(منتصف الحجرات) بين الموقف الشعري وبيانية اللغة

الموت البطيء في "منتصف الحجرات"
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أشرف الجمال

صدر حديثا عن دار ميريت ديوان ( منتصف الحجرات ) للشاعر المصري أحمد يماني .. ويعد يماني واحدا من شعراء قصيدة النثر المميزين في مصر, ذلك لفرادة أدبية تميز كتاباته من خلال توظيف أدوات فنية خاصة لصيقة بطقسه الشعري في بناء النص وتشكيل فضائه رؤية وتكوينا . ويكاد يكون الملمح الأظهر في كتابة الشاعر هو اعتماده على شعرية الموقف للتعبير عن الدلالة الفنية  وإيصال المحتوى الجمالي المنوطة به قصدية النص ورؤية الشاعر , فيماني لا يرتكز على بناء جمالية شكلانية تتكئ على بيانية اللغة وخطابتها الكلاسيكية التي تعتمد على آلية الانتقاء المعجمي للألفاظ البراقة التي تكتنز شحنة بيانية مفعمة بالتأثير استنادا إلى ميراث مردودها الجمالي في ذاكرة المتلقي , وإن لم تكن هذه الآلية معيبة في ذاتها وإنما من حيث التوظيف , لأن كثيرا من الشعراء المعاصرين نجح في توظيفها بشكل فعال وعميق لا ينتقص من حيوية النص وتفرده وتميزه الأدبي ..

لكن الشاعر في ( منتصف الحجرات ) يميل إلى توظيف آلية أخرى تتناسب وبنية قصيدة النثر لديه وهي آلية التعبير من خلال الموقف / الحالة , وترتكز هذه الآلية على صياغة العالم والوجود صياغة مشهدية قصصية دون سردية حكائية تخرج النص عن شعريته , وفيها تلعب الصورة الرمزية الدور الأكبر في التعبير عن المعنى الذي تؤديه لغة البيان , بحيث يقدم الشاعر المشهد أو الموقف الشعري القائم على الإشارة لا العبارة والتلميح لا التصريح ككاميرا تسجيلية تلتقط حركة الوعي وترصد تلك الرؤى الغائبة في اللاوعي بما تكتنه من مشاعر وآلام إنسانية ووجودية في مواجهة الشعور بضآلة الفرد ونسبيته وحتمية الصراع بين وجوده الخاص والعدمية في إطلاقها الجبري .

   فالشاعر يجيد من خلال اللغة الواقعية البسيطة غير الوهاجة بيانيا وارتكازا على الرمز أن يجعل المشهد الشعري بمثابة الأيقونة التي تجسد بنائية الرؤية والإيحاء للقارئ – جماليا – بضرورة تغيير نظرته للأشياء واستبطان ذاته , دون توجيه أو فوقية سلطوية تجعل من الشاعر شيخا والقارئ مريدا , وإنما يتحول النص إلى مجال حركي لغوي لتبادل التأثير والمعاناة والشراكة الوجودية بين كاتب النص وقارئه , فالشاعر لا يقدم حقائق روحه باعتبارها كشفا غير قابل للتأويل أو المغايرة وإنما يقدمها باعتبارها تجربة ذاتية مأزومة معرفيا , وسيرا وسلوكا في مدارج الرؤية لا وصولا وتجليا , وهذا هو ما يمنح كتابة يماني القدرة على ملامسة تخوم الفرد روحيا وشعوريا , لأنها كتابة مؤنسنة تستمد مشروعيتها من فرديتها الوجودية تساؤلا ومعاناة وإدراكا .

   وإذا كان الموقف الشعري هو لبنة صناعة التجربة فانه يمكن القول إن جمالية النص في        ( منتصف الحجرات ) تتنامى أفقيا من خلال النسق وهندسة الحالة والمشهد لا من خلال الجملة أو العبارة الاقتضابية التي تعول عليها الكتابة الكلاسيكية، وهنا تصبح الحقول المستعارة للتخييل من أهم المنابع التي يستمد النص منها جماليته . ويتحرك الشاعر في أكثر من حقل تخييلي يمنح صوره قدرة على إيصال الرسالة والتلون والتجدد من خلال إعادة تركيب وتفكيك بنية التصورات بشكل غير نمطي ليؤدي وظيفة غير تكرارية تستوعبها روح النص والمتلقي .

  ومن حقول التخييل عند الشاعر ( المنزل – الحجرات – الطريق – الجسد ) وهي حقول لصيقة بالفرد بحيث يمكن القول إن ( منتصف الحجرات ) صورة واقعية لشاعر وجودي من طراز فريد يدرك أن ثمة اثنينية وهمية حاضرة في بنية العالم والوعي به بين المادة والروح، والقبح والجمال، وهي سمة يجيد الشاعر توظيفها واستخدامها بشكل كبير مما يؤدي إلى إزاحة التصورات النمطية للعلاقات وإحلال تصورات أكثر دينامية محلها، وربما تتناقض مع حركة الوعي المألوف بها فتتحقق إمكانية أن ترى الروح في المادة أو الجمال في القبح .

    ويمثل الجنس داخل هذه الرؤية من خلال إشارات الشاعر المتوالية للجسد – ألما ورغبة وسقما وتعينا وجوديا – قيمة حميمية مغتربة يتنازعها تمرد فطري حنينا للبقاء والوجود، ويقين غريزي بالموت والعدم، فالجنس لدى الشاعر ليس مطلوبا لذاته وإنما هو بمثابة  مسرح لتجلي أزمات الفرد واغترابه وإحساسه بحتمية الموت وحنينه للبقاء ولو من خلال انعكاسه في الآخر، لأننا وفي ظل هذا الصراع المحموم بين الوجود والعدم، بين النسبية والإطلاق،

سنظل دائما في …. منتصف الحجرات .

يقول يماني :

وراء الباب نقف، أنا وأنتِ،

الباب الخشبي العتيق يفتح على ممر طويل في نهايته غرفة مغلقة،

لا نريد أن ندخل الغرفة ولا أن نعبر الممر،

نريد فقط أن نطرق الباب،

مرة أنت بالداخل ومرة أنا.

أطرق الباب ولا تفتحينه ولا تسألين من الطارق،

ثم تطرقينه أنت ولا أفتحه ولا أسأل من الطارق.

في هذه الأثناء القصيرة كنا قد “عبرنا بحرا وقف الآخرون بساحله”.

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم