأن هناك لحظات ومشاهد يمكن تثبيتها والاحتفاظ بها داخل براويز وألبومات؛ لم أقدر على استيعاب أن هذا الطفل الذي يوجد في الصورة هو أنا مثلما يتعامل الآخرون مع صورهم الطفولية بإيمان كامل أنهم حاضرون فيها.. أفكر في وجهي بينما أتمعن في تفاصيله فلا أجد تشابهًا أو بالأحرى لا أعثر على صلة:  شعره الغزير الناعم بخصلات منسدلة على جبهته، نظرته المرتعشة بالخوف والذهول، أنفه الأفطس، أذناه، فمه المفتوح بشفتيه السمينتين لتمرير الأنفاس التي أثقلها البكاء المكتوم في صدره.. لدي يقين تام بأن الفرق بين هذه الملامح وملامحي ليس مجرد اختلافات ترجع إلى التأثير الحتمي للزمن، بل هو انفصال جذري؛ فهذه التفاصيل من المؤكد أنها تخص طفلا آخر.. لكن هذا الانفصال ليس ناجمًا بالتحديد عن الملامح بقدر ما يكمن في الروح التي تعطي إيحاءات عن وجودها من خلال هذه الملامح.. الانفصال يكمن في وعي هذه الروح بالألم.. في تفسيرها للألم.. كان هذا الطفل خائفًا ومذهولا ومع ذلك فإنني لا أمتلك مطلقًا أي معرفة عن هذا النوع من الخوف أو الذهول الذي تم الاحتفاظ به في تلك العينين.

 

* * *

أشاهدها عبر كلماتها ودموعها ورعشة صوتها وهي تزيح الأغطية ثم تصعد إلى السرير لتساعد جسد أبي الثقيل المتيبس على الجلوس، قبل أن تسحبه بصعوبة  لتُنزل قدميه من حافة السرير، ثم تُحضر الماء والصابون والمطهرات والأدوية والملابس النظيفة والمراهم وضمادات قرحة الشرج وهي تدعو على نفسها بالموت.. تُمرر ذراعيها تحت إبطيه لترفع سبعين سنة هامدة في قاع الزهايمر وتتحرك بها هذه الخطوة العسيرة، كأنما تنقل القدر نفسه من السرير إلى الكرسي.. تقف لحظات لتسترد أنفاسها، ولتتأمل عيني أبي وهما تحدقان إلى وجهها كجثة شاردة لا تتذكر أي شيء، وخصوصًا في هذه اللحظة.. لا تتذكر أنها أنجبت بنتًا في يوم ما، كأن هذا النسيان شرط خروجها من الحياة عبر الثقب الطفولي الذي دخلت منه.. تغلق باب الحجرة كي لا يصاب بالبرد فيزداد شقائها، ثم تخلع عنه كل ملابسه، وتنزع الضمادات الملوثة كي تبدأ في تنظيفه بالماء والصابون دون تجاهل لأي جزء مهما كان ثم تجففه، وتضع المطهرات والمراهم والضمادات الجديدة ثم تلبسه الثياب النظيفة.. تتركه لتغيّر ملاءة السرير والبطانية ثم تُحضر الطعام المهروس في الخلاط لتجلس بجانبه وتطعمه بالملعقة متوسلة إليه وهي تبكي أن يفتح فمه.. يبصق الطعام في وجهها فترفع الملعقة ثانية، وتلح عليه من جديد، وهكذا يمكن أن يستغرق الانتهاء من طبق صغير قرابة الساعتين دون أن يفرغ تمامًا.. تعطيه الأدوية، وحينما يبتلع الحبوب والكبسولات دون أن يبصقها كالعادة تشكر السماء على هذه النعمة.. لكنها اليوم حينما أدخلت ذراعيها تحت إبطيه وأعادته من الكرسي إلى السرير بالعناء المألوف ثم قررت أن تعدّل الوضعية غير المنضبطة لياقة بيجامته، وحينما سحبت يدها بعد أن فعلت ذلك؛ مر الطرف المسنون للإسورة التي في معصمها على الطرف الليّن من أذنه دون أن تنتبه.. رأت دماءً غزيرة تتدفق من هذا الجرح فصرخت وأسرعت بإحضار البن والميكركروم والقطن والشاش والبلاستر لتحاول كتم النزيف فلم تنجح إلا بعد دقائق طويلة بدت كأنها أضاعت ما تبقى من عمرها.. يرتفع نشيجها كأنني أرى قلبها متناثرًا في ظلام صدرها، وكأن دماءها هي الأخرى ستندفع من فمها لتختلط بطوفان الدموع الذي أغرق وجهها.. تحكي كيف ارتجف جسد أبي لحظة انفتاح الجرح وتدفق الدماء.. كيف ظلت عيناه ترتعشان وهما نصف مغلقتين، بينما يهز رأسه بدهشة.. نعم بدهشة فقط.. كان يشعر بألم فظيع في أذنه، ولكنه لم يكن يدري كيف يجسّده إلا بالحيرة.. كان مجبرًا على التعبير عما يحسه بأدنى صورة ممكنة.. أخذته في حضنها وظلت تقبل رأسه وتقول له ببكاء محموم: (أنا آسفة.. حقك عليا.. سامحني.. حقك عليا.. والله ما قصد).. نظر إليها فرأت دموعًا صغيرة محتبسة في عينيه.. كأن هذه الدموع غير خاضعة لقدرته على تجسيد الألم أو لانعدام هذه القدرة، بالضبط مثل ارتجاف جسده ورعشات عينيه نصف المغلقتين.. لكن احتباسها في نفس الوقت أكد أنه كان عاجزًا عن جعل هذه الدموع تنفجر كما يليق بالألم الذي يشعر به.. كان شيئا راجعًا لإرادة لم يعد يمتلكها.

………….

*جزء من رواية قيد الكتابة

 

مقالات من نفس القسم