من دفاتر محمود (السرية)

محمود جنداري
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

قيس عمر

تجسير بيوغرافي*[1]     

لا شكّ أنّ لكلّ كاتب كبير حلماً أكبر من منجزه، يبقى هذا الحلم يواصل حضوره عابراً تخومَ الكتابة وخرائط المدن، والبوابَات الفاصلة بين الحياة والموت، ولا يملك الكاتب إلا أنْ يبقى معتمراً عمامة الشكّ والوسوسة ، يبقى الكاتبُ الكبير محتفظاً بدفتر سريّ يحاول أن يخفيه عن عين الزمن السرية؛ لهذا تراه يتنقل مع دفتره السريّ عبر مجرى الزمن وانحناءات الحروب وحدائق ملوكها الخلفية، متخفياً من عيون المتلصصين، و(محمود) واحد من أولئك الكبار الذين يواصلون إخفاء دفاترهم، دفاتر الخطّاطات السردية ، الذي يدوّن فيه مشاهداته وأفكارَ قصصٍ قادمة تولد في ليل الحياة وضمور المصير، وبعضَ الجمل التي تولد بشكل غامض وغريب؛ ولهذا قسّم (محمود) دفترَه السّريّ على ثلاثةِ أقسامٍ متناظرة بالحجم:

أوّلاً: سيد الأحلام المبتورة(عائلة غير بيولوجية للقص).

ثانياً: الموصل وأبوابها التسعة.

ثالثاً: جمل لا يمكن تحبيرها إلّا على شواهد القبور.

سيد الأحلام المبتورة والمؤجلة (عائلة غير بيولوجية للقص):

يرحل شغيلة الأدب الكبار وهم يحملون حلماً مبتوراً، ويحدث أن يتم تدوين هذا الحلم في نصوصهم  كلها، فيكون مثل شبكة ترتمي فيها النصوص بوداعة كبيرة…، شبكة تكون إطاراً لكل النصوص التي كتبوها، وحلماً يقيم في رأس القصّة لا ينام أبداً مع كل كتابة وتدوين وهسيس ، وأنا ازعم أني من الذين يعرفون بحلم (محمود) الكوني الذي بقي طيلة حياته ينافح لأجله، ولعل حلم (محمود) من الأحلام البسيطة والواضحة والتي يمكن تحقيقها للوهلة الأولى، لكن مع مرور الزمن اكتشفَت عظم هذه الأحلام الواضحة وخطورتها، إذ أنّ خطورتها تكمن في ضراوة وضوحها، و ستكتشفون معي جسامة وفداحة هذا الحلم الذي لم يتحقق.

إن حلم محمود ببساطة حلم مبثوث في كل سردياته ،إنه حلم يشبه خطوة الضوء ..خطوة  تدس وجهها في ريح الكتابة وليلها المعقوف، لقد حلم (محمود) بجيل قصصي بعده يكمل مشروعه القصصي الكبير، جيل يعمل على تشغيل ميكانزمات الأمام وآليات المغايرة ؛ ليكون هناك كتّاب يأتون من المستقبل دوماً كما فعل محمود، لكنّ هذا الحلم رغم بساطته بقي مبتورا، ولكن لنعد إلى (محمود): لماذا يا ترى كان حالماً بشيء واضح لأوّل مرة في حياته؟

فكرت كثيراً: ماذا سيحدث يا ترى إذا لم يحدث هذا الحلم ولم يتحقق بالشكل الذي حلم به (محمود)؟، يبدو الجواب بعد البحث والعناء أن كل كاتب كبير يحلم أن تكون لديه عائلة بيولوجية مثل بقية الناس، ويحلم أيضاً بعائلة سردية ينتمي إليها، لكن حدث ببساطة أن (محمود) استمر بيولوجياً عبر عائلته، ولكنه مات عقيماً على المستوى السرديّ فقد بقي (محمود) فرداً وحيداً، قادماً من المستقبل، وبقيت سردياته صانعة إشكاليات وسابحة في مجرات لا ساحل لها  ، ومجترحة لتحولات عنيفة وهائلة على مستوى القصة العربية.

رحل (محمود) وله عائلة بيولوجية، رحل (محمود) بدون عائلة سردية تكمل مشروعه الكبير، وبقيت نصوصه وحيدة في هذه المدينة، تحاول أن تكوّن جيلاً طليعياً مؤمناً بالتحولات والاجتراحات، إذن: لا غرابة أن يكون (محمود) حزيناً وحانقاً على المزاج السردي في الموصل على الأقل!

الموصل وأبوابها التسعة:محمود جنداري

بقيت الموصل مطوقة بالأبواب خائفة من كل آخر، يحاول دخولها عنوة أو مصالحة أو مكراً أو صداقة، بقيت الموصل تحتفظ بأبوابها المهيبة، وكثيراً ما كنت اخطط لكتابة كتاب قصصي ينهض على أبواب الموصل التسعة، وكثيراً ما تمنيت أن أُجلِس الرواة على أبوابها ليتحلّق المواصِلةُ حولهم، وضعت خططاً كثيرة لقصص تتكون على أبواب الموصل، وتكون مادة هذه القصص حيوات التواريخ وفناءاته السرية، فكّرت كثيراً بالسرّ الكامن خلف بقاء هذه الأبواب: (باب الطوب، باب جديد، باب سنجار، باب البيض، باب لكش… إلخ)، وفي ليلة صيفية مقمرة استلقيت على فراشي في سطح منزلي، وأخذتني سِنة من النوم شاهدت فيها حلماً غريباً، لقد شاهدت رجالاً يهرولون نحو بوابات الموصل وأسوارها وهم يحملون الرماح والسيوف والخناجر المنقوعة بخلاصات سموم العالم، كان الرجال يهرولون نحو أبواب الموصل كنت خلفهم أبصرهم جميعاً وهم يطلقون صرخات تشق صمت الليل وتصطدم بالأبواب المنيعة للموصل، وصل الرجال إلى أبواب الموصل وراحوا يهزونها بجنون محاولين خلعها، واصل الرجال في الحلم تحطيمَ الأبواب وحرقَها وهم يطلقون صراخهم، صمدت الأبواب طويلاً وحرست المواصلة من التحطمات البربرية، بينما من داخل الموصل على أبوابها شاهدت تسعة حكّائين كبار يجلسون خلفها، ويطلقون حكاياتهم في ليل الحروب لتعبر وجوه المواصلة نحو الجهة المنفكة من الحياة، كان هذا حلمي الصيفي الذي توهج في ليل الموصل، حاولت بعد ذلك الحلم كتابة حكاية عن هذا الطقس الغريب كيف استطاع المواصلة الجلوس والاستماع للحكايات، بينما خارج أبواب الموصل يحاول الرجال البرابرة القادمون من كل بقاع العالم تحطيم أبوابها، مرت أزمنة وتعاقبت حكومات وتلاشت أبواب الموصل وتحطمت بفعل الزمن، لكن الغريب أنها بقيت قائمة في رؤوسنا مثل تميمة تحرس ليل الموصل الطويل وتطرد عنها السكين التي تحاول قطع مشيمة العالم الأولى.

جمل لا يمكن تحبيرها إلّا على قبر مهيب يسمى قبر العالم:

  • (أبي كان مهاجرا ضمن رؤوس عديدة تتراكض دون توقف) أبشرك يا محمود كلنا صرنا نمتلك رؤوسا تهاجر في الليل راكضة نحو الانطماس
  • (في الليل يقف التاريخ كحارس بلا بندقية) لاشك فالبندقية صارت وشما للتواريخ يا محمود
  • (الآن دخلنا معا زمن البوح فعلّمني كيف يستطيع الحجر أن يتكلم).لقد تكلم الحجر يا محمود في الموصل القديمة فقط هذه معجزتنا بعدك
  • (كلما هاجر نبي سقطت مملكة . وكلما سقطت مملكة ظهر نبي). وهكذا يا محمود تواصل المدن غرقها في الوحل
  • (خذوا مسرجة الدم وأعيدوا مسرجة الضوء إلى أهلها). لم يعد يا محمود للموصل لا مسرجة ولا ضوء
  • (الرؤوس التي رفعت عنها السيوف ونجت تشم رائحة التراب والدم والصلاة القائمة) تماما يا محمود لقد أعملوا فينا سيوفهم حتى تثلمت.

………………………

*–  هذا التجسيّر البيوغرافي كتب بمناسبة حفل توزيع جائزة محمود جنداري في القصة عام 2018

 

مقالات من نفس القسم