حاورها- طامي السميري
في رواية وراء الفردوس تآخت المهارة في الحكي والتقنية السردية العالية، فالروائية المصرية منصورة عزالدين تكتب الحكاية بروح الفنانة التي تدرك كيف رسم الشخصيات عندما تكتب بحب وبحرفية تعلق بذاكرة القارئ وهذا ما فعلته، أيضا فالروائية هي من جيل التسعينات الذي يريد ان يمارس استقلاله السردي في مشهد الرواية المصري. لذا قدمت الريف في روايتها بنكهة مختلفة وفي هذا الحوار نتعرف على رؤية المؤلفة عن روايتها ” وراء الفردوس “التي كانت من ضمن الروايات المرشحة لجائزة البوكر لهذا العام :
* ظيا زوج سلمى يقول : “لا أمل فيكِ . لن تنضجي أبداً ، لن تصيري شخصية واقعية على الإطلاق ” هل هذه العبارة تلخص شخصية سلمى؟ وعلى الجانب الآخر، ما هو مأزق سلمى في تصورك؟
– العبارة لا تلخص شخصية سلمى بقدر ما تدلنا على رؤية ظيا لها ولمشكلتها. الرواية بشكل عام ضد أن تكون هناك رؤية واحدة ثابتة ومستقرة لشخص أو حدث ما، طوال الوقت كان هناك نوع من الهدم المستمر لتصورات تبدو ثابتة، في محاولة لإيجاد نوع من تعدد زوايا الرؤية. ولأضرب مثالاً على ذلك بمقطع في الفصل الأول يصور رؤية سلمى لنفسها كشخصية قمرية مخادعة اختلست أشعة صديقتها ودفئها، وعلى الفور في الصفحة التالية نجد تشكيكاً في هذا إذ يقول الراوي “قد لا تكون سلمى هي القمرية المخادعة بل جميلة، فهي التي سرقت حلم سلمى وحياتها حين أخذت اسمها، أو على الأقل هذا ما باتت تظنه سلمى في السنوات الأخيرة”. بالنسبة لمأزقها فسلمى في لحظة (الآن وهنا) في الرواية تعاني من نوع من الانهيار العصبي بعد وفاة والدها ونتيجة إخفاقات حياتية متنوعة بعضها شخصي بحت وبعضها الآخر له علاقة بمجتمع لا يتيح لأفراده فرصة التطور الطبيعي لاختبار فرديتهم وتحقيق أحلامهم. أراها بالأساس في الأجزاء التي تسردها، وفي الأحيان التي يسرد الراوي العليم من وجهة نظرها، أراها راوياً مشكوكاً فيه ومخادعاً بشكل أو بآخر. راوٍ نظرته للواقع من حوله مهتزة وغير موثوق فيها. الفقرة النهائية في الرواية تحمل تشكيكاً محتملاً في كل ما روته سلمى، بل وحتى في أحداث الرواية بالكامل.
– في الرواية أكثر من حالة انتهاك جسدي، كما حدث لشخصية لولا، بشرى، جميلة. لكن ردود الفعل تتباين بين شخصية وأخرى، فبشرى تعيش حياة جديدة مع جابر الذي انتهك جسدها بينما تروح لولا ضحية صمتها ومكابرتها بعدم الاعتراف بالفاعل، أما جميلة فتجعل من تلك الحادثة محرضاً لأن تمضي في طموحها الحياتي. سلمى هي الوحيدة التي تشكك من حادثة الطفولة. وبهذا الالتباس في ذاكرتها تعيش هذه الذاكرة مأزقاً مع ماحدث ومالم يحدث.
ـ كيف تقرئين حضور تلك الحالات ؟
– أعتقد أن الحالات الثلاث الخاصة بلولا وبشرى وجميلة تتباين منذ البداية وبالتالي يجب أن تتباين ردود الفعل عليها، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار الاختلافات بين الشخصيات الثلاث سواءً لجهة مستوى التعليم، والوعي، والطبقة. أحب أن أرى لولاّ كعاشقة مثلاً رفضت التصريح باسم والد جنينها حمايةً له. أما بشرى فتقع حالتها على التخوم بين الواقعي والغرائبي، فأرملة مثلها تعاني من الحرمان الجنسي والعاطفي تثق تماماً أن زوجها الميت يزورها شهريا بل وينام معها، والرواية تترك هذا في وضعية الالتباس بحيث لم تجزم هل هو شبح زوجها فعلاً أم مجرد هواجس امرأة وحيدة وفقيرة، وعندما تحدث علاقة بينها وبين جابر الذي ظنته شبح زوجها، وبالنظر لطبيعة الشخصية وظروفها الاجتماعية والاقتصادية في هذا المجتمع الريفي المحافظ، من الطبيعي أن توافق على عرضه للزواج منها، باعتباره تصحيحاً للخطأ الخطيئة التي حدثت. ما قمت به هو أنني تقمصت وعي بشرى ورأيت أن رد الفعل الذي قامت به مناسب لها تماماً. أما فيما يخص جميلة، فمن الصعب أن نصف ما حدث بينها وبين هشام بأنه انتهاك لها. أما سلمى فحادثة طفولتها مشكوك بها بالكامل، هي كما جاء في هذا الفصل تقوم بتضليل طبيبتها وتخلط بين حياتها الواقعية والرواية التي تكتبها، ما تحكيه للطبيبة في جلسة تعود لنفيه وانكاره في الجلسة التي تليها، نحن هنا أمام وعي مضطرب ومراوغ.
* وأنتِ تكتبين عن الريف المصري وهو مكان ينتج شخصيات نمطية، تكررت ملامحها في الروايات المصرية، ألم يداخلك هاجس إعادة إنتاج تلك الشخصيات في نصك؟ وما هي الرؤية المختلفة، في تصورك، التي يجدها قارئ “وراء الفردوس” ؟
– لم أنظرل”وراء الفردوس” باعتبارها رواية ريف، أعتقد حتى أن التقسيم التقليدي إلى رواية ريف ورواية مدينة لم يعد ملائماً. عدد كبير من النقاد الذين تناولوا الرواية لاحظوا اختلافها عن تقاليد رواية الريف في مصر، من حيث زاوية الرؤية وتقنيات الكتابة. “وراء الفردوس” تتناول مجتمعا زراعيا في لحظة تحوله للتصنيع ولو بشكل عشوائي، بكل ما تحمله عشوائية التحول من آثار ونتائج على وعي الشخصيات وعلاقتها بالمكان، وعلى التراتب الطبقي، وأيضا على الخلفيات الميثولوجية والأسطورية. الرواية أيضا حافلة بشخصيات مدينية أو ذات وعي مديني، وشخصيات تنتمي لثقافات أخرى سواءً غربية أو شرقية، والمآزق الوجودية التي تعاني منها معظم شخصيات الرواية هي مآزق يمكن أن تجدها لدى شخصيات في أي مكان بالعالم. لو نظرنا مثلاً لشخصية بدر الهبلة على سبيل المثال ستجد أنها مقدمة بطريقة مختلفة تماماً عن صورة عبيط القرية كما ظهرت في روايات سابقة، لست أقول أنها أفضل، فقط أقول انها مختلفة وبعيدة عن الطابع الفولكلوري. هي مرسومة بالأساس كإنسان يتعامل مع نفسه كإنسان سوي لديه الحق في الحب والبحث عن التعاطف والاهتمام، ولديه بالأساس درجة عالية من الكرامة تدفعها للغضب حين يتزوج جابر من أخرى هي بشرى. لفت نظري في هذا الصدد إشارة أحد النقاد إلى أن الرواية قامت بنوع من التأنيث لكثير من العناصر التي لطالما كانت ذكورية في رواية الريف في مصر، مشيراً في هذا الصدد إلى الشيخة شمس وبدر الهبلة، وهو شيء لم أقم به عن قصد ولم أخطط له.
* في تصوري أن الرواية لا تعالج قضية ما .. ولا تتحدث عن التغيرات الاجتماعية في مجتمع الريف. الرواية كانت تعلمنا كيف للذاكرة أن ترصد تاريخها العائلي. هل تتفقين معي في ذلك ؟
– أوافقك لدرجة كبيرة في أن الرواية هي بالأساس عن الذاكرة، وكيف يمكنها أن تمسك بما يصعب الإمساك به، في صراعها مع النسيان، ولعل من أهم ما كُتب عن الرواية من وجهة نظري هو مقال الناقد الكبير فيصل دراج عنها، لأنه تجاوز في قراءته الحدوتة الظاهرية، ودخل لعمق الأسئلة التي يطرحها العمل، أو الطبقات التحتية له. قرأت مقاله بدهشة وإعجاب كبيرين لأنه كتب كما لو كان يعرف بالضبط الأفكار التي شغلتني وتوقفت أمامها أثناء كتابة العمل. الذاكرة هي البطل الأساسي في الرواية، وقد تندهش أنها كانت البطل أيضا، لكن بشكل آخر، في روايتي الأولى “متاهة مريم” التي صدرت طبعتها الثالثة مؤخرا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، إذ وجدت البطلة مريم نفسها وجها لوجه أمام خيانة ذاكرتها وتنكرها لها، لتكتشف أنها بدون هذه الذاكرة بلا هوية ولا وجود حقيقي واقعي، لأن حياتنا في النهاية هي ما نتذكره منها لا كل الذي عشناه. على المستوى الشخصي أجد أن الكابوسين الأصعب بالنسبة لي هما فقدان الذاكرة أو فقدان العقل، ربما لهذا ستجد أن ثنائية الذاكرة- النسيان، العقل- الجنون ثيمات أساسية فيما أكتب. لكن على الجانب الآخر هذا لا ينفي البعد الاجتماعي أو البعد النفسي أو البعد الغرائبي ل”وراء الفردوس”. أعتقد أنها خليط من كل هذا، لكني أسعد كثيراً حين تتجاوز القراءة السطح الظاهري لتغوص في الأسئلة الكامنة وراءه، أو لتتوقف عند التقنيات الفنية المستخدمة على مستوى الزمن أو البناء، أعتقد أن الزمن في الرواية لم يتوقف كثيرون عند آلياته باستثناء د. أمينة رشيد، ود. إليوت كولا المترجم والأستاذ بجامعة جورج تاون الأمريكية.
* صابر، بدر الهبلة، كرم الغريق، لولا. تلك الشخصيات بين الموت والهرب غابت عن النص بينما بقي فعلها مؤثراً في شخصيات الرواية. كيف تقرئين فلسفة الحضور والغياب لتلك الشخصيات ؟
– أشكرك على هذا السؤال. لأنك من خلاله وضعت يدك على نقطة محورية في العمل، هي تلك الخاصة بتأثير الماضي على الحاضر، وتأثير الغائب على الحاضر، والهامشي على المتن. مثّل ذلك تحدياً لي أثناء الكتابة، إذ كنت أطمح في أن أصل بالشخصيات الهامشية، حتى التي ظهرت في مشهد واحد أو مشهدين كبدر أو صابر، أو لولا وكرم، إلى أن تكون في قوة الشخصيات الممتدة مع القارئ على مدار الرواية ككل. عادة ما أبدأ أي عمل بتجهيز ما يشبه الملفات الصغيرة للشخصيات، وهذا ساعدني كثيراً مع الشخصيات الهامشية، كنت كأني أراها من كثرة التفاصيل التي دونتها عنها بعيداً عن الرواية نفسها، بعض هذه الشخصيات كتبت عنها صفحات مطولة، قمت باختزالها في المرحلة النهائية من الكتابة وأقصد بها مرحلة البناء، وأبقيت منها فقط على ما يدفع بالأحداث للأمام، أو ما ينير الشخصيات الحاضرة أو الرئيسية، لكن مع التركيز على نقاط القوة في الشخصية، واكتشفت أن هذا الاختزال جعل هذه الشخصيات أكثر حضوراً رغم اختفائها السريع، جاءتني ردود افعال كثيرة من قراء عاديين ومن نقاد وكتاب معظمها أجمعت على قوة الشخصيات الهامشية وتأثيرها. شيء آخر خاص بفكرة الغياب في الرواية، له علاقة بالتمرد أو الخروج على قيم الجماعة، معظم الشخصيات التي تمثل خروجاً على هذا المجتمع القامع الرافض للاختلاف تم تغييبها بشكل أو بآخر، بدر كانت صوت الجنون في عالم عاقل ظاهرياً فتم تغييبها بالاختفاء، كرم كان خارجاً عن تقاليد طبقته وعائلته هو القارئ المتعلم وسط أسرة ليست كذلك فاختفى بالغرق، لولا الحالمة العاشقة في سياق لا يسمح بهذا وصلت للانتحار، وهكذا.
* الأحلام والحكايات الشعبية والخرافات، لم يتم التعاطي معها على أنها حالة غيبية تماما، بل كانت تتشكل في نسيج حياة أبطال الرواية، لذا فإنّ المسافة بين الخرافة والواقع كانت ضئيلة. أليس كذلك ؟
– ليس دور الفنان أو الروائي أن يتعامل مع الأحلام والخرافات على أنها غيبيات، ربما يكون هذا دور المفكر أو عالم الاجتماع مثلاً. الروائي هو من ينظر للإمكانات الفنية والجمالية لهذه المادة الخام ويحاول الاستفادة منها بشكل جمالي. منذ قصصي الأولى أشتغل على العلاقة بين الواقع والحلم، بين الغرائبي واليومي المعاش، سوف تجد هذا في مجموعتي الأولى “ضوء مهتز”، وروايتي “متاهة مريم” غير أن هذا الجانب اختلف بعض الشيء في “وراء الفردوس” في العملين الأولين كانت الغرائبية تنبع من هلاوس اللاوعي أو الإيحاء بالجنون كون أن معظم الشخصيات كانت ذات وعي مديني، أما في “وراء الفردوس” فحاولت أن تكون الغرائبية ذات صلة بالمكان الريفي، لأجازف بالقول إنني حاولت تقمص وعي المكان ومن هنا حضرت الغرائبية عبر الميثولوجي والخرافي والأسطوري، حتى الأحلام حضرت هنا عبر تفسيراتها في التراث الإسلامي، بالاتكاء تحديدا على تفسير الأحلام الكبير للإمام ابن سيرين.
* كان السرد ناعماً وأقرب ما يكون إلى الدفء. اللغة كانت كذلك، فهل هذا هو نتاج لسرد الحكاية من قِبل سلمى، تلك الشخصية الحالمة؟
– أعتقد أن للمسألة صلة بالأسلوب الشخصي لكل كاتب، الذي أشبهه ببصمة الإبهام، لكن على الرغم من ذلك، احتوت الرواية على عدة مستويات للسرد، أولها سرد الراوي العليم وتميز بلغة فصحى جزلة تدعي الحياد وتقترب في بعض المواقع من لغة التأريخ . المستوى الثاني هو الخاص بالمقاطع الثلاثة التي تسردها سلمى وجاءت بلغة فصحى أكثر ذاتية وحميمية تناسب شخصية الساردة، هناك أيضا لغة الحدوتة الشعبية التي حاولت تقمصها في سرد حدوتة كمونة واستخدمتها نرجس في سرد حدوتة انتقام الحية لمقتل أبنائها، وهناك لغة الأجانب الركيكة حين يحاولون كتابة العربية كما ظهرت في خطاب كريستا إلى هشام. شعرت أثناء الكتابة أن تجاور هذه المستويات قد يعطي النص نوعاً من الحيوية والرشاقة.
* اهتمت الرواية بالشخصيات الذكورية التي تمثل جيل الآباء كجابر ورشيد وسميح، بينما أهملت الشخصيات الذكورية الشابة أو إنها اقتصدت في تعميق حضورها، كهشام وظيا وخالد. هل كانت تلك حالة متعمدة أم هي نتاج حالة فرضها النص ؟
– الاثنتان معاً، بمعنى أنها متعمدة لأنها نتاج لحالة النص، أو لأنها جاءت استجابة للإنصات لمنطقه الخاص. وهذا له علاقة بإجابتي عن سؤال الغياب والحضور. الرواية في جزء منها تتناول علاقة الماضي بالحاضر وتأثيره عليه، كأن هذا الحاضر هو رهين الماضي، من هنا جاءت شخصيات الآباء أقوى حضورا نتيجة لحجم تأثيرها على البطلتين الرئيسيتين وعلى المستقبل الخاص بهما. أما شخصيات هشام وظيا وخالد فاقتصدت فيها لأني أردتها لأدوار محددة، ظيا وعلاقته بسلمى يكشف لنا مشكلتها مع جسدها عبر زواجهما القصير، أى أنه جاء كمرأة تعكس جانباً مهماً من جوانب شخصيتها المركبة، وللعلم فهذه الشخصيات الذكورية الثلاث كان حضورها أكبر في الكتابة الأولى للعمل، ثم عملت على حذف الكثير من تفاصيلها وترك الضروري حفاظاً على إيقاع العمل ككل، إذ وجدت أن كثيراً من هذه التفاصيل كان استجابة لرغبتي في الحكي أكثر منه استجابة لمنطق العمل ومنطق شخصياته. وفي هذا الصدد لي مقولة أؤمن بها تماماً هي أن الكاتب الجيد هو من لديه القدرة على الحذف أكثر من قدرته على الإضافة.