خرائط الوحدة

تشكيل
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمود عبد الدايم

لو تأخرت «أمنية» دقيقة واحدة قبل مغادرتها «حديقة جروبي»، أو أنصت «كمال» إلى نداء «الآيس كريم»، أو لم يلق الفتي ذو العشرة أعوام علبة العصير الفارغة في أثر الكلب التائه، ما كان لهذه القصة أن تروى.. الثلاثة جمعتهم إشارة المرور، الضوء الأحمر الشاحب الذي يعلو الشاشة، الأرقام الحمراء التي تتحرك برتابة.. الشارع شبه الخالي في وقت الصباح، جميعها «تصاريف قدرية» وضعتهم على استقامة خط «انتظار الأخضر»، لكن لم ينظر أي منهما إلى الآخر.

انعكاس هيئتهم على زجاج «فاترينة» محل الملابس الشهير، لم يجذب أي منهم للنظر، بل يمكن القول أن الثلاثة كانوا يبحثون عن أسباب تنقذهم من لحظات تدقيق النظر إلى وجوههم وأجسادهم.

في انتظار انقضاء لحظات الانتظار.. تشاغلت «أمنية»  بالبحث عن لا شيء في حقيبة يدها، في محاولة بائسة منها لتجاهل النظرة الوقحة التي لاحقها بها حارس «الكافيه» العتيق.. أما «كمال» – كعادته- ألقى نظرة متفصحة على واجهات العمارات من حوله، باحثًا عن الأخطاء الإملائية التي تملأ اللافتات الباهتة المعلقة (عيادات الأطباء، مراكز التجميل، ومكتبات بيع الكتب).. وانزوى الكلب منكمشًا بجانب عامود إشارة المرور، لاهثًا بعد رحلة هروب قصيرة من «طفل علبة العصير الفارغة»، لا يقدر أن يتقدم خطوة واحدة لعبور الشارع، خوفًا من الدهس، أو طلقة طائشة تنهي حياته، تخرج من بندقية أحد صائدي الكلاب الضالة الذين أطلقتهم الحكومة مؤخرا أملًا في إخراس ألسنة سكان المنطقة الراقية.

90 ثانية انقضت.. أعادت «أمنية» خلالها ترتيب مظهرها ثلاث مرات، «كمال» التقط 10 أخطاء من بين 15 لافتة دقق في أحرفها، في حين اكتفى الكلب  بمراقبة المشهد، وعندما تأهب كلاهما لعبور الشارع بعدما سطع اللون الأخضر، هز الكلب ذيله وانطلق مسرعًا لعبور الشارع، ثلاثتهم كانوا يحاولون الحفاظ على مسافة آمنة تقيهم شر البقية.

(1)

«أُمنية»

كانت تحتاج «أمنية» لحظة للانفراد بنفسها.. بعدما أحكمت إغلاق باب غرفتها عليها، واطمأنت إلى بقاء نافذتها على وضعها الدائم، مغلقة حتى إشعار آخر.. فردت أمامها خريطة العالم، تجاهلت المناطق التي سبق وأن ظللتها باللون الأسود، ألقت نظرة متأنية للخريطة التي احتوها بين يديها، تراجعت ثلاث خطوات للوراء وبدأت تنزع ملابسها، قطعة تلو الأخرى.. تعرت تمامًا.. ودققت النظر في البقعة الجديدة التي ظهرت ليلة أمس بالقرب من قلبها.

«أوروبا.. أخيرًا.. أهلًا أهلًا».. نطقت بها «أمنية» بينما تجري قياس بعينيها للمساحة البيضاء التي احتلها المرض في جسدها المنعكس على مرآة غرفة نومها، المساحة التي زحف إليها المرض كانت قريبة الشبه بحدود القارة العجوز، غير أنها بيضاء تمامًا، خالية من زُرقة المتوسط وثلوج قمم الجبال، بياض قهر اللون القمحي الذي انفردت به «أمنية» دون بقية شقيقاتها.. دققت النظر في القارة الجديدة الموشومة على جسدها.. وخرجت منها تنهيدة قبل أن تقول: «فاضل كده 3 قارات وأبقى كوكب».

في الخامسة عشر من عمرها فوجئت «أمنية» بنقطة بيضاء تشق طريقها تحت ذقنها، كانت قد ورثت الذقن المدبب هذا من أبيها، «الخالق الناطق أبوكِ»، في كل مرة تغضب «أمنية» وتعقد حاجبيها وتزم شفتيها فيظهر ذقنها حادًا مدببًا، كانت تلاحقها أمها بالجملة ذاتها:«الخالق الناطق أبوكِ»، حتى رحل الأب قبل عام من بدء ظهور «البُقعة البيضاء».

3 أشهر كانت كافية لتشخيص «البُقع البيضاء»، الطبيب أخبر والدتها أن «الفقدان» سبب المرض، بعدما حدثته عن الأب الراحل، والابنة التي ورثت عنه كل شيء في شكله وطباعه، عن الأسابيع التي قضتها «أمنية» صامتة، الأدوية التي وصفها الطبيب لم توقف تكاثر البُقع، أخبرها من البداية أن العلاج داخلها، كتب لها جلسات علاج ضوئي بالأشعة فوق البنفسجية، قال: «مجرد محاولة.. الأمل في تحسن مزاجها».

ازدادت المساحة البيضاء، في البدء ظهرت البُقع في شكل دوائر غير مكتملة، مربعات دائما كانت ناقصة ضلع، قلوب بيضاء هي الآخرى بدأت تتشكل، ونجمة وحيدة لاحت على ثديها الأيسر ، لكنها كانت شديدة البياض، مختلفة بعض الشيء عن بقية الأشكال التي تتزاحم لفرض سطوتها على جسد الفتاة الصغيرة.

بهدوء لطالما امتازت به.. تابعت «أمنية» غزو الأبيض لجسدها، رفضت محاولات أمها لإقناعها ارتداء النقاب، قالت: «سيقبلني العالم كما أنا أو أرفضه كما هو»، في العام الثالث توقف توسع البقع البيضاء، اكتملت القلوب، لكن بياضها كان شاحبا، النجمة الوحيدة تاهت في الأبيض الذي حاصرها، لم تبق منها إلا ذكري وصورة واحدة التقطتها لها «أميمة» بينما كانت تتبع مسار المرض مثلما اعتادت بعد كل جلسة إشعاع.

(2)

«كمال»

وحيدًا.. وقف «كمال» يواجه «فاترينات» المحال الزجاجية، في رحلة البحث عن مقاس مناسب في الملابس بعدما أسقطته الوحدة في فخ  الإصابة بـ«السمنة» حزنًا على رحيل والده،  يحاول تحديد اللون ، المقاس المناسب، القميص الطويل.. البنطلون الواسع.. لينهي مهمة الشراء سريعًا عله ينجو بنفسي من «سخافات» البائع التي ظل يطلقها في المرات الأولى بعدما اكتشف أنه المحل الوحيد الذي يوفر المقاسات المناسبة لـ«البدناء» أمثاله.

كان يقف خجلًا أمام «الفاترينات» محاولًا تجنب، ومسرعًا أشار للبائع، الذي لم يمل من التحديق فيه، إلى الألوان التي تناسبه، وبصوت منخفض نطق بـ«رقم القياس»، وحمل ملابسه الجديد وخرج.. مسرعًا.

في غرفته الوحيدة التي يقطنها منذ 3 سنوات، بمنطقة «وسط البلد»، وقف «كمال» عاريًا أمام مرآته، أزاح القطعة الأخيرة من ملابسه، دقق النظر في الخرائط العشوائية التي أصبحت تزين بطنه، كفيه، جانب وجهه الأيمن، لم يكن هناك جديد، قرر أن المرض لم يتقدم اليوم، منحه هدنة بعد معركة امتدت منذ لحظة سقوط خطيبته في مياه نهر النيل، بعدما غافلته وألقت بنفسها من أعلى كوبري قصر النيل، كانا يقفان في منتصفه تحديدًا.  

تفاصيل اللقاء الأخير لا تزال محفورة في ذاكرة «كمال»، يومها.. أعادت خطيبته «أماني» على مسامعه شكواها من والدتها، أخبرته عن ثقب جديد اكتشفته في باب الحمام، الثقب الذي صنعه – كما سابقيه- زوج أمها، ليتمكن من التلصص عليها.

لم يكن «كمال» يقوى على مواجهة صاحب العيون المتلصصة من خلف الأبواب المغلقة على جسد زوجة المستقبل، حاول تبرير تخاذله أمامها برغبته في إغلاق كل الأبواب أمام زوج الأم حتى تكتمل الزيجة، لم يكن يريد ثقبا واحدا يسمح له بالتسلل إلى عقل أمها وإقناعها بأن صديقه الزوج المثالي لابنتها أفضل من الـ«الواد الخرع اللي سحبته وراها من سوق الخضار».. واصفًا «كمال».

(3)

«الكلب»

نقطة بيضاء في مقدمة أنف الكلب الذي لا يمتلك اسم، شأنه شأن بقية كلاب الشوارع التي  ولدت في الشارع، بلا صاحب، ضحايا عمليات تزاوج عشوائية جرت في منتصف شارع مزدحم بالمارة والسيارات، أو في ركن مظلم بعدما سحبت رائحة الأنثى، الراغبة في ذكر والسلام، أول كلب التقط بحاسة الشم دعوة الجنس المجانية.

قطعا.. لن يتذكر الكلب المجهول أنه لم يولد بالبُقع البيضاء التي تحولت إلى ما يشبه الخرائط، احتلت أنفه وزحفت إلى مقدمة رأسه وخلف أذنه، ولا تزال تزحف كأفعى خطرة ناحية الظهر والبطن، وإن كانت لا تزال تؤجل احتلال القوائم الأربع إلى حين.

الذاكرة الخائنة التي يمتلكها كلبنا مجهول النسب ، على غير طبيعة الكلاب التي تتقن التذكر جيدًا، لن تستدع اللحظات القاسية التي ظل خلالها مختبئا بينما يحاول عمال البلدية التأكد من موت أمه المجهولة بعد قنصها.. الذاكرة ذاتها لن تعيد عليه صورته المهتزة المنعكسة على مرايا مدخل العمارة العتيقة التي أدخلتها الحكومة في قائمة التطوير بحثا عن مجد قديم.. لن تجعله الذاكرة المتواطئة مع قناص الكلاب والحكومة، يتذكر اللحظات التي سبقت لحظت رحيل أمه التي كانت تداعب أنفه الخالي من أي بقعة بيضاء قبل أن تعاجلها الطلقة الغادرة، وقطعًا لن تذكره بالرعشة التي تحكمت في قوائمه الأربع وهو يحاول بفعل الغريزة أن يبتعد بكل ما يمتلك من «غريزة البقاء» بعيدًا عن جسد أمه.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون