أمّي فاطنة

أمّي فاطنة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أيوب الطالبي

عبر النافذة، سمعتهم يصرخون: ماتت أمّي فاطنة، ماتت أمّي فاطنة. هبطتُ مسرعاً الدرج، وأشعرُ بالهلع والخوف، وأحسّست في لحظات كأنّي مشلول، مرّات كثيرة يحدثُ لي هذا، خاصّة وأنا أتلقى خبر الموت بهذا الشكل.

تلّقيتُ أخبار الموت بأشكال عديدة، لكنّ غالبا ما تكون طريقة الصراخ بهيستيريا، وترديد اسم الميّت، نوعاً أخر من موت الأحياء. فكّرتُ وأنا أهبط الدرج، أنّ أمّي فاطنة أخيراً سترتاحُ، وسيتسنى لها النّوم دون أن تفكّر في مصاريف الغدّ، كما أنّها ستكون في مآمن ولن يتعقّبها أبداً المخازنية ليتلفوا بضاعتها مثل ما يحدثُ دائمًا. أمام البيت، كانت فوضى عارمة، الصراخ يخرجُ من كلّ مكان، والجميع يردّد: ماتت أمّي فاطنة، توّقفت أمام الباب، ريثما يفرغُ البيت بعض الشيء.

سمعتُ أحدهم يقول: لقد كانت مريضة، هذا السرطان ابن الحرام لا يتركُ أحداً في سلام. كنتُ سابقًا قد سمعتُ شائعات أنّها مصابة بالسرطان، لكنّني لم أكن أصدّقها، خاصّة وأنا أراها كلّ يوم في الشارع تفرشُ بضاعتها، وهي تردّد للزبائن: خذوا إنّه بيضٌ بلديّ وجديد؛ بينما كان السرطان ينهشها من الداخل، شيء شبيه بالتقطير، قطرة قطرة.

تعيشُ أمّي فاطنة منذ أن عقلتُ من مداخيل بيعها للبيض القليلة، وحيدة، في منزل مكوّن من مطبخ وغرفة المبيت ومرحاض، امرأة في السّتين من العمر، لم تكن أبدًا لتنحني يومًا ما للتسوّل، ظلّت هكذا سنوات طويلة، لا تعرفُ إطلاقًا طريقًا للكسل، وكنّا جميعاً نقول أنّ هذه العجوز، لن تطرق باب أحد طلبًا للمساعدة، بابها الوحيد الذي تطرقهُ كلّ الوقت هو: البيض. يكفيها فقط أن تعتني بدجاجاتها، وها هو الباب مفتوح أمامها على مصراعيه. عجوز بنفس مائة امرأة، حتّى والمخزن يتلفُ بضاعتها، لم تكن لتطرقَ باب أحد، بينما أخرون كانوا يقدّمون الرّشوة وينحازون إلى صفوف المخزن، ظلّت هي تغرّد وحيدة، وترفضُ كلّ أشكال الانحيازات، لتتقرّب إليه.

كنتُ أتحدّث معها أحيانًا قليلة، تحدّثني أحيانًا عن نضالات والدها ضدّ الاستعمار وكيف انتهى به المطاف، برصاصة في الرأس، وعن حال السوق… لكنّها لم تحدثني يومًا عن حياتها الخاصّة، وعن عائلتها ما عدا والديها، بل حتّى أسئلتى فيه هذا السّياق كانت تحاول بمكر امرأة، أن تتجنّبها بطرق عديدة. لكنّ مع ذلك، كنتُ أعرفُ أنّ هذه السيّدة تحملُ أسرارًا كثيرة، وقد تبقى هذه الأسرار، هكذا: سرّ، إلى أن تموت. كانت أحاديثها، لا تخلوا من الشغف، كمن يحكي حجايّة هاينة، ويصل فيها إلى إمساك الغول بها، ويقول لك: إلى الغد. عجوز لكنّ مع ذلك تجعلك تتعلّق بها، قد لا تربطك بها أي صلة، بل قد تكون مجرّد زبون لها، وتشعرُ بالتعلّق بها، يكفي فقط أن تتحدّث معك.

مع الزحمة داخل البيت، كان عليّ أن أنتظر كثيرًا أمام الباب لذلك، قرّرت أن أعود إلى المنزل ريثما يغسلوها. قرأتُ بعضا من نيتشه، قبل أن أرتدي معطفًا  وأضع قبعّة على رأسي وأخرج. كانت، للتوّ قد بدأت تمطر. رأيتُ حشدًا من الرجال أمام بيت أمّي فاطنة ، قلت في نفسي: ربّما انتهوا من تغسيلها. وقفتُ بعيدًا بعض الشيء عن الحشد، لم يكونوا غرباء، فقط الجيران. وما هي إلّا دقائق حتّى أخرجوا، أربعة شباب أمّي فاطنة على النعش. لم تكن طريق المقبرة تبعدُ طويلاً. كانت الأمطار قد بدأت تهطلُ بغزارة، ونحن نلقي أخر النظرات على أمّي فاطنة، حتّى وقد صار بيننا وبينها الكفن، تخيلتها تضحك، وتتحدّث، وتردّد: خذوا إنّه بيض بلديّ وجديد. انتهينا من الدفن، ونحن نلمّ بالخروج من المقبرة، سمعتُ أحدهم يقول: العشاء مساءً، لقد تكفّل بعض المحسنين بالمصاريف.

كنت قد امتعنتُ منذ سنوات عن الحضور لعشاء الميّت، وقد بدأتُ أرَ الأمر غارق في العبث. رجلٌ أو امرأة أو شاب أو طفل صغير، يموت؛ وأنت بكلّ برودة تأكل الدجاج واللّحم، وتهضم ذلك بالليمونادا. ما هذا؟ عرفت أنّ هذا المساء لن أخرج، تنتظرني ليلة طويلة مع نيتشه. فكّرت في أمّي فاطنة، مساءات كثيرة وطيلة سنوات، رأيتها من النافذة، تذهب إلى بيتها، حاملة معها سلّة البيض، وها هو هذا المساء على غير العادة، تبيتُ في حفرة. قلت في نفسي: الموت هو أن تنتقل للمبيت في حفرة.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون