تختفى هي فأعود إلى بيتى الخشبى وألتحم باليافه الدافئة، أخبرونى يوم ولدت أن أحمد الله أننى أسكن الخشبـ، فأمثالى من لا يجد له مأوى ومثلى من يسكن مجرد إطار بلاستيكى رفيع لا يحمى نافذتنا كما يجب، ولكننى لا زلت أرغب فى أن أطل برأسى خارج النافذة، أن أراها كاملة، وأرى من أين تاتى بتلك الأشياء المختلفة.
أختبئ داخل الخشب، ثم أعود حاملة ما تحمله هى من أحمر شفاه، أمرر طرفه الناعم على شفتي، أنظر برضا عن مظهرها وأطبق شفتى فتشعر هى برعشة طفيفة تتسرب إلى فمها، أخطو خطوة إلى الخلف فتبتعد هى عنى بعض الشىء. أستطيع الآن أن أرى حذاءها الاسود ذا الكعب العالى، أرفع قدمى بضع سنتيمترات عن الأرض ثم أعيدها مرة أخرى، تفعل هى نفس الشىء مثلى ولكن صوت الارتطام يأتى فقط من عالمها، أدير لها ظهرى فتطفئ أضواء الغرفة ويبدأ سطح نافذتى البارد يزداد حرارة شيئا فشيئا..
قالوا لى إن عالمنا خلق من الرمال ولا اعلم ما هى الرمال، أساطير الإولين قالت إنها حبات صغيرة تجمعت وكونت نافذتنا، قالوا إنها أصغر من ألياف الخشب التى أسكنها وأصغر من الإطارات البلاستيكية سيئة الرائحة التى يسكنها آخرون. قالوا إن الرمال رطبة تسكن بجوار البحر أحيانا وأحيانا أخرى تكون جافة إلى أبعد الحدود.. وعندما سألتهم عن ما هو البحر، تنهدوا باشتياق لم أفهمه.
حدثتنى الألياف الخشبية عن أشجار الغابات وعن البشر والحيوانات، أخبرونى عن الحياة وعن السماء ودود الارض وأيضا أخبرونى عن الأرواح، وصفوا لى الروائح وشرحوا لى أن ذلك الشىء الذى تستخدمه هى تحت ابطها لا يختلف كثيرا عن رائحتهم ولكن لماذا يود أحدهم أن يكون له رائحة الخشب، أخبرونى أن رائحة الخشب أكثر قبولا من روائح أخرى فى حياة البشر.
ثم يأتى هو فتنمحى ثنايات جسدى ومن أعلاه يشتد ثم يتدلى شىء ما بين الساقين. يتراجع شعرى المسدل ورأسى تبتلع جذوره ألى أن يكتفى بظهور منبته فقط، أحرك كفى مداعبا رأسى فيشعر هو بتدفق الدم فى رأسه يختفى لبضع لحظات و يعود حاملا آلة تصدر ضجيجا فى عالمه، أزيزا مستمرا فأمررها على ذقنى بتأنٍ وحرص، فيصبح ذقنه حليقا تاركا بقعة من الشعيرات السوداء الصغيرة ع الارض ألمحها أسفل عينى فتثير فى نفسى الاشمئزاز، أمرر كفى على ذقنى، أجدها ناعمة و لكنها ليست فى نعومة ذقنها هى، ثم يختفى هو فأختفى أنا
لا يحق لى الظهور فى غيابهم، يفعلون ما أفعله، ولكن عالمهم يملك الصوت والرائحة والألوان، فقط لو أطل براسى ، فقط لو أملك رأسا، لو لم تكن نافذتى بتلك الصلابة لنفذت لعالم الصوت ورفعت درجة حرارة الغرفة قليلا حتى لا ترتجف نافذتى من البرد.
نبهتنى الاخشاب بعودة “هى” فهرولت إلى النافذة، كانت تقف أمامى بعيون حمراء منتفخة، شعرت بسخونتهما، كرتان من النار، ثم بدأت أتنهد، أنفاسى تضطرب، جذعى ينغلق وأكتافى تنهار رأسى يسقط إلى أسفل وخصلات الشعر التى صففت بعناية تتبعثر بعشوائية، كرتا النار بدأتا فى إخراج ما بهما من ماء، وكانهما تحاولان أن تطفئان حريقهما.
أخذت المياه تنسال فوق خديّ وخديها، لامست قطرة منها طرف الشفاه وغارت داخل أخدودها، نفس طويل يطلق سراحه من بين الشفتين يصحبه صوت لا أعلم ماهيته لكنه مخيف، ينتظم النفس بعض الشىء ثم تختفى هى، عرفت من الأخشاب أنها كانت تبكى وأن ما يسقط من عينيها ما هو إلا دموع وأنها مالحة تماما كالبحر، تمنيت وقتها أن تبكى مرة أخرى، وفى هذه المرة سأخرج لسانى لأتذوق طعمها.
ثم أتت هى مرة أخرى و عقدت الأمانى ولكنها كانت توقفت عن البكاء، أتت بشعر ثائر ووجه مبتل تحمل فى يدها عصا خشبية وأحملها معها، أرفع حاجبا وأنزل اخر ، أزم شفتى وأرفع العصا فوق كتفى، ننزلها كلتانا بقوة على نافذتنا نحطمها.
هل كنت أنا من أبكى فى تلك اللحظة أم هى، أخرجت لسانى سريعا لأتذوق الملح، سمعت صوت تهشيم النافذة يخترق أذنى، وضعت قدمى فوق فتاتها الذى غطى بقعة شعيرات “هو” السوداء، شعرت بشىء ما يخترق قدمى وانسال سائل أحمر منها. هذا الشعور لم أختبره من قبل ثم نظرت تجاه النافذة لم أجدها، كل ما وجدته أننى الآن أصبح لدى قدم تنزف، رأس يحيطها شعر ثائر وفم لم يذق سوى الملح.