“ميثاق النساء” ميثاق الأبدية.. القفز إلى عالم أرحب

ميثاق النساء
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمود حسانين

“تقول سوزان سونتاج: الكلمة تبدو لي أحفل بالمعنى، حينما تكون صفة لا اسمًا، برغم أنني أفترض أنه سوف يبقى في هذه الكلمة شيء من الغرابة القاسية دائما، لا سيما حينما توصف بها امرأة”

في روايتها “ميثاق النساء”، العنوان الذي اشتق من الكتاب المقدس لدى الطائفة الدرزية، وحيث تمثل الرواية محور ألم مستمر منذ الطفولة يدمي الروح ويميت القلب، عرضت الكاتبة “حنين الصايغ” تحليلًا لهذا الميثاق الذي لا يخص النساء وحدهن، بل هو ميثاق أبدي نال الكثير من الرجال، الأطفال، العجائز، الشيوخ، وأيضًا صار كالغمام بين دروب المدن، في أزقة القرى، على طاولات الدراسة. صار هو القيد المحيط بالمجتمع بمعتقد التبليغ القدسي الذي انفجر في الوجوه من صيحات حراس الفضيلة. الفضيلة، تلك المجني عليها من قِبل المعتقدين بأنهم حراسها، رغم أن الفضيلة هي مثال هادئ يريح العقل، الفضيلة تلك التى طويت بين دفتي المخطوطات والكتب لتحمل معنىً آخرًا له أثرٌ ساحر، الفضيلة نغمة تتراقص بانسيابية على وتر سلم موسيقي يريح النفس، هي ذلك التغريد الذي تصدح به البلابل والعصافير ببراءة، هي الكلمة، هي الروح، هي البعث، الفضيلة في “اقرأ”، لم تكن يومًا صيحة فزع يحتكرها أشخاص ليستغلوها كما أرادوا.

الألعاب السردية:

في الرواية استخدمت الكاتبة عدة ألعاب سردية في متن السرد، فنجدها تجيد العزف على وتر المواطنة وتستنكر أي شكل من أشكال الطائفية، كما لعبت ببراعة على ترميز الحرية ورفض التقيد بالمقدس، الذي يجعل من كل شيء في الكون محظورات، كما نجحت في محاكاة العوالم النفسية بالأحداث الواقعية، ما بين الرمز الديني والموروث الشعبي، نجد أن “حنين الصايغ” بسردها تتعمق في ثقافة الاجتماعيات، فمن خلال كل فصل من فصول روايتها تستطيع أن تكتشف الكثير، كأنها مرآة تعكس واقع حياة ما على الورق، وهي، إذ تحاول التفاوض مع نفسها لتحديد موقفها من الحياة والأحداث في السرد، تجبر القارئ على تغيير منظوره للحياة المعتادة في مجتمع يغرق في موروثه، وهكذا استطاعت الكاتبة أن تتناول أدواتها من المحيط الاجتماعي، بداية من خوف الجدة من اللاشيء، حتى اللهو في الحديقة بمجون طفولي، الإيمان بتقمص الأرواح، والتفريق بين الصبية والبنات، كما تعمدت الإشارة لبناء الجدار لا لتشييد بيت أو قصر، بل لإقامة حائط عازل بين التشدد الاجتماعي والحرية المطلقة.

أرادت الكاتبة أن تقول بين ما تطرحه أنه كم من إنسان رقيق، حاول القفز من مقلاة الموروث والمعتقد المنحرف عن الفضيلة، إلى رحاب أوسع حيث تُحترم الإنسانية لذاتها، فمنهم من حلَّق منطلقًا إلى سماء ربه لينعم بجوار الملائكة بحرية، ومنهم من ترك عوالم القيود إلى رحاب تلك المقولة، التي تضمنتها الرواية (لتكون لهم الحياة وتكون لهم حياة أفضل) المنقوشة على مدخل الجامعة الأمريكية، كأنها ترجمة لمقولات مثل (هذا ليس من شأننا فيما يفعلون، تلك حرية شخصية، أنت حر ما لم تضر) تلك التعبيرات والمبادئ التي تحكم مجتمعات كثيرة، ليس بها حراس شداد غلاظ.

الموروث والمعتقد:

في كتابه “وجوه قصصية قديمة وجديدة” يقول علاء الدين وحيد:

“إن من أهم ما تقدمه أي كاتبة ويترقبه القارئ، هو مدى انفتاحها على عالم حواء وتغلغلها في أعماقه، وكذلك الموقف الذي تتخذه إزاءه”.

تطرح الكاتبة في روايتها فلسفة خاصة بعمق الموروث وتأثير المعتقد، كأنها أرادت كشف الغطاء عن أن الكثير من المربين يعتقدون بأن الموروث أو المعتقد هو النبتة الموازية لكل فرع إنساني ينبت في حقل الأسرة، دون أن يلاحظ هؤلاء أو ربما يتغافلون عن أصل خلق الإنسان، الذي خُلق مخيرًا لا مجبورًا على شيء، فأول اختبار الحياة للإنسان لم يكن سوى الاختيار بين الطاعة والتمرد، وليس الإجبار بفرض القيود على الحياة، فلم تكن الشجرة المحرمة إلزامًا بالطاعة العمياء، ولكن كانت اختبار لقدرة هذا الكائن على أن يختار. كلنا قد نرسب في امتحان ما، ولكن لم يكن الامتحان نوعًا من القيد، بل هو للتدرب على الاختيار الحر فيما نستطيع فعله. على مر العصور ظهرت مجموعات تدعي أنها حراسٌ للفضيلة، الكهنة في العصور القديمة، الحكماء قبلهم وبعدهم، الكتب التي تدعو لإرشادات وتعاليم للحياة اليومية، الشيوخ والمربين في دور العبادة، ولكن يبقى السؤال الأكثر إلحاحًا: هل حقا أراد الخالق حراسًا لعقيدته؟ لقد حاول الكثيرون طمس هذا السؤال وتكفير كل من يحاول إزاحة الطلسم عنه، وهم أنفسهم قد يشعرون بمدى خطأ فكرهم، ولكن وألف ولكن، كيف يجهر أحدهم بحقيقة أنه قد اخطأ في شيء، فهو يرى في نفسه حارسًا للعقيدة وداعيًا للفضيلة لا يخطئ، ومَن دونه هم شياطين وأبالسة. الطرح الذي عرضته الكاتبة بين السطور، هو أيضا سؤال: هل الإله الخالق في حاجة إلى حراس لتعاليمه؟ هل أرسل الرسل ليبينوا للبشر الطريق، أم ليجبروهم على السير في هذا الطريق؟ فتأتي الرواية كأنها صيحة بسؤال في غاية الأهمية: لماذا لا يبقى هذا الحارس في مكانه على الحياد ويكتفي بالنصح والإرشاد؟ لماذا يريد أن يملك سلطة الإله في الإدانة والعقاب؟

“لماذا” الأيقونة الحائرة في الرواية:

استفهام مُلِحّ ينبثق دائمًا بعد كل فقرة في الرواية: “لماذا”، تلك الكلمة الاستفهامية التي تتخفي بين السطور، جعلت البطلة في حالة حيرة لازمتها طوال سرد الأحداث، “لماذا” كانت بمثابة المفتاح للانطلاق، هذا الاستفهام المنذر بحدوث شيء طارئ مستقبلي، خاطر يتجول في الرواية بكل حرية ليلتقطه كل ذو فكر. “لماذا”، تلك هي الأحجية التي ستصبح بداية فك العَقد والعُقدة، “لماذا” تلك الوتيرة التي لازمت الحدث منذ بدايته، لماذا السؤال عن حياة البطلة الشخصية من قِبَل سائق التاكسي، لماذا تلك الحيرة التي تلف كيانها وأفكارها، لماذا تخاف أن يتم قبولها بالجامعة الأمريكية، آلاف من “لماذا” تجول حرة بين سطور الرواية، لماذا الأخت “نرمين” هي من تتلقى أشد أنواع العقاب، لماذا هذا قديس وهذا منبوذ خطاء، لماذا هناك من يعيش في العالم بلا قيود أو خوف، لماذا يتوجب على البطلة وأخواتها أن يبتعدن عن تلك المجتمعات الحرة.

طريق الحرية:

يقول بروسبير: إن حياة المرأة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: تحب، ثم تعاني من الحب، ثم تأسف على الحب”.

بدأت الكاتبة تمهد لمراحل الانتصار بداية من صفقات خفية بينها وبين خطيبها، مرورًا بقرارها الفردي بالتقدم إلى الجامعة دون علم زوجها، وصولًا لشجاعة المواجهة واتخاذ القرارات المصيرية. تعرض الرواية كم من الصفقات التي أبرمتها البطلة في سبيل الحرية، منها ما ضحت من أجله بما تملك من خصوصيات جسدية، ومنها ما هو تنازلات نفسية. لقد برهنت البطلة أن لا شيء في الحياة بلا مقابل، حتى حريتها الشخصية التي لم تحصل عليها إلا بالتنازل عن وطنها وابنتها. ثم تعود بنا الراوية لتشير إلى ترسيخ المفهوم بأن التشدد في العقيدة دافعه الخوف من المجهول، عندما عرضت موقف أختها “نرمين” التي لجأت للتدين, هروبًا من مجهول قلَب حياتها رأسًا على عقب، استطاعت البطلة أن تبرهن بأن دروس الحياة تجعل الإنسان في كثير من الأحيان يقع في رهن الاختيار، فإما أن يختار الحياة كما فعلَت، أو يختار القيد في الظلام خوفًا من المجهول كما فعلت “نرمين”، التي قررت تطبيق مبدأ دفن الرأس في التراب..

إن “ميثاق النساء” هي رواية فهم وتمرّد في نفس الوقت، وهي معادلة صعبة جدًا، فكيف يتمرد الفرد على مجتمع يفهمه ويتعاطف معه بل ويحاول احتواءه؟ ربما نجح تمرد البطلة في “ميثاق النساء” لأنها فهمت مجتمعها ومحدودية أفراده وقيود عقيدته، فأصبحت بذلك قادرة على مواجهته بشجاعة نادرة. ولكن دون صراخ أو غضب أو إدانة مباشرة لأحد. لقد حررت نفسها من الداخل بالمعرفة والحب والغفران، قبل أن تواجه كل الجدران التي تقف عائقا بينها وبين الحياة. هي قصة تحرر نادرة الحدوث في الحياة، وفي الأدب أيضًا. 

.

ميثاق النساء: رواية.

المؤلف: حنين الصايغ.

الناشر: دار الآداب، بيروت.

 

مقالات من نفس القسم